مذبحة الحولة تحيي في الأذهان ذكريات سريبرينيتسا

المجزرة أثارت كما هائلا من الغضب الأخلاقي.. لكنها لم تخلق إجماعا واضحا على عقوبة المجرمين

مواطنون من مدينة الحولة اتخذوا مدرسة مأوى لهم عقب تدمير منازلهم (أ.ف.ب)
TT

حينما رأى أمير سولاغيتش على شاشة التلفزيون مشاهد الأسر المكلومة والمنازل المحترقة في بلدة الحولة السورية، شعر بأن الماضي الأليم يتحرك كشريط سينمائي أمام عينيه.

يقول سولاغيتش (37 عاما)، الذي كان أحد الناجين من مذبحة سريبرينيتسا، ملقيا باللوم على الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية الأخرى في عدم التحرك في التوقيت المناسب لمنع أسوأ مذبحة شهدتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية: «من المثير للدهشة كيف أصبحت عبارة: (لن يحدث مرة أخرى) تعني: (سيحدث مرة بعد مرة). من الواضح أننا نعيش في عالم ما زالت مذابح سريبرينيتسا ممكنة الحدوث فيه. ما يحدث في سوريا اليوم مطابق تقريبا لما حدث في البوسنة منذ عقدين».

ويتفق معه الصحافي البوسني سريكو لاتال في أنه توجد أوجه تشابه بين سوريا والبوسنة، إلا أنه تستوقفه أيضا أوجه الاختلاف. وهو يحاذر من الحديث عن «لحظة سريبرينيتسا» في السياسة الأميركية تجاه سوريا، بمعنى أن تبلغ الأزمة الإنسانية هناك درجة كبيرة ومحرجة بما يكفي لإجبار الولايات المتحدة على اتخاذ رد فعل حاسم، كما حدث في البوسنة في صيف عام 1995، إثر ذبح أكثر من 8 آلاف مسلم من الرجال والأطفال على يد قوات صرب البوسنة.

ويقول لاتال، الذي عاش فترة الحصار على سراييفو لمدة 3 أعوام ونصف: «لا توجد حلول بسيطة. لا يمكنك نسخ حل تم استخدامه في البوسنة وتطبيقه على أي مكان آخر».

وتلخص وجهتا النظر المتناقضتان لاثنين من الناجين من أول صراع كبير في فترة ما بعد الحرب الباردة، الخطوط العريضة للجدل الدائر بشأن السياسة الخارجية الذي يثيره العنف المتصاعد في سوريا، فقد أثارت المشاهد المروعة التي تعرضها شاشات التلفزيون التي بلغت ذروتها مع صور عشرات الأطفال الصغار الملفوفين بالأكفان في الحولة، قدرا هائلا من الغضب الأخلاقي، لكنها لم تؤد إلى خلق أي إجماع واضح على ما ينبغي فعله من أجل معاقبة وقمع من ارتكبوا تلك الجرائم.

وبعد أسابيع معدودة من إعلان مبادرة «منع القتل الجماعي» على مستوى الحكومة الأميركية، وجد الرئيس أوباما نفسه في وضع غير مريح، من خلال تشبيهه بشكل سلبي بسلفه الديمقراطي بيل كلينتون الذي تعرض لانتقادات واسعة بسبب رد فعله المتأخر في البوسنة.

وقد كان كلينتون يحاول إبقاء الولايات المتحدة بعيدا عن قضية البوسنة المعقدة، حتى اضطر مكرها إلى التحرك أمام جرائم قتل السجناء المسلمين في سريبرينيتسا والقصف المتواصل لسراييفو.

ويقول سولاغيتش: «قل ما تشاء عن كلينتون، لكنه في النهاية أرسل صواريخ توماهوك وكروز. أما الحشد الحالي فهو مشغول بكتابة المذكرات الدبلوماسية».

لكن معلقين آخرين يشيرون إلى أن العنف في سوريا لم يصل بعد إلى المستوى الذي كان موجودا في البوسنة، وأنه أقل بكثير من رواندا التي قتل فيها ما يقرب من 500 ألف من قبائل التوتسي في 100 يوم فقط عام 1994، في موجة من القتل الجماعي تمت تحت رعاية الدولة، بينما تشير تقديرات مستقلة إلى أن قوات أمن النظام السوري قتلت نحو 10 آلاف سوري خلال العام الماضي.

ويقول مورت أبراموفيتز، وهو دبلوماسي أميركي متقاعد قاد حملة شعبية للمطالبة بتدخل أميركي في البلقان: «هناك فوارق كبيرة بين البوسنة وسوريا. في البوسنة، كان لديك ثلاثة أعوام من الحرب والتطهير العرقي المكثف و100 ألف قتيل. كان صراعا يشمل أوروبيين، وليس عربا. صحيح أن الإدارة الأميركية تشعر بالحرج من مقتل المئات أو نحو ذلك من الأطفال، لكنها لن تفعل أي شيء إلا إذا زاد العنف عن ذلك بكثير».

ولكن رغم اختلاف حجم العنف، فإن هناك أوجه تشابه بين الطرق التي يستخدمها الأسد وتلك التي استخدمها نظيراه الصربيان، سلوبودان ميلوسيفيتش ورادوفان كاراديتش، تكفي لإحداث حالة من الانزعاج العميق لدى الكثيرين ممن عايشوا الحرب في البوسنة.

ويقول سولاغيتش، الذي كان يعمل مترجما لدى الأمم المتحدة أثناء الحرب: «ألق نظرة على ما تفعله قوات النظام السوري وما حدث في البوسنة عام 1992. محاصرة الجيش للقرى، وقصف منازل المدنيين، وتفريق الرجال عن النساء، واغتصاب النساء، وقتل الرجال. هذا خارج كتاب نصوص كاراديتش وميلوسيفيتش تماما».

ومن الفوارق الكبيرة بين سوريا والبوسنة تأثير الإنترنت والإعلام الاجتماعي، الذي يساعد بصورة شبه فورية على انتشار الصور المروعة الآتية من قرى منعزلة مثل الحولة. وعلى النقيض، في شهر يوليو (تموز) عام 1995، استغرق الأمر أسابيع لتكوين صورة كاملة عن الفظائع التي ارتكبت في مذبحة سريبرينيتسا، رغم وجود كتيبة ضخمة من الصحافة الدولية في سراييفو، كانت من بينها باور نفسها.

وقد أسهمت إدارة الرئيس أوباما في انتشار المعلومات المتعلقة بالفظائع السورية من خلال نشر الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية لوحدات الجيش السوري وهي تتحرك قبالة البلدات والقرى التي يسيطر عليها الجيش السوري الحر وهو ائتلاف غير محكم التنظيم من القوات المناوئة لبشار الأسد. صحيح أن إدارة الرئيس كلينتون قامت في النهاية بنشر صور مماثلة لجرائم سريبرينيتسا، لكن ذلك لم يحدث إلا بعد جدل داخلي متألم مما يراه.

وقد حقق التدخل العسكري الذي قادته الولايات المتحدة في البوسنة نجاحا متفاوتا، حيث وضع، من ناحية، نهاية متأخرة لحرب شرسة دامت 3 سنوات ونصف، إلا أنه، من الناحية الأخرى، لم يحل سوى القليل جدا من المشكلات الأساسية في البوسنة، وصارت الانقسامات التي تعاني منها البلاد اليوم أعمق من أي وقت مضى؛ عرقيا ودينيا وسياسيا.

ويقول لاتال، الصحافي البوسني السابق الذي يعمل حاليا محللا في مركز دراسات «مجموعة الأزمات الدولية» في واشنطن: «أحد الدروس التي أستخلصها من تجربة البوسنة أن المجتمع الدولي ينبغي أن لا يحاول أن ينشئ بلدانا أو نظما ديمقراطية لأن هذا لا يفلح. إنه لم يفلح في البوسنة، ولم يفلح في العراق أو أفغانستان».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»