المتقاعدون في فرنسا يعودون مجددا لسوق العمل

في تحول اقتصادي و اجتماعي لافت

TT

عندما انطلق عاملون غاضبون إلى شوارع فرنسا قبل عامين احتجاجا على خطوات لزيادة سن التقاعد من 60 عاما إلى 62 عاما وجدت إحدى المتقاعدات صعوبة في التعاطف مع قضيتهم.

كانت فرانسواز بيتيه، مديرة في أوج حياتها العملية ثم وجدت نفسها تأكل في مطعم يقدم حساء شعبيا وهي ترغب الآن بشدة في العثور على عمل لأن معاش التقاعد الذي تتقاضاه ويبلغ ألف يورو شهريا لا يكفيها.

تذكرت بيتيه ما شعرت به حين تابعت مشاهد نزول العاملين إلى الشوارع وقالت: «كنت أجلس أمام جهاز التلفزيون وأتساءل هل نعيش في عالم واحد؟.. الناس في هذا البلد يريدون الاسترخاء.. أن يتقاعدوا مبكرا وأن يعيشوا حياة هادئة. لكن ليست هناك ضمانات في الحياة».

وزاد عدد المتقاعدين الذين يعودون لسوق العمل مرة أخرى رغم عزوف حكومة الرئيس فرنسوا هولاند الاشتراكية عن إدخال إصلاحات جديدة بعد الاحتجاجات العنيفة التي وقعت عام 2010 على الإصلاحات التي أدخلها سلفه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي.

وأظهر ذلك أيضا أن النظام الذي أسفر عن التقاعد في أصغر سن في العالم الغربي - 59.1 سنة مقارنة مع أكثر من 64 عاما في السويد وهي أيضا عضو في الاتحاد الأوروبي ومع 71.5 عام في المكسيك - لا يتيح لكثير من الفرنسيين المسنين الأمن الاقتصادي الذي يسعون إليه.

ولهذه الظاهرة تداعيات أوسع نطاقا على سوق العمل حيث يعاني 25 في المائة من الشبان من البطالة ويبرز الضغط على نظام التقاعد الذي من المتوقع أن يزيد عجز ميزانيته أربعة أمثال ليصل إلى 114 مليار دولار بحلول عام 2050.

وبحسب تقرير لـ«رويترز» عاد في الوقت الحالي 500 ألف متقاعد إلى العمل وهو 3 أمثال العدد في 2005 ومن المرجح أن يزيد هذا العدد مع ارتفاع متوسط العمر ليتجاوز 80 عاما ومع زيادة عدد المتقاعدين الذي يبلغ حاليا 16 مليون شخص.

وقالت إن سونيه، كاتبة تقرير أصدرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تتخذ من باريس مقرا عن التقاعد «هذا أمر مستحدث بالنسبة لفرنسا».

وقالت عن نظراء أوروبيين مثل ألمانيا حيث تم رفع سن التقاعد إلى 67 عاما «نحن نلحق بدول أوروبية أخرى ببطء، فيما يتعلق بالعمل حتى سن أكبر وهو شيء جيد بصفة عامة لكن من الناحية الثقافية فإنه تحول عميق».

وهناك أسباب مختلفة لعودة المتقاعدين للعمل.

إذ إن هناك تغييرات أدخلها ساركوزي على القانون عام 2009 تسمح للناس بالعمل وفي الوقت ذاته الحصول على معاش تقاعد مما يشجعهم على تحسين الدخل من خلال العودة إلى أعمالهم القديمة بدوام جزئي.

وفي الوظائف التي تحتاج مهارة كبيرة ويحصل الفرد من خلالها على معاش تقاعد كبير يستغل هؤلاء ميزة حالتهم الصحية الجيدة لمواصلة النشاط وتحسين الدخل.

لكن هناك آخرين ضحية لبطء اقتصادي دفع فرنسا إلى حافة الركود.

ومع زيادة معدل تسريح العاملين، كثيرا ما يكون العاملون الأكبر سنا مستهدفين بسبب رواتبهم الكبيرة. لكن إصلاحات ساركوزي لعام 2010 تعني أن العاملين من مواليد 1955 يحصلون على معاش تقاعد كامل في سن 62 عاما إذا دفعوا تأمينات المعاش طوال 41.5 عام.

وقالت السكرتيرة السابقة ميراي جيرو (60 عاما) إنها يمكن أن تعيش حياة لا بأس بها بمعاش التقاعد الذي يبلغ 22 ألف يورو (28400 دولار) سنويا لكنها قبلت رغم ذلك وظيفة للعمل في عطلة الأسبوع لتسليم عينات ترويجية في مركز للتسوق لمساعدة ابنتها العاطلة التي تجد صعوبة في العثور على فرصة عمل.

وأضافت جيرو، التي تم تسريحها في سن 58 عاما: «لا أريد أن أتوقف عن النشاط لمجرد أن شخصا ما قرر أنني يجب أن أتقاعد».

ويصل متوسط معاش التقاعد لشخص يزيد عمره عن 65 عاما في فرنسا إلى 1583 يورو (2100 دولار) شهريا وهو ثالث أكبر معاش تقاعد بين الدول الغنية بعد لوكسمبورج والنمسا.

لكن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تقول إن كثيرا من المتقاعدين في دول أخرى يحصلون على دخل إضافي من معاشات تقاعد واستثمارات خاصة مما يجعل المتقاعدين في فرنسا يحتلون المرتبة العاشرة فيما يتعلق بإجمالي الدخل.

وما زال المتقاعدون الذين يعودون للعمل بعقود دوام كامل أو جزئي يسهمون ماليا في نظام التقاعد مما يخفف من الضغط. لكن كثيرين لا يتمكنون من الحصول على عقود منتظمة ولذلك يعملون في وظائف غير رسمية لا يقدمون فيها مساهمات مالية.

ويقول محللون إن عودة المتقاعدين إلى سوق العمل لا تحرم بالضرورة الباحثين الشبان عن فرص عمل لأنهم كثيرا ما يقبلون وظائف لا يسعى إليها شخص يحاول أن يخطو أولى درجات السلم الوظيفي.

وهذا توجه اجتماعي تسعى حكومة الرئيس هولاند، التي تتولى شؤون البلاد منذ خمسة أشهر إلى استغلاله.

وفي حين أن توظيف الشبان ما زال يمثل أولوية، يقول رؤساء في العمل إنهم يؤيدون وجود حوافز لبقاء العاملين من كبار السن بعد التقاعد لأنهم يساعدون على تدريب العاملين الجدد مما يحدث توازنا مع قلة خبرة العاملين الشبان.

وقال تييري إرمان الرئيس التنفيذي لموقع «أرت برايس» للمزادات الفنية على الإنترنت: «في سوق العمل الفرنسية إذا بلغ المرء 45 عاما يصبح ملعونا.. لكن حتى هنا بدأت العقليات تتغير».

ومضى يقول: «المسؤولون التنفيذيون أصبحوا يدركون أن العاملين الأكبر سنا يضيفون قدرا كبيرا من الحكمة ويدخلون قيمة مضافة ويمكن أن يساعدوا في استغلال طاقات الشبان الأكثر اندفاعا».