«مراكش من دون دراجات لن تكون مراكش»

200 ألف دراجة نارية و50 ألف هوائية في عاصمة السياحة المغربية

تنتشر محلات تأجير الدراجات النارية والهوائية في كل مكان في وسط المدينة
TT

لا يكاد يخلو بيت مراكشي من دراجة نارية أو هوائية. لذلك يتحدث البعض عن لقب «مدينة الدراجات»، الذي يأتي ليضاف إلى عدد آخر من الألقاب، التي تعرف بها هذه المدينة المغربية الشهيرة، التي تصنف، اليوم، ضمن أفضل المناطق السياحية العالمية. وأبانت إحصائيات، نشرت أخيرا، أنه يوجد في مراكش ما يفوق 200 ألف دراجة نارية وأزيد من 50 ألف دراجة هوائية.

ويرى الإعلامي والباحث عبد الصمد الكباص أن «مراكش من دون دراجات لن تكون هي مراكش. تلك المدينة التي شكلت التلقائية والفوضى الممتعة روحها المعاصرة». فالدراجة تبدو، برأي الكباص، أكثر انسجاما مع معمار المدينة العتيقة، إذ «لا يشكل حضورها نشازا في قلب الدروب الضيقة والأزقة الملتوية، وممراتها المسقوفة التي يتقاسمها النساء اللائي يتبادلن أسرار بعضهن في أحاديث لا بداية لها ولا نهاية، وكذا الأطفال الذين يملأون الحي بشغبهم وقفشاتهم».

يميز الكباص بين الدراجة النارية والدراجة الهوائية، ويرى أن استعمال الدراجة الهوائية، في مراكش، لا يتعلق بالفقر أو الغنى، بالإشباع أو الحرمان، بشكل يجعل منها «علامة أخرى لمراكش مدينة الشمس والحلم والبشكليت (تطويع للاسم الفرنسي للدراجة الهوائية إلى الدارجة بلكنة أهل مراكش) والموتور (تطويع للاسم الفرنسي للدراجة النارية إلى الدارجة بلكنة أهل مراكش)».

يقول الكباص إن «المدينة الحمراء لم تكن أبدا للسيارات أو الشاحنات»، حيث تتمتع الدراجات الهوائية بوجود حميم داخلها لأنها «تبدو كامتداد آلي للحصان والجمل»، إذ «تنساب في هدوء وسلاسة من دون أن تكدر صفو الحياة بالدرب»، فيما تمثل السيارات «دخيلا ثقيل الظل، متطفلا مغرورا لا شيء يربطه بروح المدينة، ذاكرتها وتأنيها»، كما لو أنها «اختراق عنيف يباشره مبدأ السرعة في فضاء صاغ تاريخه بكامله انطلاقا من التأني والبطء والاسترخاء».

يقارن الكباص، في حديثه مع «الشرق الأوسط»، بين الأمس واليوم، ليصل إلى أن الدراجات النارية، الصينية الصنع، طردت الدراجات العادية من الطرق والشوارع، فكان أن «تخلى المراكشيون عن تأنيهم وسقطوا فريسة غواية السرعة، في كل صباح تضخ دروب المدينة في الشوارع الكبيرة مئات الآلاف من الدراجات النارية الصينية السريعة جدا، فتكتظ الطرق يوميا بصخب محركاتها وجثت مستعمليها من ضحايا معركة الطرق التي لا يعرف أحد من سيكسبها»، قبل أن يضيف، قائلا: إن «طرد الدراجات الهوائية من طرق مراكش أضحى اليوم خطة رسمية، بعد القضاء على ممراتها الخاصة التي خلفها مصممو الشوارع في عهد الحماية، تلك الممرات المحمية التي توازي ممرات السيارات والحافلات، والمحمية بأشجار كثيفة استقدمت منذ عهد المارشال ليوطي (أول مقيم عام فرنسي في عهد الاستعمار)، والتي اقتلع أغلبها اليوم لفسح مزيد من الفضاء لانتعاش القبح والبشاعة، في مدينة لا أحد يستطيع أن ينكر قلقه على مستقبلها».

تطور المدينة وتزايد أعداد مستعملي الدراجات، بمختلف أصنافها وأشكالها، هوائية كانت أو نارية، ولد ظاهرة عجيبة في المدينة الحمراء، تتمثل في عدم احترام أكثر سائقي الدراجات لقانون السير، إلى درجة ارتفعت معها في جنبات الطرق علامات، نقرأ في إحداها: «أصحاب الدراجات.. باحترامكم لقانون السير والتزامكم باليمين تساهمون في قلة الحوادث». غير أن هذه العلامات لا ينتبه إليها الراجلون، ولا يحترم كلماتها الراكبون، من أصحاب الدراجات النارية والهوائية، إلى درجة سلم معها الجميع، تقريبا، بمن فيهم شرطة المرور، بأن إشارات المرور لا تنسحب على أصحاب الدراجات. وبالتالي، فحين «يشتعل» الضوء الأحمر، ترى السيارات والحافلات والشاحنات تتوقف (ليس كلها، على كل حال.. وتلك قصة أخرى)، بينما تتابع الدراجات سيرها، كما لو كانت غير معنية بالحدود الفاصلة بين الأحمر والأخضر، وبأن قانون السير وضع لكي يطبق على السيارات والشاحنات والحافلات لا غير.

ولكن ما يثير انتباه زوار مراكش أكثر، ليس فقط، عدد الدراجات النارية والهوائية، التي تجوب شوارع وأزقة المدينة، ولا حتى عدم احترام أغلب سائقيها لإشارات المرور، بل تشكل النساء غالبية سائقي هذه الدراجات، إلى درجة تحول معها هذا الاختيار إلى ظاهرة، يتعجب منها السياح والزوار العرب والغربيون، على حد سواء.

وفي مقابل حالات الدهشة والاستغراب، التي تنتاب زوار المدينة الحمراء، خاصة السياح العرب منهم، فإن آراء أهل مراكش تميل إلى تقبل عادة وظاهرة ركوب المراكشيات للدراجات لا سيما النارية منها، إذ يعتبرونها من ضروريات الحياة المعاصرة، التي دفعت بالمرأة لتحمل أعباء المسؤوليات الإضافية خارج البيت.

ويقول الإعلامي محمد موقس، لـ«الشرق الأوسط» إن النظرة الإيجابية التي يوليها المراكشيون لظاهرة ركوب النساء للدراجات النارية إلى عاملين، أولا، «قدرة المراكشيات على فرض شخصيتهن»، وثانيا، «اقتناع أزواجهن وأشقائهن وآبائهن، من الذكور، بالقيمة المضافة التي تمثلها الدراجة ودورها في حياة الأسر المراكشية بشكل عام».

ليست استعمال نساء مراكش للدراجات النارية وليدة اليوم، بل ترجع إلى عقود ماضية، لذلك «لا يستغرب المراكشيون ركوب النساء للدراجات النارية»، يقول الكباص، مادام أن «الأمر يتعلق بتأثير تاريخ تواصل لأزيد من ستين سنة أصبح فيه امتطاء النساء للدراجات بالمدينة الحمراء عادة مألوفة لا تثير أدنى دهشة. في عهد الحماية الفرنسية كان بعض النسوة اللائي يشتغلن في بيوت المعمرين يستعملن الدراجات للتنقل من عمق المدينة العتيقة إلى الحي الفرنسي الذي شيدته سلطات الحماية في جليز. كانت ملامح هؤلاء النسوة مميزة، جلابيب فضفاضة متوجة بغطاء للرأس، يسمى حينها بـ(القب). بعدها صارت الطالبات وبعض الموظفات لدى الدولة تتجاسر على ركوب الدراجة، دون أن يثير ذلك انزعاج أو اندهاش أحد من السكان، بل كان الآباء يسارعون إلى اقتناء دراجات لبناتهم لضمان وسيلة نقل آمنة لهن».

والمثير في الظاهرة أن ركوب الدراجات في مراكش لم يبق حكرا على سكان المدينة، بعد أن صار للسياح والمقيمين الأجانب نصيب من هذا الاختيار، فانتشرت، في محاور طرق المدينة وساحاتها، وكالات متخصصة في كراء الدراجات، بمختلف أشكالها وأنواعها. كما استثمر عدد من الفنانين ظاهرة الدراجات في مراكش فضمنوها إبداعاتهم، سواء تعلق الأمر بالرسم أو بالفن الفوتوغرافي.

ولعل الأكثر إثارة، في علاقة مراكش بالدراجات، أن بعض الوكالات حاولت تسويق دراجة «سيغواي» الأميركية، لكنها فشلت في اختراق السوق المراكشية، ربما لأن هذا الصنف من الدراجات لا يقبل بأكثر من راكب، ولأن هذه الدراجة الغربية والغريبة تدفع راكبها إلى التنقل بها واقفا، في الوقت الذي تمنح فيه الدراجات العادية للمراكشي والمراكشية، فرصة أن يحولها إلى مركبة تقله هو وعائلته وبضاعته، كما لو أنها سيارة بعجلتين.