واجبات وطنية لصناعة سينمائية

مهرجان الخليج السينمائي

«لمحة» لنايلة الخاجة
TT

لقطة أولى

* إذ تتتابع العروض السينمائية لمخرجين خليجيين من شتى الاتجاهات والمشارب والأساليب، يلحظ المرء أن السينمائيين يضعون الكثير من الثقة في المهرجان، ولو أن بعضهم لا يرى المستقبل من المنظور المتفائل ذاته. صحيح أن السينما الخليجية وسينما المنطقة بكاملها تشهد أعدادا متزايدة من الأعمال السينمائية، إلا أن الصحيح أيضا أن معوقات العمل ما زالت بدورها كبيرة. هذا يفسر عمليا السبب الذي من أجله نرى معظم الذين باشروا تحقيق أفلامهم في السنوات السابقة ما زالوا في إطار الفيلم القصير وحده، ولم يتخطوا بعد هذه المرحلة إلى ما يمثل طموح العمل على فيلم روائي.

التمويل لا يزال العائق الأول.. الذي سيصرف على الفيلم عادة ما يكون مستثمرا يريد، على الأقل، استرجاع كل ما دفعه في سبيل إنتاجه للفيلم الذي اختاره. نعم، قد يكون معجبا بأعمال المخرج السابقة، مؤيدا لخطواته ومحبا للعمل السينمائي في حد ذاته، لكن أبسط مبادئ الاستثمار هو أن يعوض المستثمر تكاليفه على الأقل. والوضع النموذجي هو أن يحقق منه أرباحا.

الوضع الحالي للسينما الخليجية لا يحقق ذلك. فيلم «ظل البحر» للإماراتي نواف الجناحي ربما كان استثنائيا من حيث أنه عُرض في أكثر من صالة في أكثر من عاصمة خليجية، لكنه فيلم من تمويل مؤسسة رسمية تقبل على نفسها تحمّل الخسارة، إذا ما حدثت، كونها في مرحلة بناء. لكن المنتج التابع لشركة صغيرة، أو شركة تجارية من أي حجم، يريد ضمانات لا يستطيع المخرج توفيرها.

المشكلة تكمن في قنوات توفير العائدات شبه معدومة. المحطات التلفزيونية ما زالت غارقة في عرض أفلام محض ترفيهية من خارج الدول الخليجية، عوض أن تهتم بسينما المنطقة مؤدية دورها الوطني في هذا الاتجاه.

المشكلة هي أنه ليست هناك خطة ولا منهج لتحريك الوضع القائم في هذا المجال ورفع مستواه، مما يساعد على توسيع رقعة الإنتاج وتشجيع عملية صنع الفيلم الروائي الطويل وبالتالي صناعة السينما نفسها. ليس هناك عيب في مبدأ الأفلام القصيرة، لكن الأفلام القصيرة وحدها لا تحقق صناعة ولا توفر للمستقبل وضعا اقتصاديا متينا. كذلك فإن الفيلم القصير يواجه المعضلات نفسها، فعدد الأفلام القصيرة التي تعرضها المحطات لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة طوال العام. المهرجانات تفعل فعلها في سبيل إنجاح الوضع السينمائي، لكنها لا تستطيع أن تفعل كل شيء. الوضع المثالي لكل هذا هو أن يجد التمويل حلا لأزمة العروض، وذلك لن يتم من دون وثوب التلفزيون إلى الميدان، إما بالإسهام في الإنتاج مما يجعله قادرا على توفير العروض، أو - على الأقل - الاكتفاء بشراء تلك الأفلام لعرضها. لكن التلفزيون وحده ليس أيضا كل الحل.

المشكلة ذاتها متأتية من موزعي الأفلام في الصالات. كلنا نعلم أن ولاء هؤلاء هو لصندوق التذاكر، وأنهم ليسوا جمعية خيرية، لكننا في الوقت ذاته، وبمنطقية ووعي، نعلم أيضا أنهم مشاركون أساسيون في صياغة المجتمع الذين يعيشون فيه، وعليهم تأسيس الثقافة السينمائية والإسهام في ترويج صناعتها المحلية، وهذا هو واجب وطني أول. وكل ذلك لا يتطلب سوى القبول بتخصيص أسابيع محددة كل سنة لعرض نتاج خليجي ما.

الأفلام القصيرة ذات الطموح الطويل

* سلسلة من الأفلام القصيرة بوشر بعرضها في إطار هذه الدورة تكشف، بطبيعة الحال، عن مستويات مختلفة بعضها من الجودة بحيث يحمل انعكاسا لموهبة في طور التبلور، وبعضها الآخر يحمل حسناته في نياته وليس في نتائجه.

* «إعجاب» هو فيلم مثير للإعجاب، أنجزه المخرج البحريني أحمد الفردان. إذ نتابع عبره حالة رجل طوى نفسه في صفحات الأيام من دون أن ينجز في حياته حتى الآن طموحا أو مرتبة، أو من دون أن يتخذ موقفا ما من أي شيء، وكيف أنه يجد نفسه في هوة فراغ قاتل بعدما طُرد من وظيفته. إنها حالة استسلامية تبعث على الاهتمام، ليس بسبب ذاتي، لكن بسبب تلك الاختيارات من اللقطات المعبرة عن وضع رجل لن نسمعه يتحدث عن نفسه أو يتكلم كثيرا.

* من المصري مصطفى زكريا، الذي يعمل ويعيش في الإمارات العربية المتحدة، فيلم مثير أيضا للاهتمام، سريع الصياغة وجيد التكوين فنيا إلى حد مقبول اسمه «الأركان»، العائدة إلى أركان الإسلام الخمسة. هناك عنوان لكل ركن (الشهادتان، الصلاة، الصوم، الزكاة، وحج البيت الحرام)، يليه فصل من أحداث تدور في مجملها حول رجل إماراتي يريد استعادة زوجته التي انفصلت عنه وأخذت تبحث لنفسها عن وظيفة تعتاش منها. وفيما هي تسعى للوظيفة، يسعى هو لفهم وضعه ومكمن الخطأ الذي ارتكبه في حياته الزوجية بحيث وصل الأمر به إلى هذا الحد. تصوير جيد وإخراج جيد وتمثيل جيد.. لكن ما علاقة أركان الإسلام الخمسة بهذا الموضوع؟

* فيلم إماراتي آخر يحمل عنوانا متصلا على نحو أفضل بموضوعه، هو «أفواه» لخالد علي. يصور لنا شخصا لا نعرف من هو، في بلد عربي ساحلي ليس مسمى يصطاد طيور النورس فيوقع بها ويقوم بربط مناقيدها بالشريط اللاصق (مما سيمنعها من إطلاق الأصوات أو حتى الطعام) قبل إطلاقها من جديد. لا نفهم سببه في ذلك، إلا أنه فيلم يحمل رمزا واضحا، فالمناقيد هي أفواه، والأفواه هي آراء، والآراء ممنوعة. مونتاج الفيلم من المخرج هاني الشيباني، الذي لديه فيلم منفصل في المسابقة، وهو يقتصد هنا في مشاهده ونقلاته ضمن المشهد مؤلفا إيقاعا مباشرا. المخرج يوفر مشاهد محددة وصارمة ولو أنها مقطوعة، دراميا بحيث لا يمكن لها أن تعكس قصة، بل حالة.

* فيلم إماراتي ثالث يعكس أيضا حالة لا تؤكد وجود أو غياب القدرة على نسيج درامي كامل. الفيلم هو «الدخيل!» لماجد الأنصاري، الذي كتبه وقام بمونتاجه واختيار موسيقاه أيضا. يدور الفيلم حول زوجين في سيارة ليلا. الزوجة الحامل تفقد الوعي لحين، وحين تستيقظ تجد زوجها يقترب من صحن فضائي يرسل إشارات. حين يتعامل الزوج معه يخرج روبوت (من المفترض أن يكون فضائيا) ويهاجمهما. الفيلم من داكن إلى أدكن، ومن فكرة تحمل خطا من الخيال العلمي المفترض به أن يؤدي إلى ما هو أهم، إلى فيلم يحاول أن «يرعب» مع موسيقى هادرة. النتيجة أقل مما يؤمل لها، وتنضم إلى مجموعة أفلام قصيرة هي عرض لفكرة وليست فكرة كاملة.

* «لمحة» فيلم إماراتي قصير جدا (دقيقتان)، وذكي جدا لنايلة الخاجة، حول فتاة في شقتها تلمح من نافذتها شابا واقفا في الباحة القريبة ينتظر، يثير اهتمامها، لكن حين تعود للنافذة لكي تواصل النظر إليه تجده يتحدث لفتاة أخرى. لا شيء أكثر من ذلك، لكن صياغة الفيلم محددة. ثراء إضاءته وتصويره (لزياد أوكس) وحالته المعبرة في لقطات قليلة هي عناصر جيدة لا غبار عليها. المخرجة نفسها من المستمرات في العمل منذ ثماني سنوات، وكانت فازت بجوائز عدة بينها واحدة عن فيلمها الجيد أيضا «أمل».

* في الفيلم السعودي القصير «عاطفة البيض» حالة مثيرة للفكاهة حول شقيقين أحدهما عاش يعتقد أن أكل البيض يمكن أن يخلق منه رجلا شجاعا. أخرجه وكتبه وقام بمونتاجه مصعب المري، وأوجد له كيانا غير مؤذٍ لكنه أخف من أن ينجز وضعا متقدما. أكثر ما قد يستطيع التعبير عنه هو الإيحاء بأنه لو أتيحت للمخرج فرصة تحقيق فيلم إماراتي كوميدي طويل، فإن لديه من حسن الخاطرة وطرافة الفكرة ما سيمكنه من إنجاز المهمة، لكن هل لديه القدرة على نسيج الفيلم الطويل؟ هذا ما لا يتنبأ به الفيلم هنا.

* فيلم كوميدي قصير آخر هذه المرة من الكويت أخرجه كل من مساعد خالد ومقداد الكوت، يحمل وعدا جيدا بدوره، عنوانه «فلان»، ويدور حول رجل فاضي الأشغال إلا من تلبية الدعوات والجلوس في الديوانيات والمقاهي والرد على الهاتف. أعتقد أن المخرجين كتبا سيناريو على بساطته صعب لناحية اختيار ما يعكس الفكرة في إطار زمني لا يتجاوز الثماني دقائق، لكنهما وفرا طرفة الوضع، ولو أنهما لم يعكسا أيضا شاغلا آخر غير ما هو مرتسم مباشرة على الشاشة. مساعد خالد هو أيضا الممثل (شبه الوحيد) مما يفسر تلقائيته وانسجامه مع العمل ككل.