قارئ المقام حامد السعدي يشجو في باريس

الفنان العراقي قدم حفلتين في معهد العالم العربي

فرقة «الجالغي البغدادي» المصاحبة للفنان
TT

مسرح مشتعل وصالة فاترة. هكذا كانت حفلة قارئ المقام العراقي حامد السعدي في معهد العالم العربي مساء الجمعة الماضي. وهي واحدة من حفلتين للجالغي البغدادي تضمنهما منهاج «مهرجان المتخيل» في موسمه الحالي، وفرصة ثمينة لعشاق هذا الفن التراثي الذي لا يشبه النطنطات الغنائية لهذه الأيام.

إن حامد السعدي، تلميذ العملاقين القبانجي ويوسف عمر، هو اليوم أفضل من يؤدي المقام، مستندا إلى حنجرة قوية وحس مثقف مرهف.

يعتمر السعدي السدارة الفيصلية، غطاء الرأس الذي كان شائعا بين الأفندية في النصف الأول من القرن الماضي، ويمسك المسبحة بيده، ويجلس منتصبا على حافة الكرسي، ليغني ألحانا ليست من بنات هذا الزمان. لكن الشكليات ليست هي التي تصنع منه قارئ مقام جيدا، بل محافظته على الأسلوب التقليدي، وعدم انجراره وراء إغراءات السوق. إنه ذلك العاشق لفنه، الذي يغوص باحثا عن النصوص و«البستات» القديمة التي تلقاها من السابقين، ويعود بعضها إلى مائتي سنة، ويسعى لأن يكون أمينا مع جمهوره، فيقدم له في كل حفلة خمرة روحية معتقة.

والمقام، كما ينقل الباحث ثامر العامري عن محمد القبانجي، هو مجموعة أنغام مترابطة مع بعضها ومنسجمة فيما بينها، ذات بداية تسمى «التحرير» ونهاية تسمى «التسليم»، وما بين التحرير والتسليم مجموعة قطع ووصلات يقرأها المغنون دون الخروج على الصيغة التقليدية. وحسب موقع «منتديات بيت المقام العراقي»، فإن «الجالغي» مفردة تركية تعني الجماعة أو التخت الموسيقي، وقد ظل هذا الاسم متداولا لمدة طويلة حتى أضاف إليه الموسيقي الحاج هاشم الرجب صفة «البغدادي»، ناسبا إياه إلى العاصمة لانتشار هذا الفن بشكل واسع فيها قياسا بمدن العراق الأخرى. وتقوم فرقة «الجالغي» على آلات شعبية محلية الصنع، مثل الجوزة والطبلة والقانون والدف.

قدم السعدي في كل حفلة من حفلتيه، منهاجا يختلف عن الآخر. وأدى مقامات أورفة وأوشار والمنصوري والحويزاوي وشرقي رست. وكما تشير الأسماء والكثير من المفردات الواردة في الغناء، فإن بعضها آت من تأثيرات إيرانية وتركية. وكانت قد جرت محاولات، في ثمانينات القرن الماضي، لسلخ المقام عن جذوره الكثيرة والترويج لفكرة أنه فن عباسي عربي خالص. وهي نظرة قد تكون منغلقة لا تعترف بالتمازج بين الحضارات وما ينتج عنه من لآلئ، لا سيما في الفن والموسيقى.

امتلأت القاعة الكبرى لمعهد العالم العربي بالجمهور حتى اكتظت به. وكان الحضور خليطا من عرب وفرنسيين، وهو ما قد يفسر غياب التجاوب المعتاد بين المسرح والصالة في مثل هذا النوع من الفنون الذي يلعب الجمهور فيه دورا في التصفيق الإيقاعي والردة والاستحسان. واستهلت الفرقة حفلتها بمعزوفات موسيقية منوعة وإيقاعات جنوبية ونغم كردي معروف. وبالتأكيد فإن الهدف كان الإشارة إلى التعددية في العراق وثراء مصادره الموسيقية، رغم أن الفنان، مثل أي مبدع، ليس مضطرا للدفاع عن نفسه ضد سلوك عنصري أو طائفي لا يد له فيه.

قبل كل وصلة، كان السعدي يأخذ دقيقتين ليشرح نوع المقام الذي سيؤديه وتاريخه وأشهر من تميزوا بأدائه. كما يلقي ضوءا على البستة، أي الأغنية التي عادة ما تعقب المقام، ويروي الظروف الاجتماعية التي ظهرت فيها وما كانت ترمي إليه، في وقتها، من معان. وطبعا، فإن اختيارات الفنان ليست بريئة دائما، إذ إن «لكل مقام مقال». وهو قد أبدع في تقديم أغنية «المجرشة» التي كتبها الملا عبود الكرخي وظهرت في الطبعة الأولى من ديوانه عام 1933، وجاء فيها: «ساعة وأكسر المجرشة، بلكي همومي تنجلي، وأطلب مرادي وأنتحب، يا أهل المروة وتصطلي، نار اللي بقلبي أسعرت، من أهل الرحم يطفيها؟ ما شفت أحد ينتخي، وألعن أبو اليجرش بعد».

تشير سيرة حامد بن عاشور بن داغر السعدي إلى أنه ولد عام 1956 في محلة باب الشيخ في بغداد، وتربى في بيئة محافظة مولعة بالمقام العراقي، وكان يستمع منذ طفولته إلى كبار مطربي المقام، من أمثال رشيد القندرجي ونجم الشيخلي ومحمد القبانجي وحسن خيوكة ويوسف عمر.. وآخرين. وقد دخل إلى الإذاعة عام 1984، وكان أول مقام أداه هو «سعيد المبرقع»، وقد تميز بإجادته كل المقامات، خصوصا الصعب منها والمنسي. وظل السعدي ملازما لمطربه يوسف عمر في الأداء، ويكاد يكون نسخة منه، لولا الاختلاف في الطبقة الصوتية التي تميز السعدي.