كلما استعدت فكرة قراري أن أصبح كاتبا في يوم من أيام عام 1986 وحتى اليوم، يؤرقني السؤال حول معنى الكتابة وجدواها في عالم كعالمنا. فكرة الكتابة تحولت إلى فعل لأول مرة حين انبثقت من التأثر بموقف إنساني رأيته وانفعلت معه وقررت صياغته بشكل فني. لكني حين شعرت بأن موضوع الكتابة ليس مجرد نقل لمواقف من الحياة، خصوصا أنني كنت مولعا بقراءة الروايات العالمية منذ صغري وأعرف أن هناك تراثا رهيبا من النصوص التي تعتلي قمم الاحتراف الأدبي.
كان علي أن أتحرر من موروثات كثيرة لتحقيق فكرة الكتابة، التخلص من نبرة محفوظ التي كنت متعلقا بها ومقلدا في تلك القصة الأولى التي كتبتها، وأن أفهم أن نقل الواقع ليس هو المعنى الحقيقي للكتابة، وإنما إعادة كتابة واقع فني مواز، وهو ما اقتضى سنوات من الكتابة التجريبية أنجزت فيها نحو 50 نصا، مزقتها كلها تقريبا لاحقا. فقد كنت أبحث عن صوتي الخاص، ومعجم خاص، ونبرة خاصة للكتابة، واستلزم ذلك جهدا طويلا.
كنت منذ طفولتي مولعا بالقراءة بتشجيع من والدي، المستنير الليبرالي، الذي أدين له بالكثير. لكن، ورغم أنه كان الشخص الذي أشعل حماسي للاهتمام بالقراءة والأدب منذ الطفولة، فقد اختلف معي حين أعلنت رغبتي في الالتحاق بالقسم الأدبي في الدراسة الثانوية، ودار بيننا حوار طويل حاول فيه إقناعي بأن أدباء كثرا، وبينهم يوسف إدريس، عملوا في مهن أخرى غير الكتابة، لكي يوازنوا بين متطلبات الحياة والكتابة. اقتنعت، على مضض، لكني أيضا أصبت بالتشتت، وبالإحباط، فقد كنت أتمنى في أعماقي دراسة الفلسفة والمنطق. وانتهى الأمر بي دارسا للاقتصاد وإدارة الأعمال، وهو ما شتتني أكثر، حتى قررت العمل في الصحافة في نهاية الأمر.
كان علي دوما أن أتشبث بأملي في أن أكون كاتبا، مستدعيا سيرة كتاب عصاميين علموا أنفسهم بأنفسهم، وتثقفوا، وقرأوا متكئين على جهدهم الخاص، ومحاولا التغلب على عوار عدم وجود منهج، وعشوائية القراءة، وإفلات الكثير من النصوص المهمة التي قد لا أجد إليها السبيل؛ إما للجهل بها أو لعدم توافرها، وأخيرا وليس آخرا، أن أتغلب على فكرة عدم الالتزام ببرامج القراءة والتحصيل التي تنتج عن رفاهية التفرغ، ثم وحين بدأت العمل في الصحافة، مبكرا، وحتى قبل أن أنتهي من دراستي الجامعية، بدأ صراعي الجهيد مع الوقت الذي تلتهمه الصحافة بامتياز.
لا أستطيع أن ألوم والدي في النهاية؛ فهو ابن ثقافة مجتمع لا يرى أن الأدب يمكن أن يؤكل أحدا لحما أو خبزا. مجتمع ينظر، بإصرار وتعمد، إلى الكاتب بوصفه شخصا غريب الأطوار، يشتري الكتب بدلا من الملابس، ذاهلا وشاردا عما حوله. مجتمع يخشى من أي نزعة فردية ويحاربها بجلاء، ويمارس ضغوطا خفية وماكرة على عزلة الفرد ممن يرغب في أن يكتفي بالكتابة معنى لوجوده، وينظر إليه بنفور إذا لم يدخل في إطار المؤسسة الاجتماعية (الزواج). مجتمع لا يحترم الكتابة ولا الكتاب، حتى لو ادعى العكس، ولا الفردية التي يتطلبها معنى أن يكون الشخص كاتبا مستقلا بكل معنى الكلمة.
فهذا المجتمع في الحقيقة يريد أن يتأكد من إيمان الفرد، وخصوصا المختلف، بكل ما يؤمن به العقل الجمعي، المغيب أساسا، حتى لو كانت خرافة، وأن ينتمي لمؤسسة أيا كانت حكومية أو معارضة، وأن يقع أسيرا للثنائية التي يمارس بها المجتمع إدانة المختلف، وهي الثنائية المتأسسة على ثقافة الحرام والحلال. مجتمع يحب التفاهة ويكرس لها وينفر من كل عميق أو مختلف، ويخلط بين الفكاهة والسخافة.
لكن، كل هذه الازدواجيات التي يؤسسها مجتمع ذكوري متناقض مع نفسه، كانت في الوقت نفسه وقودا إضافيا للكتابة، ولتأسيس عقلية نقدية، ومعينا لإعادة تأمل الذات ونقدها، في مرايا الذات، ومراقبة ما قد يعتريني من آفات المجتمع من تناقضات، أو نرجسية مريضة، أو انعدام للشفافية، والذهاب في طريق هيستيريا «دكتور جيكل ومستر هايد»، التي تعيشها مجتمعاتنا اليوم صورها بإعلان صور مزيفة لأنفسنا بينما تكون بئر السر والستر مرتعا لكل الموبقات.
وهكذا، أضيفت للكتابة عندي قيمة جديدة، تحاول أن تميز بين نبرة الصدق الفني والافتعال، وتؤسس لأن تكون الكتابة مركبة لكنها غير مفتعلة، وعميقة بلا ادعاء، كاشفة للسطحي والمبتذل.
أن تكون كاتبا في عالمنا العربي، ربما يبدو اختيارا مأساويا. مأساة حقيقية، لكنها في النهاية مأساة تستحق، ولأن مجتمعاتنا العربية تتغير وسوف تتغير بفضل كل صوت مختلف، وبفضل الكتابة والانحياز إلى قيم العقل والإنسانية وهما معا جسدا دوما الملاذ الذي نجوت بفضله من قدر التغييب والجهل والانسياق للقطيع، وبهما أيضا ستنجو مجتمعاتنا يوما ما.
* روائي مصري، من مجموعاته القصصية القصيرة: «أبيض - أحمر»، و«أشباح الحواس» و«باتجاه المآقي». ومن رواياته: «كهف الفراشات»،و «ابتسامات القديسين» و«أبناء الجبلاوي»