بنوك سورية تواجه أكبر «اختبار صمود» منذ بداية الثورة ضد الأسد

الاحتياطي الأجنبي لدمشق يواصل التراجع

TT

تمكن المعارضون السوريون في الوقت الحاضر من نقل الحرب الأهلية في سوريا من القرى النائية إلى عاصمة البلاد ومركزها التجاري، مما جعل النظام المصرفي السوري الذي عانى من اضطرابات لمدة 16 شهرا يواجه أكبر اختبار.

فقد تمكنت البنوك من البقاء مفتوحة في معظم أنحاء البلاد بفضل الجهود المضنية التي يبذلها مديروها واحتياجات العملاء الذين استمروا في إيداع الأموال لعدم وجود أماكن أخرى أكثر أمانا. لكن امتداد القتال إلى دمشق أكبر مدينة في سوريا، الشهر الماضي، ثم إلى حلب أكبر مركز تجاري في البلاد، يبدأ فترة جديدة أكثر تدميرا للاقتصاد ويضع البنوك تحت ضغوط جديدة.

وقال نبيل سكر، وهو خبير اقتصادي في دمشق عمل سابقا في البنك الدولي، إن حلب ستضر الاقتصاد الحقيقي بسبب تعطيل الإنتاج ووصول المدخلات إلى المصانع، مشيرا إلى أن أحدا لا يعرف إلى متى سيستمر ذلك. وتضرر القطاع المصرفي مثل الاقتصاد السوري ككل بشدة، وتوقفت أجزاء منه عن العمل. وهناك القليل من إقراض الشركات أو تمويل التجارة لكن الودائع والسحب مستمران.

ويتضمن القطاع المصرفي الذي تهيمن عليه أربعة بنوك مملوكة للدولة 14 بنكا خاصا معظمها تابع لبنوك في لبنان ودول عربية أخرى، وانعزل القطاع بشكل كبير عن النظام المالي العالمي بسبب العقوبات الغربية ضد نظام الأسد. وقال مصرفيون إن ودائع البنوك التي قدرت أصولها بتريليوني ليرة سورية (29 مليار دولار) قبل اندلاع الانتفاضة تقلصت بنحو الثلث في العام الأول بعد اندلاع الانتفاضة، وحولت الشركات المذعورة والأفراد أموالا إلى الخارج معظمها إلى بيروت. لكن البنوك تمكنت من تحقيق أرباح قوية العام الماضي بفضل مكاسبها من حيازاتها للنقد الأجنبي مع هبوط سعر صرف الليرة. وقفز صافي ربح بنك الشام 553 في المائة العام الماضي، وهو واحد من ثلاثة بنوك إسلامية في سوريا، ويملك البنك التجاري الكويتي حصة فيه تبلغ 32 في المائة.

وتضررت البنوك بدرجة أكبر في الأيام القليلة الماضية مع اشتداد القتال. فعلى سبيل المثال تكبدت الوحدة التابعة للبنك العربي خسائر صافية قدرها 141 مليون ليرة في الربع الثاني هذا العام، وذلك بعد أن حققت أرباحا بلغت 825 مليون ليرة في الربع الأول. وقال مصرفي في دمشق طلب عدم الكشف عن هويته نظرا للحساسية السياسية للموضوع «لا يوجد إقراض، والطلب على الأموال منخفض. العمليات والقرارات تتخذ على أساس يومي».

وقال مصرفي خليجي عربي كبير يعمل في دمشق إن البنوك هناك لا تزال لديها تسهيلات ائتمانية سارية لبعض الشركات والتجار الأثرياء، لكن في ما عدا ذلك فإن الأنشطة المصرفية تقلصت إلى أدنى حد.

من جانبه، قال مصرفي يعمل في وحدة سورية لبنك لبناني «لا توجد عمليات بنكية مثل خطابات ضمان للواردات.. ويسري ذلك أيضا على أدوات الدين». ورغم ذلك قال مصرفيون إن خروج الودائع من البنوك تباطأ في ما يبدو بدرجة كبيرة أو حتى توقف في الأشهر القليلة الماضية نظرا لأن معظم الذين يريدون تحويل أموالهم إلى الخارج قد فعلوا ذلك بالفعل الآن. وعلى سبيل المثال ارتفعت الودائع في وحدة البنك العربي 5.5 في المائة بين نهاية 2011 و30 يونيو (حزيران)، بينما زادت الودائع في الوحدة السورية لبنك «بيبلوس» اللبناني 15.1 في المائة بحسب بيانات أرباحه.

وقال المصرفي، من دمشق، إن فروع بنوك كثيرة في العاصمة ظلت مفتوحة أثناء قتال الشهر الماضي في دمشق وارتفعت الودائع في بعض الأيام. وأضاف «يرجع ذلك إلى خوف أصحاب الودائع الصغيرة من الاحتفاظ بها في منازلهم خشية أعمال النهب بعدما اقتحمت قوات الجيش بيوتا».

ويقول سوريون إنهم لم تعد لديهم خيارات سوى الثقة في البنوك. وقال محمد، وهو من حمص في أواخر الثلاثينات من عمره ويعمل وكيل سياحة، إنه سحب 100 ألف ليرة (نحو 1450 دولارا) من بنكه في يونيو للاحتفاظ بها في أمان في منزله، لكنه أودعها مجددا بعد أسبوع قبل أن يهرب إلى مدينة اللاذقية الساحلية. وأضاف عبر الهاتف «لم يعد لدي خيار سوى ترك المال في البنك. إلى أي مكان يمكنني أخذه؟.. أحتفظ به في المنزل؟.. سيسرق أثناء غيابي. آخذه معي في حقيبة؟.. سيقتلونني في الطريق. أحوله إلى خارج البلاد؟.. إلى من؟..».

ويتفق المصرفي الخليجي على أنه لم يعد هناك سحب لأموال كبيرة من البنوك السورية. وقال إن أحد أسباب ذلك يرجع إلى نجاح البنك المركزي السوري في الحفاظ على سعر صرف الليرة مستقرا في الأشهر الماضية بعد أن هبط العام الماضي مما أتاح للمودعين أن يستعيدوا بعض الثقة في العملة.

وقال نسيب غبريل، مدير قسم البحوث والدراسات الاقتصادية في بنك «بيبلوس» في لبنان، إنه حتى الآن لا تحتاج الوحدات السورية لبنوك لبنانية لضخ أموال حتى تستطيع الاستمرار في النشاط. وأضاف أن الوحدات «تستمد الخبرة من بنوك لبنان التي تعايشت لسنوات طويلة مع الحرب. لا أعتقد أن النظام المصرفي السوري سينهار».

ورغم ذلك يبقى الخطر المتمثل في مزيد من الضرر للاقتصاد بسبب القتال. ربما التضخم المفرط أو هبوط جديد في قيمة العملة قد يؤدي إلى تدافع لسحب الأموال مما يتسبب في إفلاس البنوك أو قيام الحكومة بإغلاقها.

وقال سكر إن معظم السوريين استعادوا بعض الثقة في الاقتصاد لأنهم لا يزال بإمكانهم شراء احتياجاتهم اليومية. وأضاف «عندما تذهب إلى الأسواق تجد السلع متاحة.. الفاكهة والخضراوات.. الأغذية متاحة». وقال المصرفي، من دمشق، إن سوريا تعاني من «أسعار الذعر» حيث تشهد الأسعار ارتفاعات مؤقتة استجابة لأحداث معينة في الصراع، مثل موجات القتال في العاصمة وليس ارتفاعات كبيرة، إضافة إلى تضخم مرتفع يجعل الاحتياجات اليومية بعيدة عن متناول معظم الناس. وأضاف «اشترى الناس الخبز الأسبوع الماضي بنحو 60 ليرة للكيس الذي عادة ما يبلغ سعره 35 ليرة. هذا تضخم يبلغ 100 في المائة لكنه استمر خمسة أيام ثم هدأت أزمة الخبز».

ويمكن أن يرتفع التضخم إذا طال أمد القتال في حلب وامتدت الأضرار إلى المصانع والشركات. وتفيد بيانات الإدارة المحلية للمدينة بأن حلب تقدم ما يزيد على 50 في المائة من عمالة الصناعات التحويلية في البلاد. وليس من الواضح إلى أي مدى يستطيع البنك المركزي دعم الليرة من خلال عرض نقد أجنبي لتلبية الطلب.

وهبطت الليرة من سعر الصرف الرسمي عند 47 ليرة مقابل الدولار حينما بدأت الاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية في مارس (آذار) العام الماضي إلى نحو 69 ليرة مقابل الدولار الآن، لكنها استقرت تقريبا منذ منتصف مايو (أيار).

وقال المصرفي، من دمشق، إن السوريين العاديين لا يزال بإمكانهم شراء بعض الدولارات بسعر الصرف الرسمي بينما السعر في السوق السوداء عند نحو 70 ليرة مقابل الدولار ليس مرتفعا للغاية. وبلغت احتياطيات النقد الأجنبي في سوريا 18.2 مليار دولار في نهاية 2010 قبل بدء الاضطرابات بوقت قصير وذلك بحسب أحدث أرقام من صندوق النقد الدولي.

ومثل بيانات اقتصادية أخرى فإن أحدث أرقام للاحتياطيات ليست متاحة، لكن يقدر خبراء اقتصاديون من جهات خاصة تقلص الاحتياطيات بعدة مليارات من الدولارات على الأقل العام الماضي، وربما تكون انخفضت بكميات مماثلة حتى الآن هذا العام. وإذا نفدت الاحتياطيات بالفعل أو اعتقد السوريون أنها أوشكت على ذلك فإن التوقعات بانهيار خارج نطاق السيطرة لليرة قد يدفع إلى خروج جماعي للودائع بالعملة المحلية من البنوك.