التشدد الديني يغير ملامح تمبكتو المتسامحة

إجبار النساء على ارتداء النقاب.. ومنع الموسيقى.. وكثيرون فروا إلى دول الجوار

رجل يقيم في مخيم بجنوب موريتانيا بعدما فر من مدينة تمبكتو في شمال مالي (رويترز)
TT

بعد أن عزلتها الصحراء القاحلة المحيطة بها على مدار قرون، تجد تمبكتو الآن أن عزلتها عن بقية أجزاء العالم قد زادت. فقد فرض الثوار الذين استولوا على المدينة الواقعة شمال مالي في أبريل (نيسان) الماضي نوعا من الحكم الديني المتشدد، مما دفع الكثير من سكانها إلى الفرار خوفا وتسبب في تغيير معالم منطقة كان يميزها التسامح وتنعم براحة البال وكانت تجذب السياح من شتى بقاع العالم.

باتت النسوة الآن يُجبرن على ارتداء النقاب، كما تم منع الموسيقى من الإذاعة. وبدأ يتم انتزاع السجائر من أفواه المارة في الشوارع. ويشهد منظر المدينة القديمة، التي بها مبانٍ مبنية من الطوب اللبن، تغييرا. طمست معالم أثر تاريخي يعود إلى قرون مضت، كما تم هدم الحانات، وعلقت الأعلام السوداء حول المدينة احتفاء بجماعة «أنصار الدين»، وهي الحركة المتشددة التي نشأت في الصحراء وقلبت الحياة رأسا على عقب.

«لا توجد حرية»، هذا ما قاله عبد الله أحمد، وهو ترزي فرّ من تمبكتو وأتى إلى عاصمة مالي الأسبوع الماضي. وأضاف أن ثوار الجماعة الدينية المتشددة «يقومون بنشر أسلحتهم بشكل مستمر. وهذا يفزع الناس. لقد أضحت المدينة مشؤومة».

ويقال إن الموقف مقلق على وجه الخصوص بالنسبة للنساء في تمبكتو. وقالت عائشة خليل، وهي ناشطة مدنية معروفة ما زالت تعيش في تمبكتو: «النساء يعشن في حالة من الخوف المروّع. إنهم يرغبون في تعميم النقاب في كل مكان، وهم منتشرون في كل مكان ومعهم أسلحتهم». وتم الوصول إلى عائشة عبر خط اتصال هاتفي مشوش من تمبكتو، التي تقع على بعد نحو 440 ميلا شمال شرقي باماكو، على أطراف الصحراء. وكانت تمبكتو تضم نحو 50,000 نسمة، لكنها شهدت موجة كبيرة من الهجرة الجماعية منذ انتقال الثوار إليها.

أصبحت منطقة شمال مالي، التي تساوي مساحتها مساحة فرنسا، تحت سيطرة ائتلاف فضفاض من الإسلاميين وثوار الطوارق منذ أواخر مارس (آذار)، حين انهارت مقاومة جيش مالي بعد انقلاب صغار ضباط الجيش في العاصمة. وعلى الرغم من ذلك فإنه منذ استحواذهم على السلطة أصبح لإسلاميي جماعة «أنصار الدين»، المدعومين من تنظيم القاعدة، اليد الطولى على الطوارق، وهم يروجون بشكل عنيف لمفهومهم الخاص بالشريعة.

لقد حلت لوحات الإعلانات السوداء محل الإعلانات العادية، بحسب سكان. وتم العثور على شخصيات بارزة في الفرع الإقليمي التابع لتنظيم القاعدة، المعروف باسم «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي». وتم اختطاف مبعوثة سويسرية كانت من بين آخر مواطني الدول الغربية في تمبكتو في أبريل على أيدي رجال مسلحين قيل إنهم كانوا يعملون بموجب أوامر من فرع تنظيم القاعدة الإقليمي، غير أنه تم إطلاق سراحها لاحقا، بعد مفاوضات.

لا تعد المنطقة آمنة بالنسبة لمواطني الدول الغربية، كما أن الصحافيين الغربيين لم يعودوا يتوجهون إليها منذ استحواذ الإسلاميين على السلطة. وقد حصل فرع تنظيم القاعدة على عشرات الملايين من الدولارات في صورة فدية من الحكومات الغربية خلال العقد الماضي، لكنه ما زال يحتجز اثنتي عشرة رهينة في الصحراء، بحسب أفراد ملمين بمعلومات عن المنطقة. وقالت خليل إنه عندما يقابل أعضاء الحركة الدينية المتشددة فتيات شابات يجبرونهن على الزواج على الفور.

وقال ألفا سان حيدر، وهو مزارع تربطه صلات وطيدة بأشخاص من المنطقة: «لقد دفعوا السكان إلى الفرار من خلال ما يقومون به من أعمال ترويعية. لقد شاهدتهم يضربون الشباب الذين يشاهدون البرامج التلفزيونية في الشوارع».

تتنوع القيود ما بين بسيطة وخطيرة، ففي مدينة غاو شمال مالي قام أتباع جماعة «أنصار الدين» بقطع أذن امرأة بسبب ارتدائها تنورة قصيرة، كما جلدوا رجالا يشربون الكحوليات، حسبما أفادت منظمة «هيومان رايتس ووتش». وقال ماهامان أليدجي توريه، وهو مدرس تاريخ بإحدى المدارس البارزة في تمبكتو، في حوار هاتفي: «لقد أجبروهم على ارتداء سراويل لا يصل طولها إلى الكاحل. إذا وجدوا شخصا يدخن سيجارة يقتادونه على الفور إلى الشرطة الإسلامية».

وأدان متحدث باسم جماعة «أنصار الدين» في تمبكتو بغضب الصورة التي رسمها السكان عنهم، وقال إنه إذا كان الناس يغادرون المدينة فإن ذلك يرجع إلى خوفهم من أن تقصف الولايات المتحدة الإسلاميين الذين يسيطرون عليها الآن.

وقال المتحدث باسم الحركة، ساندا ولد بومانا، في حديث هاتفي: «لدينا ذكريات سيئة عنكم بسبب الفلوجة وأفغانستان. لستم في وضع جيد يسمح لكم بالحديث عن الحرية، في الوقت الذي نشاهد فيه ما يحدث في غوانتانامو والعراق وفلسطين». وأضاف بومانا: «حينما تسلم بحقيقة أن هناك إسلاما فعليك تقبل حقيقة أن هناك شريعة. إذا كانت الشريعة تلزمنا بجعل النساء يرتدين النقاب فنحن ملزمون بالامتثال لها. لم نقُم باختيارك كقاضٍ». وتابع بومانا: «إن أفراد تنظيم القاعدة إخوتنا في الإسلام». وحتى منذ الانقلاب كانت مالي، الدولة التي تضم 14 مليون شخص منذ أن اعتبرت مؤخرا نموذجا ديمقراطيا في أفريقيا، في حالة من الفوضى الإدارية، من خلال فراغ سلطة في الجنوب ودولة انفصالية في طور التشكل في الشمال. وقبل أسبوعين وعد زعيم الانقلابيين، الكابتن أمادو سانوغو، بالتنحي بعد أن أغراه اتفاق مربح توسطت فيه المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإيكواس)، غير أن حالة الفوضى السائدة في العاصمة قد تجلت قبل أسبوعين، عندما تعرض الرئيس الانتقالي ديونكوندا تراوري للضرب المبرح على أيدي نشطاء مؤيدين للحكم العسكري. وتم نقله إلى باريس لتلقي العلاج، ولم يعد.

وفي تقرير صادر مؤخرا عن منظمة «هيومان رايتس ووتش»، أبرزت عددا كبيرا من جرائم الاغتصاب وغيرها من الانتهاكات الأخرى التي ارتكبت بشكل مباشر في أعقاب استحواذ الطوارق على السلطة، من قبل رجال مسلحين يتحدثون بلغة الطوارق ويقودون سيارات عليها علم حركة ثوار الطوارق أو «الحركة الوطنية لتحرير أزواد». ومن بين القصص المفجعة قصة فتاة عمرها 14 عاما في غاو روت أنه قد تم اختطافها من منزلها وتناوبت مجموعة من ثوار الحركة الوطنية لتحرير أزواد الاعتداء عليها. وعلى الرغم من أن «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» ما زالت موجودة في المدن الشمالية الرئيسية، تمبكتو وغاو وكيدال – فضلا عن أنها قامت بسرقة كل ما في المكاتب السابقة التابعة لحكومة مالي في تمبكتو، بما في ذلك أجهزة التكييف، بحسب سكان – فإن جماعة «أنصار الدين»، التي يقودها قائد عسكري سابق من الطوارق يدعى إياد آغ غالي، هي التي تروج بشكل عنيف لمفهومها الخاص عن الشريعة وتستأثر بالقدر الأكبر من السلطة.

وقال بومانا، المتحدث باسم جماعة «أنصار الدين»، إن الإسلاميين «يتفاوضون» الآن مع «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» بشأن تقاسم السلطة، وإن جماعة «أنصار الدين» لم ترفض فكرة الحركة الثورية عن قيام دولة مستقلة في شمال مالي، التي تشير إليها باسم أزواد، «ما دام هناك تطبيق كامل للشريعة».

لكنه ما لبث أن نبذ فكرة أن جماعة «أنصار الدين» قد تنسحب أو تتخلى عن سيطرتها على تمبكتو. وقال بومانا: «ليس شغلنا الشاغل هو أن تتقبلنا الدول الأخرى». وفي أي حدث، لا يكون هناك أي تهديد عسكري لسيادة ثوار الشمال.

إن جيش مالي، الذي أصبح ضعيفا وممزقا بعد الانقلاب العسكري، ليس في وضع يخول له محاربة الثوار وجماعة «أنصار الدين»، حسبما أشار دبلوماسيون في العاصمة. وذكرت الأمم المتحدة أن أكثر من 160,000 مالي قد فروا إلى دول الجوار، موريتانيا وبوركينا فاسو والنيجر، في الوقت الذي يعيش فيه كثيرون في معسكرات اللاجئين، وأن هناك أكثر من 140,000 شخص مشرد في مالي نفسها.

وفي الوقت نفسه يصف بعض السكان تمبكتو بأنها أصبحت أشبه بمدينة أشباح. فقد أغلقت معظم المتاجر أبوابها، وبدت الشوارع مهجورة. ومع إغلاق المصارف أيضا تنفد الأموال المتاحة. كما تفرقت التجمعات المسائية التقليدية التي اعتاد فيها الشباب احتساء الشاي والحديث على عتبات الأبواب. كان حيدر المزارع الذي تمت مقابلته في مقهى في باماكو يستعد ليعود أدراجه إلى تمبكتو قائلا: «إنها مدينتي وهذه أرضي».

* خدمة «نيويورك تايمز»