«كل آخر نفس».. تنطلق من لبنان إلى أنحاء العالم

تجربة تجمع بين الرفاه الأوروبي والألم العربي

مشاهد من عرض «كل آخر نفس» الدنماركي في «مركز العزم الثقافي» (تصوير: سدير عبد الهادي)
TT

من مسرح إلى آخر، ومن بلد إلى بلد، يجوب المخرج الدنماركي ينس بيريغارد، بعمله الجديد «كل آخر نفس»، جامعا راقصين من لبنان ومصر وفلسطين، ليقدم للعالم صورة أخرى عن العرب، نابعة من واقعهم المأزوم بمشكلات سياسية واجتماعية ضاغطة، بعيدا عن الصورة النمطية العنيفة المعروفة عنهم أوروبيا.

في الأول من شهر مايو (أيار) الماضي، اجتمع الراقصون الأربعة في بيروت وبدأت التمرينات على قدم وساق. يقول المخرج «حاولت أن أفهم شخصية كل منهم، وأن أقدم البورتريه الخاص به وفقا لرؤيتي لكل شخصية»، ويضيف «لا أدري إذا كنت قد وفقت، لكن هكذا رأيتهم، وتركت لهم هامشا يظهرون من خلاله خصوصية كل منهم».

قبل العروض الأوروبية والأميركية قرر المخرج ينس بيريغارد أن يختبر العمل بجولة لبنانية في بيروت والمناطق، في ما يشبه قياس درجة حرارة أوليا لتفاعل الجمهور مع العمل. فبعد حفلات في بيروت على «مسرح مونو» وعرض في زحلة وآخر في سجن بعبدا للنساء حط العرض المعاصر الراقص، في طرابلس، في «مركز العزم الثقافي»، وكأنما هؤلاء الفنانون أرادوا لصوت الإبداع أن يعلو على صوت الرصاص والقنابل الذي باتت طرابلس تعيش على إيقاعاته بين الحين والآخر.

الخيار كان موفقا، حيث تم تجهيز الباحة الداخلية المفتوحة لمركز العزم الحجري الجميل بالإضاءة والمعدات اللازمة، وتحلق المتفرجون حول الراقصين، يكتشفون معنى الرقص المعاصر الذي نادرا ما يصل إلى خارج بيروت.

جاء الراقصون الأربعة ليقفوا صفا واحدا أمام الجمهور، تاركين لأجسادهم بعد ذلك حرية الحركة فرادى، أو بشكل ثنائي، وكذلك ثلاثي ورباعي. لا يحب المخرج أن يشرح لأحد معنى هذه الحركات التي تبدو صراعا في بعض الأحيان، ومصالحات حميمية في أحيان أخرى. فهو يفضل أن يترك للجمهور حرية تفسير هذه التعابير الجسدية التي تبدو كلوحة تجريدية يصعب فك مغاليقها. ثمة عنف ما على وجه الراقصين أحيانا، أو لعله حزن عميق يرافقهم، وسماحة أخرى أو لامبالاة في أحيان أخرى.

يفتقد عرض «كل آخر نفس» للفرح، وإن كان ينعش القلب أحيانا لمهارة الراقصين في تأدية بعض اللوحات. على وقع موسيقى بيانو باخ، أو أغنية شهيرة لبوب ديلن من توزيع زيد حمدان أدى الراقصون أدوارهم، والأجمل هو التوالي بين نغمات وكلمات شرقية صوفية مع أغنية ديلن في مزج شرقي غربي بديع. لكن الموسيقى التي تحتل الحيز الأكبر هي تلك التي تنبجس من الصمت التام حيث يترك المجال لأنفاس الراقصين لتصبح هي الإيقاع الوحيد الذي يمكن سماعه.

يريد بيريغارد أن يصغي مثلنا إلى صوت راقصيه، هو القادم من الدنمارك إلى لبنان منذ عدة سنوات ليشارك عام 2009 في مهرجان الرقص المعاصر الذي يقام سنويا، ثم شارك تطوعا في تدريب راقصين في بيروت. وها هو يعود صاحب أول مركز بحث كوريغرافي في الدنمارك، من أجل مشروع جديد، يمزج بين كوريغرافيا أوروبية عصرية وتطلعات هؤلاء الخارجين من ثورات وحروب وأزمات لا تنتهي.

تشرح جوليان عرب المساعدة الفنية للمخرج، لـ«الشرق الوسط»، أن «هذا المشروع هو جزء من سلسلة قادت الرجل إلى الكاميرون حيث سجل فيلما فيه رقص تم تصويره في أماكن متباينة للغاية، وقريبا سيذهب إلى منطقة صينية على حدود فيتنام حيث مدرسة للرقص الفولكلوري ليقدم عملا يمزج بين خبرته الأوروبية وخبرات هؤلاء الصينيين المحلية». جوليان عرب تقول إنها جابت مع المخرج بلدانا كثيرة بحثا عن قدرات تعبيرية لشعوب لها ما يميزها، ليتعلم من نكهتها وخصوصيتها.

في مركز العزم ومن خلال عرض «كل آخر نفس» اختبر المخرج تقنية الشاشة البيضاء التي ما هي إلا علم أبيض ناصع يتحول في يد الراقصين حين يسلط عليه الضوء إلى شاشة، تستخدم كما شاشات خيال الظل أحيانا حيث يقف خلفها المؤدون لنرى حركتهم الهلامية. وتستخدم هذه الراية البيضاء الكبيرة الناصعة أيضا كشاشة عرض في أحيان أخرى حيث نرى عليها فيلما يظهر الراقصين فرادى أو في مشاهد ثنائية. هذه التقنية التي تجمع بين الشرقي القديم (خيال الظل) والتكنولوجي الحديث (شاشة سينمائية)، يريد المخرج من خلالها أن يخرجنا من واقع العرض إلى واقع آخر افتراضي، قد يبدو وكأنه ينقل الحقيقة لكنه على الأرض يغير تفاصيلها ويعكسها مختلفة عن الواقع. يشرح المخرج أنه يسمع عن اضطرابات في لبنان حين يكون في بلده، لكنه عندما يصل إلى مطار بيروت لا يرى ما سمعه ورآه على التلفزيونات، بل يلمس شيئا آخر، وحياة مختلفة أكثر وداعة، وهو ما أراد أن ينقله من خلال صورة الراقصين المنعكسة على الراية الكبيرة البيضاء.

يصعب على المتفرج ألا يشعر بمرونة أداء اللبنانية ياندي نمور صاحبة المستوى الرفيع والشفيف في الرقص، أو الشخصية القوية والحضور الطاغي للفلسطينية فرح صالح، كما يلعب المصري محمود رابعي واللبناني أورليان الزوقي الدورين المخصصين للذكور في العرض. لكل من هؤلاء–كما يقول المخرج–شخصيته وخصوصيته في الأداء. وهو حريص على أن يظهر ذلك بجلاء.

بعد طرابلس قدم عرض «كل آخر نفس» في جونية وصيدا وصور، لتنتهي الجولة اللبنانية، ويبدأ التحضير لعروض في وارسو، ونيويورك، ولوس أنجليس، وبكين، وكوبنهاغن، وسنغافورة، وغيرها. الفرقة تضم عربا، لكنها بقيادة دنماركي مفتون بالتثاقف بين الإيحاءات والحركات الجسدية للشعوب، تحمل اسم «مانكوبي»، وهي ممولة من مملكة الدنمارك بشكل أساسي.