«كان» المذهل

«الشرق الأوسط» في مهرجان «كان» السينمائي (6)

«لمسة خطيئة»
TT

الحفلة التي أقامتها «كانال بلوس» الفرنسية، ليل الأحد الماضي، موزعة فيلم «داخل ليووين ديفيز» للأخوين ناتان وجووَل كووَن كانت مزروعة بنجوم الفيلم، ليس فقط ممثليه الرئيسين (من بينهم كاري موليغن وأوسكار أيزاك وجوستين تمبرلايك) بل أيضا منتجيه وبالطبع المخرجين الشقيقين اللذين يعملان معا منذ أن شقا الطريق في عالم السينما، قبل 29 سنة.

خلال الحفل الذي أقيم عقب عرض الفيلم العالمي الأول، أظهر الجميع فرحهم بالاستقبال الجيد الذي ناله الفيلم. فردات الفعل كانت جيدة، والأخوان اللذان أنجزا حتى الآن 19 فيلما قد يجدان نفسيهما بين قائمة الفائزين هذا العام، إن لم يكن بالسعفة الذهبية، فبواحدة من الجوائز المرادفة.

سألت أوسكار أيزاك، الذي يؤدي الدور الأول في الفيلم، إذا ما كان اختياره للبطولة ورد منذ البداية أو أن اختياره جاء لاحقا، فأكد أنه تابع الفيلم من بدايته وأن التحضيرات كانت تتطلب منه العزف على الغيتار: «لم يكن الغيتار آلة غريبة على يدي، فأنا أجيد العزف والغناء. ما لم أكن أعرف نتيجته هو كيف سينتقل كل ذلك إلى الكاميرا ومنه إلى الشاشة والمشاهد. أنا مذهول من حسن الاستقبال».

جوستين تمبرلايك حين تحدثت إليه وجدته مبهورا بمهرجان «كان»: «هذه هي السينما يا رجل. هذه كل السينما. هناك ذوق مختلف للمشاهدين بعيدا عن حديث الإيرادات في أميركا وجوانب (البزنس) الأخرى.. هل هذا حقيقي؟».

جل ما تستطيع أن تفعله في مثل هذه الحفلات هو أن تسعى لكسب مقابلة تأمل في أن لا تأتي على حساب فيلم تعتبره أساسيا بين تلك المبرمجة للعرض. المهم مثلا أن لا يكون على حساب فيلم تاكاشي ماييكي «ترس من القش» أو فيلم هاني أبو أسعد «عمر» أو فيلم بيبلو سارنتينو «جمال عظيم»، أو أي واحد من تلك الأفلام التي جئت إلى «كان» لمشاهدتها. والحظ الحسن كان معنا؛ المقابلات في اليوم التالي جاءت بعد الظهر على حساب فيلم فرنسي لفالريا بروني داتشي عنوانه «قلعة في إيطاليا» يمكن التقاطه بعد أشهر معروضا في مكان آخر بلا شك.

* فيلم صيني ينتقد الصين بينما الغرب يهادن

* هناك سرقة جديدة بعد يومين على السرقة الكبيرة التي قيل إن قيمتها تجاوزت المليون دولار. هذه المرة الضحية نجم مشهور هو كيانو ريفز وحدثت قبل ساعات قليلة من توجهه إلى المؤتمر الصحافي الذي كان سيعقد لترويج فيلمه المقبل «رجل تاي شي». على عكس السرقة التي وقعت في أحد الفنادق وذهب ضحيتها رجل أعمال سينمائي، فإن السرقة الجديدة تمت في شقة فخمة تم استئجارها مواجهة للبحر وفي ساعة غاب ريفز عنها. حين عاد ريفز من حفل العشاء وجد باب شقته مفتوحا وحقائبه جميعا مفقودة، بما فيها من مال ووثائق.

هذا أغضب الصينيين كثيرا. فإلى جانب أنهم وراء الفيلم إنتاجا وتمويلا واحتفالا، كانوا يعتبرون هذا الفيلم نقلة جديدة في الإطلالة عالميا وتثبيت أهمية السوق الصينية بالنسبة للإنتاجات العالمية بأسرها. إلى ذلك، فإن رسالة شديدة اللهجة موقعة من نائب رئيس شركة «تشاينا فيلم غروب»، واسمه زانغ كيانغ، ذهبت إلى رئيس المهرجان جيل جاكوب والمدير الفني تييري فريمو احتجت على اللامبالاة التي أبداها المهرجان حيال ما حدث، وذلك حسب كيانغ الذي قال في رسالته إن الإدارة الرسمية لم تبدِ أي موقف إيجابي حيال الحادث، وإن العاملين في إدارة المبنى السكني الذي وقعت فيه جريمة السرقة كانوا عدائيين وسلبيين حيال الموضوع، ولم يبدوا أي تعاطف، مما زاد الشعور بامتعاض الصينيين والممثل المعروف على حد سواء.

وحسب كلمات كيانغ، فإن الفرنسيين «شعب متعال جدا» والأمن «منعدم».

هل سينال ذلك من صيت المهرجان الفرنسي؟ طبعا لا. لكن أحدا هذه الأيام لا يستطيع أن يغضب الصينيين حتى ولو كان المهرجان الذي سارع، إثر تلك الرسالة التي نشرت مقتطفات منها على «تويتر»، للاعتذار إلى ريفز وكيانغ، كذلك فعلت إدارة المبنى.. طبعا لا شيء سيعيد الحقائب المسروقة، ولا ذكرى ما حدث.

لكن عبارة «لا أحد يستطيع إغضاب الصينيين» ليست مناطة بهذا الحادث على الإطلاق. في الأشهر والأسابيع الماضية، ونسبة لارتفاع الإقبال على الأفلام الأميركية والحصة الكبيرة من السوق الصينية التي باتت في حوزة شركات «هوليوود»، شهدنا دلائل تؤكد أن هوليوود حذرة كل الحذر حين يأتي الأمر لاحتمال إغضاب الصينيين.

* تم تغيير ملابس الجنود الذين يغزون الولايات المتحدة في نسخة العام الماضي من «فجر أحمر» من صينيين إلى كوريين شماليين، وذلك بعد تصوير الفيلم.

* تم إعداد نسخة خاصة بالصين من فيلم «آيرون مان 3» لم توزع خارج حدود البلاد لكنها تختلف في بعض التفاصيل اتقاء للرقابة الصينية، ومطالباتها بتخفيف حدة العنف.

* انطلق المخرج والمنتج كوينتين تارانتينو ومعه مسؤول من شركة صوني الموزعة إلى بيكينغ في أعقاب قرار رقابي صدر بمنع الفيلم من العروض، قبل ساعات قليلة من العرض الأول، ومحاولتهما ثني المسؤولين عن تفعيل ذلك. المحاولة نجحت لكن الإيرادات تأثرت كثيرا.

* هناك مدارس للسينما في لوس أنجليس ونيويورك تضع في مناهجها حصصا حول «كيفية تجنب الرقابة الصينية»، وذلك بالاطلاع على قوانينها ومحاولة تطويع الأفلام المنتجة التعامل مع تلك القوانين.

* نقد رباعي

* على شاشة «كان»، فإن الفيلم الصيني «لمسة خطيئة» للمخرج جيا زانغ يعكس صورة مختلفة للصين. صورة لا يمكن لجهة إنتاجية أخرى توفيرها على أساس عرض داخل الصين. لكن الإنتاج الصيني يُعامل على نحو مختلف. على الرغم من ذلك، فإن قرارا صينيا جاهزا عادة للصدور بمنع أفلام صينية تحوي نقدا للواقع، وهذا الفيلم قد يصل إليه «إيميل» أو رسالة مسجلة بريديا، بالقرار في وقت قريب.

إنه فيلم من إخراج جانجي جيا ومؤلف من 4 حكايات. بعد مقدمة لراكب دراجة نارية يعترضه 3 شبان مسلحين بهراوات وسكاكين، فيطلق النار عليهم ويرديهم ثم يواصل انطلاقه، نلج القصة الأولى التي تكفي وحدها، لو شيء لها أن تتحول إلى فيلم كامل، لأن تقول الكثير عن الوضع الصيني اليوم: هذا رجل اسمه داهاي (وو جيانغ) واثق من الفساد المستشري في إدارة عمالية في الريف. المدير العام لتلك الإدارة يعيش مترفا ومحاطا برجال أمنه بينما العمال يعيشون أوضاعا مزرية. لكن داهاي لن يسكت. سيحاول كشف تلاعب المحاسب والمسؤول المحلـي، وسيواجه المدير العام ليكتشف، بعدما هاجمه أمن المدير العام وضربوه، بأن الفساد عمود الإدارة الفقري. يأخذ بندقية صيد، وينطلق منتقما، وصولا إلى المدير العام ذاته. في نهاية الفيلم، يمر ثانية على رجل كان يعامل حصانه بقسوة بالغة، بضربه بالسوط. يرفع داهاي بندقيته، ويقتله أيضا.

اللقطة الأخيرة وقد أفلت الحصان (بموت صاحبه) من خوفه، وها هو ينطلق بعيدا. في الحكاية الثانية نتعرف مجددا على الرجل الذي قتل الثلاثة في التمهيد. متزوج ولديه ولد، وعاد ليزور عائلته. ربما خطر له أن يستقر، لكن من نتائج الوضع الاقتصادي الحالي أن أمثاله لن يجدوا عملا يساعدهم على الاستقرار، وهو سيعمد إلى جريمتي القتل والسرقة ليعيش. الثالثة عن فساد من نوع آخر نجده في حكاية المرأة التي تعمل في محل «سونا». زبون يريد الاعتداء عليها. تقاومه وتقتله ثم تنطلق لنهايتها، وهذا بعدما تعرضت للضرب على يدي عائلة زوجة عشيقها. الحكاية الرابعة حول شاب لا يجد في الأعمال اليدوية الصغيرة في المصانع ما يكفي لسد الرمق. طموح الشباب ولى بمعظمه، وما بقي منه لا يكفي لمقاومة رغبته في الانتحار.

جانجي جيا ليس بعيدا عن هذا النقد الاجتماعي. فيلمه السابق «حياة ساكنة»، الذي فاز بذهبية مهرجان فينيسيا قبل سنوات ليست ببعيدة، نموذج على نقده لتحولات الصين بعيدا عن تأمين حاجيات الناس الطبيعية. تطورها الصناعي والاقتصادي يتم على حساب البيئة (في ذلك الفيلم) وعلى حساب المواطن في هذا الفيلم رباعي الاندفاع. «لمسة خطيئة» ليس فيلما كامل الإجادة، خصوصا أن تلخيص الحكايات يُصيب العمل بحالة من عدم الاكتفاء دراميا. لكنه مصور بلمسات مدير تصوير جيد هو يو ليكواي الذي يصور كل أعمال هذا المخرج. والاثنان يلتقطان التفاصيل المعنية بكثير من الدراية في فيلم لا يتلاشى سريعا، ولو أنه من غير المحتمل أن يخرج الفيلم فائزا بالسعفة الذهبية، إلا إذا أراد رئيس لجنة التحكيم ومهرجان «كان» فتح مواجهة مع النظام الصيني.

* مقابلات كان

* جوستين تمبرلايك لـ «الشرق الأوسط»: ثلاثة لا أتحدث فيها هي الدين والمال والسياسة

* يؤدي المغني والممثل دورا مساندا في فيلم «داخل لووين ديفيز»

* يؤدي المغني والممثل جوستين تمبرلايك دورا مساندا في فيلم المسابقة «داخل لووين ديفيز» لاعبا شخصية مغني «فولك» في نادٍ ليلي في مطلع الستينات. لا يفعل الكثير في هذا الفيلم لكن شخصيته مرسومة بالدقة ذاتها التي رُسمت بها شخصية الممثل الأول أوسكار أيزاك.

* من المفرح أن نراك في هذا الفيلم، ومفرح أيضا أن أسطوانتك الجديدة «مرايا»، في المركز الثالث هذا الأسبوع.

- نعم، سعيد لذلك. باعت للآن 10 ملايين نسخة، وهذه أسطوانتي الأولى من عام 2006

* هل وجدت التوازن إذن بين عملك كممثل ومهنتك كمغنٍّ؟

- أعتقد ذلك، لكني في الحقيقة تأخرت في العودة إلى الغناء عن قصد. كنت أبحث عن السبب والسبب عندي هو أن تكون لدي ملكية الكلمات والألحان. أقصد أن أجد ما يدفعني للتسجيل. هذا تأخر لكنني كنت راضيا عن تأخره، ريثما أجد المادة الصحيحة. بالنسبة للتوازن، لا أرى أن هذه المسألة تقلقني كثيرا.

* هل يهمك الدور أكثر من البطولة؟

- صحيح. «داخل لووين ديفيز» هو مثال على ذلك. كان بوسعي طبعا البحث عن فيلم آخر أقوم ببطولته لو أردت. لكن مع سيناريو جيد ومع مخرجين بمثل منزلة الأخوين (جووَل وإيتان) كووَن لم يكن هناك أي مانع عندي من أن أقوم بالدور. لا أهمية لدي ما إذا كان الدور بطولة أو ثانويا. المهم، هو أن أكون في هذا الفيلم أو في أي فيلم جيد آخر.

* هل هذا كان منطلقك عندما مثلت دورا مساندا أيضا؟

- في «المتاعب عند المنحنى» لكلينت إيستوود؟

* طبعا، لدرجة أنني رضيت بأن أجري امتحان قبول لأجل الفوز بهذا الدور. وأنا سعيد بأني فعلت ذلك. عندما قرأت السيناريو أول مرة شعرت بأنني أقرأ سيناريو عن أشخاص حقيقيين. هذه هي ميزة السيناريو، بل الفيلم بكامله. شعرت بأنها الشخصية التي لم أقدمها بعد.. شخصية عادية من تلك التي لا تحتاج لضخ المزيد فيها لكي تبدو منتفخة ومختلفة. يكفي أنها طبيعية، وهذا شأن كل الشخصيات الأخرى، بما فيها تلك التي لعبها إيستوود نفسه.

* في تلك الآونة بعد انتهاء ذلك الفيلم ظهر إيستوود في ذلك المؤتمر الذي عقده الحزب الجمهوري، وأدار «مونولوغا» بينه وبين أوباما.. ماذا تقول في ذلك؟

- له حق دستوري في قول ما يريد، ولي الحق الدستوري في أن لا أقول شيئا (يضحك). هناك 3 مواضيع، لا أكترث في الحديث فيها هي الدين والمال والسياسة.

* ما الخصال التي تأصلت في نشأتك العائلية، والتي لا تزال تؤثر في قراراتك أو في شخصيتك؟

- أعتقد أن والديّ كانا ولا يزالان معلمين أساسيين عندي. أعني أنني تمتعت بخلفية مثيرة للاهتمام، حين نشأت في بلدة صغيرة قبل أن أنطلق لأجوب العالم، ولأعرف عنه المزيد. هذا قبل عودتي إلى بلدتي الصغيرة خارج مدينة ممفيس. لقد ترعرعت كما أراد لي والداي، لذلك تأثيرهما عليّ كبير. حين كنت صغيرا قالت لي أمي: أنت تملك موهبة كبيرة في داخلك. وأنا هنا لمساعدتك لكي تبلورها على النحو الصحيح. أريدك أن تحقق لنفسك ما تريده في هذه الحياة وأنا سأساعدك على أن تكتشف هذه الموهبة التي ستغير حياتك إلى الأبد.

* هل ما زالت علاقتك بهما قوية؟

- نعم. هما دائما معي ليس ماديا، لكن كحضور معنوي. أنظر إليهما كمثالين، وكثيرا ما أستشيرهما في قراراتي، وحتى حين لا أفعل، فهما حاضران في حياتي.

* هل من نماذج أخرى في حياتك؟

- كلينت إيستوود لأنه خاض السينما متحولا من ممثل مساند إلى ممثل رئيس، ثم إلى مخرج ومنتج ذي اسم كبير. هو يمثل طموحي. أيضا أتطلع إلى المخرج ديفيد فينشر («سبعة») بإعجاب شديد. وحين تكون عندي أفكار ما أعرضها عليه طلبا للنصيحة.

* ما طموحاتك التي لم تحققها بعد؟

- اشتريت قبل أشهر قليلة سيارة موديل السبعينات، وكان هذا آخر طموح لي حققته (يضحك). جديا؟ ما أقوم به اليوم كممثل وكمغنٍّ وكمنتج يمثل طموحا متواصلا. أقصد أن طموحي هو أن أستمر في عملي وأن أحافظ على علاقتي مع الحياة، لأنها أفضل معلم وعلاقتي معها تثري تجاربي في كل الجوانب.

* كيف تتعامل مع الشهرة أو النجومية كونك معروفا جدا في سوق الغناء والتمثيل؟

- هذا لا يشغلني كثيرا. أسمع. لقد نموت أمام الناس. بدأت شابا صغيرا أمام جمهور من المحتشدين وشهرتي لم تتم بمعزل عن الجمهور الكبير، أعلم أن كثيرا من الأسماء الفنية والاجتماعية يشكون من «الباباراتزي» والصحافيين والفضوليين، لكني لا أفعل ذلك، بل أتعامل مع الأمر على نحو طبيعي تماما. هذا هو بعض الثمن الذي على المرء أن يدفعه إذا ما أصابته الشهرة، فلمَ أشغل نفسي بمحاولة تجنبه؟

* أفلام اليوم

* فيلمان وسؤال واحد: هل الرغبة في الحياة خطأ؟

* لا يعرف المخرج الفرنسي كلود لانزمان معنى الإيجاز. فيلمه «شواه» (1985) تألف من 9 ساعات ونصف الساعة (هناك نسخة من 8 ساعات ونصف الساعة أيضا) تاركا أكثر من تجسيد لذكرى الناجين من الهولوكوست: قدر كبير من الملل. الفيلم الجديد يقترب من 4 ساعات، وموضوعه مقابلة أجراها المخرج مع بنجامين مورملستين الذي وثَّق الكثير من تاريخ التجربة اليهودية المرة مع النازية. فيلم وثائقي مصنوع بغاية إبقاء الذاكرة حية، بصرف النظر عن أن العالم اتجه سياسيا وثقافيا في دروب مختلفة بحيث تبدو تجربة «الهولوكوست» على هولها، واحدة من الكوارث الإنسانية الكبيرة التي سبقت الحرب العالمية الثانية أو تبعتها (يكفي ذكر مذابح ستالين لقومه مثلا) أو حتى واكبتها.

الموضوع في فيلمه الجديد «آخر المظالم» مثير للاهتمام من الناحية الرصدية وحدها: بنجامين مورملستين هو آخر اليهود الأحياء الذين قام النازيون بتعيينهم مشرفين على المعسكرات التي خصصت لليهود. منطقته كانت تشيكوسلوفاكيا (عندما كانت دولة واحدة قبل انفصال سلمي أدى إلى خلق دولتين هما جمهورية التشيك وجمهورية سلوفاكيا). المقابلة المصورة قام بها لانزمان سنة 1975 وعودته إليها هي نوع من النبش أكثر مما هي حاجة المشاهد لفيلم آخر عن الهولوكوست. على الرغم من ذلك يفتح الفيلم العين على رجل سجل في البال كما في الوثائق أهوال ما عايشه من حالات وأوضاع. لكن لا شيء في الفيلم هو أكثر إثارة للحديث من حقيقة أن مورملستين يبقى متعاونا مع النازية سواء أكان يهوديا أم لا، أو كان مجبرا على ذلك أو قبل لأجل البقاء حيا. هذه الحقيقة لا يمر عليها الفيلم سريعا، وهي ليست مطروحة اليوم فقط، بل سبق طرحها من قبل مؤرخين يهود (بينهم غرشوم شولم)، الذي حكموا على مورملستين بأنه مذنب، بل طالبوا بأن يتم شنقه.

فيلم لانزمان لا يستطيع إلا أن يفتح باب النقاش مجددا حول هذه النقطة؛ هل رغبة البقاء حيا في أزمة كتلك التي عصفت بملايين الناس خلال الحرب العالمية الثانية هي جريمة بحد ذاتها أو حق من حقوقه؟ هل كان عليه أن يمتنع عن إدارة المعسكر، وما كان يحدث فيه من قتل، ويرضى بأن يدفع حياته ثمنا لامتناعه أو أن يستجيب؟

لا ريب أن السؤال ليس سهلا، والإجابة عنه أصعب من ذلك. بالتأكيد ما رواه مورملستين أمام الكاميرا كان مؤلما له اليوم، كما كان مؤلما له بالأمس. الفيلم في ساعاته الـ4 ليس عملا فنيا، بل هو أقرب إلى أطروحة تاريخية من الصعب أن تجد جمهورا لها خارج المعنيين أساسا بالموضوع. هناك أسئلة ذكية، وإجابات لا تقل عنها ذكاء. حين سأل لانزمان محدثه: «كيف تستطيع أن تتحدث في هذا الموضوع من دون أن يبدو عليك التأثر؟» أجابه محدثه: «لو أن الجراح يبكي فوق المريض على طاولة العمليات لقتله». هناك استخدام جيد للوثائق، لكن لا شيء في 4 ساعات، لم يكن من الممكن تلخيصه إلى ساعتين أو حتى أقل. طبعا، كون الفيلم معدّا بتوليف جديد بهدف التوزيع هذا العام، فإن الكثير من المشاهدين سيتساءلون، ليس بالضرورة عن جدواه (بعد عشرات الأفلام التي بحثت في هذا الموضوع على نحو أو آخر) بل عن ابتعاده عن طرح الحاضر حول ما يحدث في فلسطين.

«عمر»

* السؤال الصعب حول حق الحياة وتفضيل ذلك على الموت يتبدى كذلك في فيلم المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد (تم تقديم الفيلم رسميا على أساس أنه اشتراك فلسطيني في مسابقة «نظرة ما»). بطله (أدام بكري) شاب يقع في الحب وحبيبته هي ناديا (ليم لباني) شقيقة صديقه المقرب طارق (إياد حوراني). صديق آخر هو أمجد (سامر بشارات) والثلاثة يخططون لقتل جندي إسرائيلي.. في قرى فلسطين المحتلـة تستطيع أن تتظاهر وسيتعرض لك الأمن الإسرائيلي بقسوة، أن تظهر حنقك وغضبك حيال المعاملة غير الإنسانية وسيهدونك منها المزيد، لكن أن تقتل جنديا إسرائيليا فهذه هي الجريمة التي لن يغفرها الإسرائيليون، وسوف يلاحقونك للقبر، كما يقول له ضابط الاستخبارات الذي يجيد الحديث باللكنة الفلسطينية، لدرجة أنه يوهم عمر بأنه فلسطيني مثله (وليد زعيتر الذي هو منتج الفيلم أيضا). يبدأ الفيلم بالجدار المنتصب عاليا، ومهارة عمر في تسلقه للطرف الثاني من الأرض، ولو أن رصاص الجنود سيتطاير، مما سيعيده سريعا إلى حيث أتى. بعد ذلك هناك الدورية التي توقفه وتزدريه، ثم تطلب منه الوقوف على حجر ويديه فوق رأسه. أفراد الدورية يتسامرون وهو لا يستطيع أن يتحمل. ينزل عن الحجر ويعود فيبادره جندي بضربه بكعب بندقيته: «الآن اذهب وقف على قدم واحدة فوق ذلك الحجر».

هنا يكون المخرج أبو أسعد نجح في شحن الموقف عاطفيا وجلب الجمهور لصف بطله. شحن يعتمد على المشاعر الجاهزة بلا ريب لكن كل ذلك سيتعمق حين يمضي الفيلم في سرد ما يلاقيه عمر في سعيه للوصول لمن يحب. فبعد قتل الجنود يمسك به أفراد الجيش ويسلمونه للمحققين الذين يعذبونه، ثم يستقبله الضابط رامي الذي يخيره: السجن أو العمالة. يطلق سراحه على أساس شهر من التجربة عليه فيها المساعدة في تسليم القاتل. الضابط يعتقد أن طارق هو الفاعل لكن أمجد هو من أطلق النار.

ووضع عمر دقيق حتى حيال صاحبيه وحيال حبيبته. هذا الوضع الدقيق يبلور - لجانب سقوطه ضحية الاستخبارات - وضعا متعدد الجوانب وأكثر تعقيدا. ومهارة المخرج أبو أسعد هي أنه عرف كيف يتعامل مع كل الجوانب من دون خطابات أو سياسات مباشرة، ويمنحها جميعا صوتها المألوف لكي تصف به مصالحها المتناقضة.

كما الحال في «الجنة الآن»، فيلمه السابق الذي أوصله إلى ترشيحات الأوسكار الرسمية، فإن الموضوع هنا هو تردد فلسطيني في لعب الدور الذي يُفرض عليه. في الفيلم السابق كان على بطله أن يقوم بتفجير انتحاري لصالح الفلسطينيين (لكن ليس لصالح فلسطين) لكنه يمتنع. هنا عليه أن يقوم بالتجسس على الفلسطينيين لكنه يمتنع. الجانب العاطفي يلعب دورا كبيرا (لا ضرورة للإفصاح عن طبيعته هنا) يؤدي إلى النهاية المتفجرة التي يخلص إليها الفيلم.

3. Last of the Unjust «آخر المظالم» 4. Omar.jpg لقطة من «عمر»