في عام 1909 قام الرسام الفرنسي فاسيلي كاندينسكي، المولود في روسيا سنة 1866 والمتوفى سنة 1944 بوضع لوحة مرسومة بالزيت سماها «صورة مع رامي» أو النبال. لكن الناظر إليها، وهي موجودة اليوم في متحف نيويورك للفن المعاصر، عليه أن يبحث بين الألوان الداكنة والأشكال الغريبة التي تحتل معظم مساحتها عن ذلك الرامي. بعد قليل من التمعن قد يجدها في أسفل الصورة إلى اليمين: حصان يقفز وفوق صهوته رجل بقوس وسهم.
نعم، هناك أشكال أخرى يمكن تمييزها بعد حين، وبصعوبة أكبر، لكن كاندينسكي لم يكن يهمه الإيضاح والشكل المريح والإجابات الفنية السهلة. ما رغب به هو حالة من التداعيات الوجدانية المعبر عنها بما عرف بـ«فن التجريد».
الأصعب شرحا هي لوحة الفرنسي الآخر أندريه ماسون (1987 - 1896) التي وضعها تحت عنوان «رسم تلقائي» وفيه بعثرة من الخطوط المدموجة بعضها فوق بعض بحيث لا يمكن معرفة مما تتألف فعلا. نعم، هناك ما يشبه اليد والإصبع في أحد أركانها، لكن ذلك ليس التفسير الذي يمكن التوقف عنده. ما فعله ماسون هو أنه مد خطوطه في كل اتجاه (عموديا على الغالب) ليؤلف ما قصد به ألا يتحدد بأي شكل معروف. ترك القلم يسرح كما يريد، لكنه في النهاية توقف عندما لاحظ أنه رسم ما يمكن تفسيره بأبدان متلاصقة. ما زلت، كمقدر للفن وكمشاهد، لا تعرف الكثير من المقصود، لكن عدم المعرفة هو بعض جوهر ما يقوم عليه الفن التجريدي.
رغم أن لوحة كاندينسكي ولوحة ماسون ينتميان إلى فن التجريد، فإنهما مختلفان جدا في الأسلوب. بين الاثنين أفضل الأولى لأنها مرسومة وليست مخطوطة بقلم. كلاهما ما زال فنا لا يكترث للتعريف المحدد ولا ينتمي إلى ما يمكن نقله من الواقع إلى اللوحة. وكلما أمعن الفنان في التجريد، بات أبعد عن التناول وأبعد أكثر عن أي مرجعية طبيعية أو واقعية أو ذهنية محددة.
لكن فن التجريد ليس حكرا على الفن المرسوم. هو يمكن أن يتقمص أي فن آخر. يمكن أن نجده في عمل مسرحي يجمع بين الديدائية والرمزية والتجريد أو يتكون من التجريد نفسه. ويمكن أن نجده في مقطوعة موسيقية أو فيلم.
في السينما كانت هناك محاولة مبكرة جدا سنة 1912 بعنوان «إيقاعات ملوّنة». هو أيضا من لدن فنان فرنسي اسمه ل. سورفاج بدأ الفيلم ولم يكمله بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى ما يعني أن الرجل كان يعمل ببطء شديد، إذ بدأ التصوير قبل ست سنوات من الحرب التي داهمته فتوقف. الفن التجريدي المصور انتقل بعد ذلك (قبيل الحرب وخلالها) إلى السويد وألمانيا.
كون السينما آنذاك صامتة، جعل هذه الأفلام مجرد ظلالات متحركة غير قادرة على أن تدافع عن اختيارات أصحابها (أمثال وولتر روتمان وهانز ريشتر وبول. دوكاس وكلهم كان لديهم باع في الفن اللوحاتي) لهذا الفن. لكن مع نطق السينما تبدلت الحال ووجدنا آخرين (بينهم الألماني أوسكار فيشينجر والكندي نورمان ماكلين) يستخدمون الصوت لتقديم صور بإيقاعات لحنية مسموعة. نورمان ماكلين دشن، على الغالب، علاقة بين الرسوم الإحيائية (أنيميشن) وبين التجريد منذ الثلاثينات.