مدريد تطالب بروكسل بتأسيس سلطة مالية أوروبية

تفاؤل بعد التصويت الإيجابي الآيرلندي

TT

بعد ساعات من تصويت إيجابي من جانب الآيرلنديين على المعاهدة المالية الأوروبية، طلبت مدريد من دول الاتحاد الأوروبي العمل من أجل تأسيس سلطة مالية لدول منطقة اليورو، التي تتعامل بالعملة الموحدة، ويأتي ذلك في وقت يستعد فيه البرلمان الأوروبي ومن خلال لجنة الشؤون النقدية والاقتصادية لإجراء نقاشات بحضور عدد من المسؤولين في المؤسسات الاتحادية خلال الأسبوع الحالي، حول تقييم السياسات المالية والاقتصادية، والموازنات الأوروبية، وأيضا دور وكالات التصنيف الائتماني وغيرها. وحسب ما أعلنت المؤسسة التشريعية الأعلى في الاتحاد الأوروبي ببروكسل، «فلا بد من تأسيس سلطة مالية لدول منطقة اليورو بهدف ضبط الموازنات المالية والقروض». جاء ذلك على لسان رئيس الوزراء الإسباني ماريانو راخوي الذي أكد أن بلاده ستخرج من أزمتها المالية الحالية بفضل جهودها الخاصة وبمساعدة شركائها الأوروبيين، على حد قوله: «من خلال تأسيس سلطة مالية أوروبية لدول اليورو، سيتم التحكم في السياسة المالية، تتوافق والسياسة النقدية لمختلف الدول الأعضاء، وتهدف إلى تمكين السياسة المركزية المالية العامة» وشهدت إسبانيا قبل عدة أيام تدهورا حادا في البورصة وصل إلى أدنى مستوى منذ عام 2003.

وتعاني إسبانيا من ضائقة مالية جعلتها تشكل مصدر قلق لبقية دول الاتحاد الأوروبي، ولكن كيف تتجسد عملية الإنقاذ الأوروبية؟ وهل يمكن القول إن معاهدة الاستقرار المالية الأوروبية قادرة على إنقاذ بلد بحجم إسبانيا؟ يقول الصحافي والخبير الاقتصادي الإسباني خوسيب ماريا أوريتا: «من بين كل الخطوات التي قامت بها إسبانيا العام الماضي، يجب ذكر الرسالة التي وجهها رئيس البنك المركزي الأوروبي جان كلود تريشه، إلى رئيسي حكومتي إسبانيا وإيطاليا في 5 أغسطس (آب) 2011 سيلفيو برلسكوني، وخوسيه لويس ثاباتيرو، وهما اليوم ليسا في السلطة». وفي هذه الرسالة، التي وقع عليها كل من حاكم مصرف إيطاليا ماريو دراغي، وميغيل آنخيل فرنانديز أوردونيز، الذي استقال مؤخرا، قبل شهر من تسريحه، تم استعراض التدابير التي يتوجب على الحكومة الإسبانية اتخاذها للحصول على المساعدة الأوروبية. كل هذه المراحل لا يمكن أن تتضح إذا لم نعلم أنه في نهاية السياق، أي في بداية شهر يوليو (تموز)، يجري تفعيل معاهدة الاستقرار المالية الأوروبية التي من المحتمل جدا أن تلجأ إليها إسبانيا. وهي تتخذ القرار بالقيام بذلك بنفسها، وإن كانت لا تريد ذلك، فبروكسل والسلطات الأوروبية، ستقترح عليها ذلك. و«مبارزة القوة ستكلفنا شهرا ونصف الشهر من المصاعب والتوتر في الأسواق».

من جهة أخرى، الآيرلنديون صوتوا بـ«نعم» على معاهدة الاستقرار المالي الأوروبية. استفتاء كان الثالث في غضون 4 أعوام، في هذا البلد الصغير الذي هو بين الأعضاء المؤسسين للاتحاد الأوروبي.

تقدم نموذج التلميذ المجتهد بين الدول الأوروبية التي تجتاز أزمة الديون باتباع سياسة تقشف صارمة، بحسب العديد من المراقبين. فالأنظار كانت مسلطة على دبلن، التي استفادت من خطة إنقاذ من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي. ويتعين عليها توفير مبلغ 4.2 مليار يورو هذا العام لتسديد التزاماتها نحوهما. فالمساعدة التي تلقتها نهاية عام 2010 تستحق في نهاية عام 2013. وتعتزم معها دبلن العودة إلى الأسواق المالية، يشجعها على ذلك بعض المؤشرات الإيجابية مثل نمو الإيداعات في مصارفها. لكن فوائد ديونها على الأجل القريب تشهد ارتفاعا ضخما ما قد يضعها أمام احتمال اللجوء إلى خطة إنقاذ ثانية. وتقول ميغان غريني، المحللة المالية لدى «روبيني غلوبال إيكونوميكس»، إن آيرلندا ستحتاج لإعادة النظر في موقعها في أوروبا على ضوء احتمالات خروج بعض البلدان من منطقة اليورو، ونمو الاقتصاد الآيرلندي يعتمد على الشركات الكبرى التي تتخذ من دبلن موقعا لمراكزها الأوروبية. ورغم تدابير التقشف، فإن الاقتصاد الآيرلندي استطاع تحقيق نمو خفيف عام 2011؛ فالمؤسسات تواصل شراء السلع والخدمات، لكن صادراتها سجلت تراجعا في الفصل الأول من عام 2012. والدين الآيرلندي من بين الأعلى في أوروبا؛ حيث بلغ 116 في المائة من الناتج المحلي الخام، مما يضع نسبة العجز عند عتبة 8.3 في المائة لهذا العام. أما نسبة النمو، فبقيت عند 0.5 في المائة من الناتج المحلي الخام، ونسبة البطالة عند 14 في المائة، مما يدعم موقف المعارضين للمعاهدة الذين يعتبرون أن تدابير التقشف لم تؤد إلى نتيجة. لكن معارضي المعاهدة لم ينجحوا في إقناع غالبية الآيرلنديين، الذين اعتبروا أن بلادهم ستجد صعوبة في إيجاد التمويل خارج آلية الاستقرار المالي الأوروبية، رغم سأمهم من سياسة التقشف.

من جانبها، أكدت رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي أن التكتل الأوروبي الموحد على استعداد لاتخاذ قرارات مشتركة في قمة الشهر الحالي الاعتيادية في بروكسل، وذلك عقب مناقشة الدعائم الأساسية لاستراتيجية النمو التي تعرف باستراتيجية 2020، وقال هرمان فان رومبوي رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي في ختام القمة الاستثنائية الأخيرة الشهر الماضي، إن استراتيجية النمو تعتمد على ثلاث ركائز أساسية؛ أولا، الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى حشد السياسات لتقديم الدعم الكامل للنمو، وثانيا ضرورة تكثيف الجهود لتمويل الاقتصاد من خلال الاستثمارات، وثالثا تعزيز خلق فرص العمل. وأضاف المسؤول الأوروبي أن النقاش حول رفض خفض العجز وتحقيق النمو هو نقاش زائف، لأنهما وجهان لعملة واحدة، لأنه من دون المالية العامة السليمة لا يمكن تحقيق نمو مستدام.

من جهته، وعلى هامش القمة الأخيرة، اعترف الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بوجود اختلاف في وجهات النظر بينه وبين المستشارة الألمانية، بشأن إصدار سندات مشتركة لمنطقة اليورو. وقال الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند: «أحترم وجهة نظر ميركل عندما قالت إن السندات الأوروبية ليست أداة للنمو، لكنها، في المقابل، قد تكون أداة تسمح بالنمو في ظل ظروف محددة، وبالتالي قد يستمر هذا الجدل». هولاند طلب أيضا إدراج شفافية سندات منطقة اليورو على جدول أعمال الاتحاد الأوروبي لعرضها في القمة المقبلة. وبحسب العديد من المراقبين، فإن القمة الاستثنائية الأخيرة شهدت خلافات كثيرة متعلقة بموضوعات كبيرة، وأن الجدل ستزداد حدته خلال الأسابيع المقبلة. وفي تصريحات له عقب انتهاء أعمال القمة الاستثنائية، أوضح فان رومبوي النقاط الثلاث التي ترتكز عليها استراتيجية النمو قائلا: «نحن بحاجة إلى حشد سياسات الاتحاد الأوروبي لدعم النمو بشكل كامل، ولذلك، فإننا ندعو البرلمان والمجلس الأوروبي، إلى إحراز تقدم سريع في إنجاز المقترحات التشريعية مثل قانون السوق الواحدة، وكفاءة استخدام الطاقة، وبراءة الاختراع الأوروبية، وتوجيه الخدمات، وجدول الأعمال الرقمي، كما ينبغي للمفوضية والمجلس السعي لتحقيق تنمية العمل لاستخدام أفضل للتجارة الدولية بوصفها محركا للنمو، فهناك العديد من الاتفاقات التجارية الرئيسية الجارية التي من شأنها أن تعود بالنفع على الاقتصاد الأوروبي». وفي ما يتعلق بالركيزة الثانية، أوضح بالقول إن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى تكثيف الجهود من أجل تمويل الاقتصاد من خلال الاستثمارات، وحصول أفضل للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة على الائتمان.

، ولكن لا بد للإصلاحات أن تسير جنبا إلى جنب الاستثمار، وعلى المجلس الأوروبي وبنك الاستثمار الأوروبي النظر في إمكانية زيادة رأس المال المخصص لتمويل مختلف المشروعات في اتحاد التكتل الأوروبي الموحد، والوصول إلى تصور نهائي في هذا الصدد بحلول شهر يونيو (حزيران) المقبل. ولمح فان رومبوي إلى ضرورة مواصلة العمل والمناقشات في المجلس الأوروبي حول فرض ضريبة على المعاملات المالية وكذلك مسألة التأخر في السداد، وأشار إلى أن قادة الاتحاد سيبحثون في يونيو المقبل الإطار المالي متعدد السنوات في النمو.

وحول الركيزة الثالثة التي تتعلق بخلق فرص العمل، قال إنه لا بد من الاستثمار في المهارات والتدريب من أجل تعزيز الانتعاش في خلق الوظائف، وضرورة وضع خطط عمل وطنية مع التأكيد على اتخاذ إجراءات لدعم الطلب على العمالة وخلق فرص العمل، وتحقيق أفضل استخدام للسياسات الوطنية والأوروبية لتحفيز الصناديق المخصصة لمكافحة البطالة بين الشباب، ودعم العمال المتنقلين على نحو أفضل، وكذلك في ما يتعلق بحقوق التقاعد. وحسب رومبوي، شهدت القمة الاستثنائية مناقشات معمقة حول آخر التطورات في منطقة اليورو، وأكد الجميع على الالتزام بالحفاظ على الاستقرار المالي، ولا بد من مرحلة جديدة في الاتحاد النقدي الاقتصادي، وتطرق القادة إلى ملفات أخرى مثل سندات اليورو، والرقابة المصرفية، والتأمين على الودائع.