دوام الليل .. سهر من أجل لقمة العيش

منسوبوه يقدمون الصحة مقابل الوظيفة

يدفع العاملون أثمانا باهظة من صحتهم مقابل البقاء على بساط الوظيفة («الشرق الأوسط»)
TT

خلص مختصون في السلوك الإنساني إلى أن للدوام الليلي آثارا سلبية عديدة على صحة الفرد، أبرزها عدم التركيز، وعدم الثقة في اتخاذ القرار، وعدم الاتزان الذهني، منبهين إلى أنه من الممكن أن تتطور هذه الأعراض إلى أمراض نفسية خطيرة، بينما ذهب رأي مختص في طب المخ والأعصاب إلى أن دوام الليل لفترات طويلة لا يؤثر على بنية الدماغ. ويأتي ذلك في الوقت الذي انتهت فيه دراسة صادرة عن المعهد الطبي البريطاني لسرطان الثدي، إلى أن الدوام الليلي الطويل يضر النساء أكثر من الرجال، وأنه يعرضهن لمخاطر الإصابة بسرطان الثدي في حال واصلن العمل بشكل يعاكس «ساعاتهن البيولوجية» لفترات طويلة، فضلا عن أنه يتسبب في إمكانية الإصابة بالنوع الثاني من داء السكري.

وعلى صعيد حياة العامة، يجسد الليل حالات الحب، والدفء، والاسترخاء، واجتماع الأسرة، إلا أن الكثيرين حرموا منها بدافع الحصول على لقمة العيش، وتلبية ما تفرضه متطلبات الحياة اليومية التي باتت تتطلب العمل على مدار اليوم والساعة، وهو ما جعلهم ندماء ليل من أجل لقمة العيش.

ولا شك في أن الدوام الليلي جاء ضريبة لـ«رتم» الحياة المتسارع التي بات يعيشها المرء، فوجدي منصور، 28 عاما، الذي يعمل موظفا بأحد القطاعات الحكومية، يعمل منذ ستة أعوام، بدوام المناوبات الليلية، وذلك عبر 3 مناوبات مختلفة خلال الأسبوع، حول دوامه الليلي قال «لعل أسوأ أمر في المناوبات الليلية هو تعطل ساعتي البيولوجية تماما، وأصبحت شخصا معزولا اجتماعيا». ويصف حالته بقوله «تقريبا أصبحت مجنونا، فلم أعد أعرف الفرق بين أيام الأسبوع، فكل وقتي صار دواما، ونوما فقط، مؤكدا أن الدوام الليلي هذا لم يكن من اختياره، وأن هذه الجدولة إجبارية، ولا يتم تغييرها»، إلا أنه لفت إلى أن من مميزات الدوام الليلي عدم وجود المديرين ومشرفي الأقسام، بحسب قوله. ويوافقه الرأي محمد الحربي، 25 عاما، وهو موظف بأحد القطاعات الخاصة، إلا أنه يضيف أن ضغط ومشاكل العمل في الليل تكون أخف عنها في الفترة الصباحية.

وبحسب مرام الصاعدي، التي تعمل ممرضة بأحد المستشفيات في جدة، فإن تقسيم المناوبات الليلية يخضع للمحسوبية، وعلاقة الموظفين بمديريهم المباشرين، «وهو ما يحرمنا من حقنا في الحصول على القسط اللازم من الراحة، كما أن الجدول يتم فرضه علينا، من دون مناقشة أو مراعاة لوضعنا الاجتماعي، وهو ما يزيد الأمر سوءا» وفق رأيها. وتختلف الطرق التي يتحايل بها الموظفون على الدوام الليلي باختلاف وظائفهم، ففي بعض المهن التي تتطلب السهر والتركيز كالتمريض، يلجأ العاملون إلى شرب كميات كبيرة من المنبهات، الشاي والقهوة، ومشروبات الطاقة، وذلك بحسب الصاعدي التي قالت «طبيعة عملنا تتطلب التركيز والغلطة فيها قد تودي بحياة أشخاص، لذلك عليّ أن أكون يقظة على مدار الساعة»، وتضيف «بعض سائقي سيارات الإسعاف، وحراس الأمن يلجأون إلى التدخين بشراهة كنوع من التنبيه حتى لا يخلدوا إلى النوم». وهنا حدد الدكتور عادل عبد العزيز استشاري السلوك الإنساني، لـ«الشرق الأوسط»، أبرز الآثار الإنسانية السلبية لهذا النوع من الدوام، في أنه يقطع الإنسان تماما من جميع مناحي الحياة، ولا سيما أن العلاقات الاجتماعية تكون في الفترة المسائية باختلاف أنواعها ومستوياتها، إلى جانب أن الضغوطات التي بدأ يتحملها الموظف الليلي في حالة إن كان مديره ثبته في هذا الدوام بدأت تزدات حدتها، وتأثر سلبا عليه وعلى مجتمعه، كما تؤثر عليه على الصعيد المهني، فالموظف أثناء دوامه الليلي ينقطع عن الدورات التطويرية تماما. وعلى الصعيد النفسي، يوضح أن الشخص سوف يعاني من اضطرابات النوم التي يترتب عليها عدم التركيز، وعدم الثقة في اتخاذ أي قرار، وعدم الاتزان الذهني، ومن الممكن أن تتطور هذه الأعراض إلى أمراض نفسية خطيرة. وفي ذات السياق، ذهب الدكتور مصطفى الصيام استشاري المخ والأعصاب والخبير بأمراض النوم، إلى أن «الدوام الليلي إذا كان يتقاطع مع دوام آخر في النهار فغالبا سيؤدي إلى تغير طبيعة النوم عند الموظف الليلي، ومن ثم يكون المردود على صحة الإنسان من النوم بشكل سلبي أو يكون المردود أقل من النوم الطبيعي»، موضحا أن ساعة النوم من الليل تعادل بالنسبة لراحة الجسم 3 ساعات نوم من النهار.

وأفصح عن «عدم وجود دراسات أو أبحاث تثبت وجود آثار سلبية تخص بنية الدماغ بسبب الدوام الليلي سواء على المدى البعيد أو القصير»، لكنه أقر في الوقت نفسه بوجود آثار وصفها بأنها «محصورة في موضوع القدرات الشخصية عند الإنسان مثل التركيز، وقلة الإنتاجية في العمل، وتشتت الأفكار، وضعف الذاكرة». يشار إلى أن المعهد البريطاني الطبي لسرطان الثدي أصدر مؤخرا تقريرا شاملا حصر فيه العديد من العوامل البيئية التي تكون سببا في الإصابة بالعديد من الأمراض، وعلى رأسها نظام الدوام الليلي، أو الدوام التناوبي.