الأرابيسك يعيد سوق «خان الخليلي» القاهري إلى زمن الأندلس والفاطميين

الأسطى حمامة أشهر صناعه: أشعر بانشراح كلما أفرغ من قطعة جديدة

مجموعة من تحف الأرابيسك المطعمة بالصدف («الشرق الأوسط»)
TT

أروقة كثيرة داخل الحي العريق لا بد أن تطأها قدماك قبل أن تصل إلى «وكالة السياحة» داخل سوق خان الخليلي بحي الحسين الشهير بالقاهرة. وبينما تتجول داخل الحي تنبعث من الجدران المحلات والأبنية رائحة التاريخ بعبقها القديم. العديد من التجار فرشوا بضاعتهم للعرض على المارة، وآخرون عرضوها داخل المحلات، بينما جلس بعض الفنانين الجوالين يغنون لمرتادي المقاهي الشهيرة بعض الأغاني التراثية، وفي آخر السوق تطل «وكالة السياحة» التي اشتهرت كأشهر ورشة لتصنيع الأرابيسك منذ عقود طويلة لترسم ملامح المكان التراثي بامتياز، حيث التحف المصنوعة من الخشب المعشق والزجاج والنحاس، وكلها مواد صاغ منها الفنان المصري ملامح الشخصية الشرقية المصرية.

وسط هذا الجو وعلى مقعد خشبي كبير مزدان بالنقوش يجلس علي حمامة «ملك الأرابيسك» كما يلقبونه، وحوله العديد من التحف الفنية التي صاغها بيده تغمره والمكان بالراحة والطمأنينة. يقول حمامة، وهو يشد ببطء أنفاسا من نرجيلته المزخرفة «بدأت في هذه المهنة منذ سن مبكرة، ابن 8 سنوات، وتشربتها على يدي أبي الذي ورثها عن أجدادي البالغ عددهم 18، فالمهنة متوارثة في العائلة التي بدأتها منذ ما يقرب من الـ900 عام، وتوارثوها جيلا بعد جيل، كما أن سر تفردنا بها يعود إلى الحب، فأنا أحب مهنتي جدا وأستمتع بها، وأشعر براحة نفسية غامرة عندما أنتهي من قطعة فنية جميلة». ويضيف «حبي للمهنة دفعني لتطوير الفن الإسلامي من خلال الدمج بين الحضارات، فقمت بدمج الحضارة الفرنسية بالمصرية لتخرج الدواليب اللوكينزي والالبير، كذلك الحضارة الفارسية التي دمجتها بالعربية، ولدي العديد من التحف الممزوجة ما بين العصر الروماني والبابلي والآشوري والفرعوني والأندلسي».

ومصريا، ازدهر فن الأرابيسك في العصر الفاطمي، وأخذ في التطور مع العصر العباسي والأيوبي وعصر المماليك، وأخذ أشكالا جديدة، لكن أوج عصوره كان مع بداية العصر العثماني الذي شهد أزهى عصور الأرابيسك على مر التاريخ، كما يعتبر فن الأرابيسك أحد أشكال الفنون الهندسية الإسلامية التي ظهرت نتيجة امتزاج الحضارة العربية وتطورها في العصر الإسلامي الذهبي مع الشعوب الأخرى، إلا أنه كان جليا لدى الأندلسيين الذين طوروه بشكل كبير لا سيما في مجال الأعمدة ونصف الأعمدة المربعة وفوق الجدران وعلى الأسقف، بجانب زخرفة المساجد والقصور والقباب بأشكال هندسية أو نباتية جميلة تبعث في النفس الراحة والهدوء والانشراح.

يتابع حمامة قائلا «الأرابيسك يشرح الصدر ويبعث الطمأنينة، وهو فن فيه حياء الدين، كذلك فيه التأمل، فنجد دار العبادة أيا كانت ديانتها مصنوعة من الأرابيسك الذي تتنوع أنواعه ما بين الكنائسي والميموني والسهاريجي والمسدس والمنجوري وغيرها من الأشكال الهندسية المعروفة عالميا، ورغم انتشار فن الأرابيسك عالميا فإنه يتميز في مصر بالدقة الحرفية العالية، كما أن حرفة الأرابيسك تتطلب مهارة عالية وحبا للمهنة وإحساسا وروحا عالية وهو ما يتوافر في الشخصية المصرية وساعد على ازدهار الفن بمصر بشكل كبير».

وسمي فن الزخرفة الإسلامية في أوروبا بـ«أرابيسك» وبالإسبانية «التوريق». وقد اشتهر الفنان المسلم قديما بالفن السريالي التجريدي حيث الوحدة الزخرفية النباتية كالورقة أو الزهرة، وكان يجردها من شكلها الطبيعي حتى لا تعطي إحساسا بالذبول والفناء، ويحورها في أشكال هندسية حتى تعطي الشعور بالدوام والبقاء والخلو. كما أن للأرابيسك زبائن محددين يحبون الفن ويعشقونه وينشدون الأفضل منه ويحرصون على اقتناء، وكما يقول حمامة «كل الدول العربية هم زبائن لفن الأرابيسك ويعشقونه خاصة من دول الخليج، أما الدول الأوروبية فهناك العديد منها مثل فرنسا التي تهتم به كثيرا كمعلم حضاري تراثي كبير، ورومانيا واليونان وإيطاليا كذلك».

وحول ذكرياته مع فن الأرابيسك يقول «قمت بعمل تصاميم للعديد من المشاهير والعائلات الكبيرة في مصر والكويت والإمارات والمغرب، ولعل أشهرهم الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين، والشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي، ولكن من أشهر المباني التي قمت بتصنيع الأرابيسك بها كان مسجد الشهيد بغزة الذي قمت بتصميم قبلته من الصدف، وهو ما كان جديدا من نوعه حيث كان السائد هو كسر الرخام أو فسيفسات أو السيراميك، كذلك قمت بعمل مرمات كنيسة مار جرجس ومعبد سالويك اليهودي باليونان».

ويعتمد الأرابيسك على خامات محددة من الخشب كان يصنع منها قديما، ونظرا لارتفاع أسعارها أو عدم توفرها بالأسواق فقد لجأ العديد من الحرفيين التجار إلى خامات أخرى ليست أكثر أصالة منها، كما أن استخدامات الأرابيسك اختلفت عما سبق مما أضفى نكهة جديدة على التصميمات بشكل عام. ويضيف حمامة ممسكا بإحدى القطع لينظفها «الأرابيسك يمكن تطويعه حسب الغرض من استخدامه، ففي الماضي كانت صناعته تقتصر على الشبابيك، والحرملك والسلاملك والدوانية أو الجلسة التي كانت توجد في أي بيت قديم، أما الآن فتنوعت استخداماته ما بين صالات الفنادق الكبرى وبعض المقاهي ذات الطراز القديم بجانب بعض الطلبات الخاصة بالزبائن، ولكن يظل العامل الأهم هو ألا تفقد الحرفة أو التحفة هويته، كما أن أسعار الأرابيسك اختلفت عما سبق وذلك نظرا لارتفاع أسعار الخامات، والشغل اليدوي الموجود به، فالبارافان سعره يصل إلى 1600 جنيه، وهناك بعض أطقم الكراسي التي تبدأ أسعارها من 9 آلاف جنيه وتصل إلى 50 ألفا، ومن الممكن أن ترتفع حسب الخامة المستخدمة، وأفضل خامة هي المصنعة من خشب الصندل الذي يبعث رائحة عطرة في المكان الموجود به».