الفراهيدي وابن سينا في «كتاب الماء»

أول معجم طبي عربي من تأليف عبد الله بن محمد الأزدي الصحاري

TT

اعتمد المحقق على نسختين إحداهما تم نسخها في بداية القرن السادس الهجري تبع المؤلف مواطنه الخليل بن أحمد في اختيار اسم المعجم من أول باب في الكتاب التقى الأزدي بالبيروني ثم شد الرحال الى ابن سينا وتتلمذ على يديه جليل العطية مضت نحو عشر ومائة من السنوات على بدء عملية تحقيق ونشر المخطوطات العربية المبعثرة في خزائن الشرق والغرب، وفقاً للمناهج العلمية الحديثة التي سبقنا بها مجموعة من المستشرقين قبل ذلك بعدة قرون نشروا خلالها طائفة من المخطوطات العربية والاسلامية، اضافة الى مجموعة من الدراسات التي اعتمدت في الغالب على هذه المخطوطات مع تحليلات واستنتاجات متباينة الدقة والاهمية. خلال القرن الماضي نشر الباحثون العرب والمسلمون مخطوطات كثيرة يمكن مراجعتها في مظان كثيرة أهمها:

1 ـ معجم المخطوطات العربية (1 ـ 5) للدكتور صلاح الدين المنجد ـ بيروت 60 ـ 1980م.

2 ـ ذخائر التراث العربي ـ الاسلامي (1 ـ 2) لعبد الجبار عبد الرحمن ـ البصرة 81 ـ 1983م.

3 ـ المعجم الشامل للتراث العربي المطبوع (1 ـ 5) للدكتور محمد عيسى صالحية ـ القاهرة 92 ـ 1995م.

فمن يطلع على النتاجات المثبتة في هذه المراجع وغيرها يكّبر جهود العلماء والباحثين الذين توفروا على نشر المئات من المخطوطات العربية في شتى الآداب والعلوم. ويتخيل البعض ان أغلب تراثنا المخطوط قد أخذ سبيله الى النشر، ولم يبق منه شيء يستحق عناء البحث والدرس. غير ان الأيام أثبتت العكس، وانه ما زالت في الزوايا خبايا، ومن الدلائل على ذلك صدور:

ـ كتاب الماء لابي محمد عبد الله بن محمد الأزدي الصحاري، الصادر عن وزارة التراث القومي والثقافة في سلطنة عمان في ثلاثة مجلدات بتحقيق الدكتور هادي حسن حمودي.

فمخطوط هذا الكتاب ظل متوارياً عدة قرون لدى احدى الأسر العلمية الجزائرية الكريمة، استطاع المحقق الوقوف عليه في مكتبة (الشيخ ابن عاشور أحمد بن عبد القادر التيهرتي) في مدينة (غرواية).

ولقد أحسنت وزارة التراث القومي والثقافة العمانية بنشر هذا السفر المهم، واخراجه اخراجاً انيقاً يليق باسم هذا القطر العربي العريق في خدمة العلم والعلماء منذ صدر الاسلام.

صحار التي ينتمي اليها المؤلف مدينة عُمانية شهيرة: طيبة الهواء والخيرات والفواكه، قيل انها سميت بصحار بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام. خصها (ياقوت الحموي) بتعريف واسع في (معجم بلدانه) أما مؤلف الكتاب فعبد الله بن محمد الأزدي. ولد في صحار وتلقى مبادئ العلوم فيها ثم انتقل الى العراق ليواصل تعليمه في البصرة ثم في بغداد، بعدها انتقل الى بلاد فارس حيث التقى (البيروني) أحد العلماء الذين شهروا بالصيدلة وعلم النبات، ويبدو ان اهتمامه بالطب جعله يشد الرحال الى (ابن سينا)، حيث لزمه وتتلمذ على يديه.. ويلوح ذلك بكل جلاء في كثير من مواد الكتاب. ومن الطريف ان نلاحظ ان (الأزدي) يتخذ موقف نصرة شيخه (ابن سينا) كلما عرض لمسألة خلافية بين الأطباء. وبعض هذه الآراء لا توجد في كتب (ابن سينا) المعروفة، كالقانون في الطب والشفاء وهذا يزيد في قيمة كتاب الماء.

وذكر (ابن أبي اصيبعة)، الذي انفرد بترجمته في كتابه المعروف (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) انه كان يعرف بابن الذهبي وكان كلفا بصناعة الكيمياء، مجتهدا في طلبها، وتوفي ببلنسية من ديار الاندلس، في جمادى الآخرة سنة ست وخمسين واربعمائة (للهجرة) وقد حقق الكتاب الأكاديمي العراقي (الدكتور هادي حسن حمودي) وهو باحث يعمل حالياً في بريطانيا رصيده ثلاثون كتابا ما بين تأليف وتحقيق في ميادين التراث والدراسات اللغوية، من أعماله المحققة: الأمالي العُمانية لعيسى بن ابراهيم الربعي، ومجمل اللغة لاحمد بن فارس، والحماسة لابي تمام تفسير ابن فارس وغيرها.

وكتاب الماء معجم طبي لغوي رتبه مؤلفه على حروف الالفباء. وجعل مواده خالصة للطب احياناً، وجامعة بين الطب واللغة أحياناً وتتراوح هذه المواد ما بين تسع صفحات وسطر واحد.

المؤلف معني بالطب، لذا ينصرف الى ذكر الأمراض والعلاج واسماء الادوية وتركيبها ضمن الجذر اللغوي الذي اشتقت منه اسماء تلك الأدواء والعلاجات. كما كان معنيا جدا بذكر اسماء النباتات الطبية وخصائصها بضمن الجذر اللغوي الملائم لها، بحيث يسهل على الطبيب والصيدلاني والباحث واللغوي وعالم النباتات والمتخصص في تشريح الحيوانات وفسلجتها الحصول على المعلومة التي يبتغي بكل يسر وسهولة وذلك بالعودة الى الجذر اللغوي الذي هو أصل لما يبحث عنه، فإنه يجده هناك بما قد ينفعه ويرشده الى تلك المعلومة التي أرادها.

لقد ذكر المؤلف في مقدمته انه لما رأى (الخليل بن أحمد) ـ وهو أزدي أيضاً ـ قد سمّى كتابه «العين» بأول حروف الكتاب فإنه قد نهج نهج (الخليل) في تسمية الكتاب. فأطلق عليه تسمية مأخوذة من أول أبوابه، وهو باب الماء، الذي هو بشكل أو آخر بمثابة احدى مقدمات المؤلف للكتاب.

ثم قسم كتابه الى أبواب، يحمل كل باب اسم الحرف الذي تبتدئ به الألفاظ المذكورة فيه وهكذا جريا على نهج المعجمات اللغوية.

التحقيق:

اعتمد (حمودي) على نسختين احداهما يرقى نسخها الى بداية القرن السادس الهجري. وحقق الكتاب وفق الأصول العلمية فشرح الألفاظ والمصطلحات الطبية وخرج النصوص. ولا تنقص هذا الكتاب المهم الا الفهارس الفنية التي لا يستغني عنها الباحث والقارئ. ولمعرفة اسلوب المؤلف وأهمية الكتاب نقدم نماذج متنوعة منه:

درج:

الدارج: النمام لانه يدرج ليلته كلها ينمّ على هذا وذاك.

والدارج: طائر أرقط من طير العراق، يقع على الذكر والأنثى، ويختص الذكر بالحيقطان، ولحمه حار، يابس، خفيف، سريع الهضم، يولد دما معتدلا، ويزيد في الدماغ، والفهم.

والدرجة: طائر أسود، أغبر الجناحين، باطنهما وظاهرهما، على خلقة القطا، الا انه ألطف.

والدوارج: الأرجل، الواحدة دارجة.

ودَرَج الرجل مات.

ودرجات الادوية، مراتبها، وهي أربعة:

فكل ما يؤثر مقدار الشّربة منه في البدن الانساني المعتدل، اما ان يؤثر فيه تأثيراً معتدلاً فهو الدواء المعتدل، واما ان يؤثر فيه تأثيراً فيه كيفية زائدة على كيفية البدن، فإن لم يكن ذلك التأثير محسوساً احساساً ظاهريا، فهو في الدرجة الأولى.

فإن مال البدن الى التحسن، ولم يضره الدواء بشيء فهو في الدرجة الثانية. وان ضّر ولم يبلغ ان يقتل فهو في الدرجة الثالثة. وان بلغ ذلك فهو في الدرجة الرابعة.

وكل ذلك فهو في المقدار المخصوص من الدواء، فإن تمادى المريض في الاستعمال على غير ما وصف الطبيب، أضر الدواء ضرراً بليغاً.

والدرج: سفيط تحفظ فيه القابلة أدواتها، والمرأة طيبها، والطبيب أدواته وادويته. ويصنع مما تيسر، وأشهر ذلك ان يكون من العاج، وخاصة للطبيب، فإن العاج احفظ للادوية من الفساد.

ودرج الرجل: هلك، وقال الأصمعي: إذا لم يخّلف نسلا.

غلي:

الغالية: طيب معروف مركّب من مسك وعنبر وعود. ودهن طيب الرائحة كدهن البان، وهي حارة المزاج. وشمّها ينفع من الصرع والسكتة ويسكن الصداع البارد، ويفرح القلب وينفع من أوجاع الرحم الباردة، ويدر الطمث حمولا، وينفع من أوجاع الأذن الباردة اذا حل في دهن البان قطورا. ويقال لكل شيء ارتفع: قد غلا وتغالى. ويقال: غلت القدرة تغلي غليا وغلياناً، ولا يقال غليت، قال ابو الأسود (الدؤلي):

ولا أقول لقدر القوم قد غليت ولا أقول لباب الدار مغلوق أي: يقال مغلق.

قرصع: القرصعنة: بقلة تعرف في الأندلس بشويكة ابراهيم وعند غيرهم بالبقلة اليهودية. وهي قصيرة الشوك، منها ما لون شوكه شديد الخضرة وساقه في طول الذراع ويتشعب في نصفه شُعب كثيرة تعلّق في المغرب على الأبواب لمنع الذباب. ومنها نوع له شُعب كثيرة مستدير شوكه، ولون زهره الى البياض، ومنها نوع ورقه مستدير وله ساق واحدة متلبسة بالشوك، لونه الى الزرقة، ومنها نوع كثير الورق حاد الشوك ذو جمة كبيرة يستعمل لوجع الظهر الذي عن برد، ومنها نوع عريض الورق شديد البياض وله أصول ظاهرة الحلاوة وعساليج. وهذا النوع يكثر في العراق، وله ساق واحدة في قدر نصف ذراع تميل الى البياض، وله رأس مستدير على حافاته شوك كالسّلا وله أصول في غلظ السّبابة. وهي حارة يابسة في آخر الأولى اذا شربت عصارتها حللت المغص.

نشر:

النشر: الريح الطيبة، وعن أبي عبيد: الريح طيبة كانت أم منتنة. والنشر الحياة، يقال: نشر الله الريح أي أحياها بارسالها بعد موتها أي سكونها. والنشر الكلأ اذا يبس ثم اصابه مطر في آخر الصيف فاخضر، وهو رديء للراعية.

والنشرة: رقية يعالجون بها المجنون، والمريض، سميت نشرة لانها ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي يكشف ويزال.

وعن الحسن: النشر من السحر.

قال شيخنا العلامة ابن سينا: والانتشار هو ان تصير الثقبة العينية أوسع مما هي في الطبع.

والنواشر: العروق التي في ظاهر الذراع، والرواهش العروق التي في باطنها، والعروق التي في ظاهر الكتف، الواحدة ناشرة.

نفط:

النفط، بالكسر وقد يفتح: رطوبة دهنية تخرج من عين بأرض العراق. وهو نوعان: ـ أبيض، وهو أجودهما.

ـ وأسود وهو دونه.

وكل منهما حار يابس في أول الرابعة، محلل للرياح، مفتح للسداد، مسكّن للمغص... ينفع من جميع أوجاع العصب الباردة، ومن لسع الهوام طلاء، ومن البياض الذي في العين والماء النازل فيها اكتحالا ومضرته بالكبد ويصلحه لعاب البذر قطوناً وبدله القطران.

والنَفطة والنِفطة: بثرة مائية بين الجلد واللحم، وقد يكون بدل المائية دم. وهي تحدث عن غليان الصفراء أو الدم. وانما تقف تحت الجلد ولا تنفذ منه لانه اكتفى بما تحته، وقد يرق وتنفذ. وتعالج بتنقية البدن بالفَصْد والاسهال وبتبديل مزاجه بالأشربة والأغذية الباردة والرطبة. ويجب ان لا تهمل بل تفقأ ويعصر ما فيها برفق فاما ان تبرأ واما ان تتقرّح، فإن تقرحت عولجت بالمراهم.

=