البغداديون يتحدون الظروف السيئة ويمنحون عاصمتهم نبضها الحياتي

في «بغداد النهار.. وبغداد الليل» الناس في واد والسياسيون في واد آخر

TT

كيف الحياة ببغداد بعد مرور أكثر من 10 سنوات على تغيير النظام؟ ما مشاهد حياتها في النهار وفي الليل؟ في زيارات سابقة، رصدت «الشرق الأوسط»، ومنذ 2004، أوضاع حياة بغداد، وكان من الضروري في زيارتنا الأخيرة للعاصمة العراقية أن نسلط الضوء على حياة «بغداد النهار.. وبغداد الليل».

البغداديون هم من يمنحون للمدينة نبضها الحياتي المتواصل، على الرغم من كل شيء.. على الرغم من التفجيرات التي تحدث هنا وهناك، وعلى الرغم من سوء الخدمات، وأهمها الخدمات البلدية وانقطاع التيار الكهربائي، والازدحامات المرورية الخانقة، وعلى الرغم من البطالة التي يعاني منها الشباب من خريجي الجامعات وغيرهم.

يقول العلامة الشهير الراحل الشيخ جلال الحنفي، وهو ابن بغداد، إن «البغداديين ملتصقون بمدينتهم، ومهما ابتعدوا عنها يعودون مثلما تعود الطيور إلى مواطنها الأصلية»، والعراقيون ما عرفوا الهجرة عن بلدهم إلا بسبب سوء الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية منذ بداية التسعينات، وهناك نسبة كبيرة منهم عادوا إلى العراق، وآخرون يبحثون عن فرص للعودة.

الناس في هذه المدينة المترامية الأطراف هم بمثابة الدم الذي يسري في جسد العاصمة العراقية، وعلى الرغم من كل ما تعرضت له بغداد منذ الحرب العراقية الإيرانية مرورا بالقصف الأميركي عام 1991 والحصار القاسي الذي ضرب حول كل العراق، ومن ثم الاحتلال الأميركي للبلد، فإن أهلها بقوا متشبثين بها. في الصباح، يهرع مئات الآلاف من طلبة المدارس والجامعات والموظفين والعمال إلى مواقع دراستهم وعملهم، متحدين احتمالية شديدة الوقوع بانفجار سيحدث هنا أو هناك، ومقاومين لأزمة النقل والازدحامات، بينما نجد أسواقها ومقاهيها ومطاعمها تزدهر بالحضور البشري اللافت.

تقول أم دعاء، وهي سيدة في نهاية الخمسينات من عمرها، ومعها ابنها شهاب الجبوري، طالب جامعي، في سوق الشورجة، كبرى أسواق العراق وأقدمها ببغداد: «نحن تعودنا الحياة الصعبة، ويجب أن نكون أقوى من كل هذه الظروف حتى نعيش برضا ولا نغضب مما يجري هنا، فأنا سعيدة بأبنائي الموظفين والطلبة، ومن أجلهم نواصل حياتنا بصورة طبيعية؛ نتسوق ونتنزه ونفرح في انتظار أن تنفرج الأمور قريبا، إن شاء الله».

هذا الرضا النبيل الذي يؤسس نفوس البغداديين، جعلهم يقاومون اليأس بقوة، يعلق شهاب الجبوري على ما قالته والدته: «نحن نتشدد بانتمائنا لمدينتنا، لأننا لا نملك خيارا آخر؛ أنا ولدت في بغداد مثل أبي وأجدادي، وترعرعت بها، وكل ذكرياتي وحياتي مرتبطة بهذه المدينة التي أعتقد بأنها، بالنسبة لي، هي أجمل مدن الدنيا»، مضيفا: «نعم، نعرف أن السياسيين يفسدون علينا حياتنا بسرقاتهم وصراعاتهم من أجل المناصب، ولا يهمهم أوضاع الناس، لكن هذا لا يعني أن نهمل أو نهجر المدينة التي منحتنا كل أوقاتنا السعيدة», يصمت قليلا ثم يقول وكأنه قد اكتشف معلومة جديدة للتو: «هذه بغداد.. أتعرفون ماذا تعني بغداد؟!»، مشيرا إلى جهة خان مرجان المدرسة المرجانية المبنية في العهد العباسي والمقابلة لسوق الشورجة، ويعلق: «هذه هي بغداد بمدارسها وآثارها القديمة ونهرها الرائع وناسها الطيبين».

في سوق أرخيتة وسط محلة الكرادة (داخل) نرصد بوضوح صخب الحياة، ازدحام الناس في هذه المنطقة التي يمكن تصنيفها بأنها من المناطق الشعبية الراقية والأصيلة، فسكانها لم يتركوا بيوتهم منذ عشرات السنين، وغالبيتهم توارثوها عن عوائلهم. في هذه السوق تُعرض أفضل أنواع الخضار والفواكه إلى جانب محلات بيع السمك النهري الحي الذي يمكن لأي زبون أن يختار ما يريد منه، ومن ثم يتم شي السمك على الطريقة البغدادية (المسكوف)، وفي واجهة السوق يزدحم مطعم أبو أحمد الشعبي الذي يقدم أشهى الأكلات البغدادية، بالزبائن الذين يقصدونه من مختلف مناطق بغداد.

وأنا ألتقط بعض الصور للمطعم قالت لي سيدة عراقية تقيم مع عائلتها في كندا: «في مونتريال قالت لي صديقتي العراقية: إذا ذهبتِ إلى بغداد لا تنسي أن تأكلي عند مطعم أبو أحمد، وها أنا مع عائلتي قصدنا هذا المطعم».

البغداديون يتابعون ويتفاعلون مع ما يجري من أحداث سياسية، ولكن بسخرية مرة للغاية؛ فهم في وادٍ والسياسيون العراقيون في واد آخر، يقول محمد الشكرجي الذي ينتمي لعائلة احترفت منذ عقود طويلة صنع الحلويات العراقية: «نحن لا نراهم إلا على شاشة التلفزيون، بالنسبة لنا هم مخلوقات خرافية غير موجودة في الحياة، نراهم يشتمون بعضهم ويتحدثون عن الوطن والشعب، وكأنهم في أرض هي ليست العراق، ويحكمون شعبا هم ليسوا نحن، حتى أعضاء البرلمان الذين أخطأنا وانتخبناهم لا نراهم، لأنهم يقيمون في كوكب آخر اسمه المنطقة الخضراء».

شباب بغداد هم روحها الحيوية، شباب غير منشغلين بالصراعات السياسية والطائفية والعرقية، بل ينشغلون بالموسيقى والكومبيوتر والقراءة، في مقهى أرخيتة، جلست مع مجموعة من الشباب الموسيقيين من أساتذة معهد الدراسات الموسيقية، على الرغم من صغر سنه من بينهم هندرين حكمت أستاذ آلة السنطور وهو كردي ينحدر من مدينة السليمانية، ومصطفى زاير عازف العود المنحدر أصلا من مدينة العمارة في الجنوب، وعمر زياد عازف آلة القانون وهو من بغداد، وحسين فجر عازف الكمان وهو من وسط العراق، والصحافي حيدر النعيمي من بغداد أيضا، هؤلاء جمعتهم الموسيقى من دون أن تفرقهم انتماءاتهم الدينية أو الطائفية أو القومية، يقول هندرين: «لم يسألني أحد إن كنت كرديا أم عربيا، فأنا أمي عربية، وأبي كردي، ولا أعرف معنى أن أكون سنيّا أو شيعيا»، مضيفا: «لم أسأل أيا من أصدقائي عن انتماءاتهم. ما يهمنا هو أننا كلنا عراقيون وهذا يكفي».