كل شيء في ميدان التحرير.. إلا اليأس

«شاي» و«ذرة مشوي».. و«ثورة»

آلاف المعتصمين ممن قضوا ليلتهم بالتحرير أول من أمس انتظارا لوصول المسيرات المعارضة صباح أمس (رويترز)
TT

«شاي» و«ذرة مشوي» و«ترمس» و«حمص الشام» و«أرز بلبن» و«ثورة».. هكذا بدا ليل ميدان التحرير، أيقونة الثورة بقلب القاهرة، وكأنه يستعيد موجتها الأولى، وينفِّض عنها ما اعتراها من غبار واعوجاج وأقنعة، حولتها على مدار عامين ونصف إلى نص هزلي مشتت الدلالة والمعنى.

منصة عالية تتصدر واجهة الميدان، يتناوب عليها شباب وشيوخ ونساء وناشطون سياسيون من كل الأطياف الثائرة، في مشهد يعيد الأذهان إلى ثورة «25 يناير (كانون الثاني) عام 2011، حيث تحول الميدان إلى عرس يومي، تتناوب عليه الأفراح، واستطاع على مدى 18 يوما من الصبر والإرادة والصمود أن يسقط نظام حكم استمر 30عاما.. فعلى المنصة الكل يلقي كلمته بحماس عفوي تاركا الفرصة لغيرة، وفي محيط المنصة يرفرف العلم المصري في أيدي المتظاهرين، مشكلا بألوانه الأسود والأبيض والأحمر كرنفالا حيا من الغضب والفرح البادي على الوجوه. وبين لحظة وأخرى تلتهب حنجرة السماء بالهتافات، وتتحول إلى كتلة من الوهج المباغت كلما انطلقت الشماريخ والصواريخ الفسفورية المضيئة.

حالة من التوحد بالشعار والفكرة والأمل تطالعك في وجوه الحشود التي تجوب أطراف الميدان، وتصدح بالهتافات على إيقاع الطبل والمزمار البلدي، بينما يرد عليها حشد من الشباب في الطرف المقابل بنفير الـ«فوفوزيلا»؛ هذه الزمارة التي لفتت الانتباه بقوة في مونديال جنوب أفريقيا قبل عدة أعوام.

أحد الشباب من باعة الرايات والأعلام وبطاقات الاحتجاج يروج لبضاعته ويهتف بحماس: «إدي لظلمك مِيْت شلوت.. مصر هترجع بنت بنوت».. استثارني الشعار، اقتربت منه، وقبل أن أسأله بادرني قائلا: «أنا عاطل ومعايا بكالوريوس تجارة، أنا بخدم الثورة.. أنا من الثوار.. بلدنا تعبت.. حقوقنا ضاعت.. ثورتنا لازم تنجح».

ولم تقتصر الملصقات الغاضبة وبطاقات الاحتجاج على الحشود المتراصة في عمق وأطراف الميدان.. تناثرت على واجهات عربات الباعة الجائلين، وباعة الشاي والمشروبات الشعبية، بداية من بائع «الذرة المشوي» و«الأرز بلبن» و«حمص الشام»، حتى باعة الصحف على أرصفة الشوارع المتقاطعة مع الميدان.. وكأن لسان حالهم يقول للثوار الغاضبين: «نحن جزء من المعادلة.. لا تتجاهلونا»، في مشهد يذكرك بجنازة الفتي بائع البطاطا الذي قضى نحبه قبل نحو عام في محيط الميدان برصاصة طائشة، حين تصدر الباعة الجائلون بعرباتهم جنازته الشعبية بالميدان.

وفي الأطراف والعمق وتقاطعات الشوارع الجانبية، تتنوع ليالي الميدان وأمسياته.. حالة من الدفء تختصر الماضي والحاضر وتطل بقوة على المستقبل، تلمحها في وجه طفلة لا تتجاوز العاشرة، لم تكتف بأن تمسك علم مصر بيدها الغضة، بل طبعته على خديها وفي جبهتا، وكأنه نافذة الأمل التي تحرس خطواتها الصغيرة في دروب الحياة الوعرة.

تنحني الطفلة على سيدة عجوز مشرقة الوجه تجلس على حافة الرصيف الكبير المرتفع قليلا في مواجهة المنصة، ثم تقبلها ببراءة، وتلوح بالعلم في الهواء. تقول السيدة، وهي موظفة على المعاش: «أنا هنا مع أسرتي الصغيرة وحفيدتي.. أنا فخورة بهذا الشعب العظيم، بهذا الشباب الطاهر المخلص لمصر.. والله شوية الهوا دول ردوا ليّا روحي وضغطي أصبح زي الفل.. أنا حاسة إني بتولد من جديد.. ربنا يحرسهم لشبابهم ولمصر».

على مقربة من السيدة العجوز تناهي إلى مسمعي حالة من الجدل بين بعض الحضور، محفوفة بهواجس ومخاوف من تكرار سيناريو السودان في مصر وتقسيمها إلى دولتين؛ واحدة في الشمال وأخرى في الجنوب.. المدهش هو كم المعلومات والأفكار المتداولة بين المتجادلين، التي تبدو أنها مستندة إلى دراسات وتحليلات متنوعة.

يعلق الكاتب والشاعر الصحافي، محمد الحمامصي، أحد المخضرمين بالميدان، على هذا المشهد قائلا: «الثورة أظهرت معدن هذا الشعب العظيم، طفا على السطح بلا حواجز أو خوف. ولذلك أصبح يشكل خطرا على أي حاكم وأي نظام، وينبغي أن يحسب له ألف حساب».

ومع ارتفاع الهتافات والأغاني الوطنية التي تدوي في فضاء الميدان، بصعوبة تسللت إلى مقهى بأحد الشوارع الجانبية لالتقط الأنفاس، لكن المقهى لم يسلم أيضا من جو الميدان، فعلى بابه الزجاجي يلفت نظرك ملصقان؛ أحدهما مطبوعة عليه صورة رئيس البلاد، والآخر صورة السفيرة الأميركية، وتقطعهما علامة (إكس/×) باللون الأحمر.. بينما يهتف نادل المقهى: «عندك واحد (شاي الثورة) سكر خفيف بالنعناع».