شكلت العلاقات المفترضة بين إيران و«الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) أحد أبرز خطوط الصراع والنزاع في سياق اللعبة الاستراتيجية المحتدمة في المشرق العربي، بلغت حدا من المفارقة الفجة في سوريا والعراق. ففي الوقت الذي يتهم أنصار الثورة السورية والعراقية «داعش» بأنها صنيعة إيرانية، تنقلب التهمة لدى أنصار نوري المالكي وبشار الأسد وتصبح «داعش» أداة خليجية. إلا أن الأدلة المقدّمة للمعادلة بين إيران و«داعش» تقوم على أساس «تحالف موضوعي» يحقق كلاهما مصالحه دون الحاجة إلى عقد اتفاقيات مباشرة ولا دعم منظور. ولا يبدو أن الجدل سيتلاشى، فقد انتقل النقاش والسجال من المجال السياسي العام إلى الفضاء الخاص للسلفية الجهادية عموما وتنظيم «القاعدة» خصوصا، فالعلاقات بين إيران و«القاعدة» مرت بجملة من التحولات نظرًا لوجود تباينات آيديولوجية، وكان الاحتلال الأميركي للعراق إحدى نقاط الخلاف الجوهرية، إذ تزامن التحول في السياسة الإيرانية مع حدوث فرز داخل تنظيم القاعدة حول الموقف من إيران، حيث برز اتجاهان مختلفان:
الأول: تبناه القادة الكبار في تنظيم القاعدة، وعلى رأسهم أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وقام على أساس محاولة استمالة إيران للاستفادة من وجودها في العراق لمواجهة الاحتلال الأميركي، باعتباره عدوًّا مشتركًا للطرفين، وتحاشي مواجهتها التي يمكن أن تنتج تداعيات سلبية على التنظيم.
والثاني: تبناه قادة تنظيم «القاعدة في بلاد الرافدين» وعلى رأسهم أبو مصعب الزرقاوي، وقام على أن المشروع الإيراني في العراق لا يقل خطورة عن المشروع الأميركي.
تضررت العلاقة بين إيران و«القاعدة» عقب الثورة السورية، فهيمنة المنظور الهوياتي الطائفي في تصور طبيعة الصراع في سوريا قلب التحالفات الموضوعية، وبهذا فإن إيران وحلفاءها أصبحوا في دائرة الاستهداف «القاعدي». وعلى الرغم من أن العلاقة بين إيران و«القاعدة» كانت دائما متوترة فإنها تدهورت بعد عام 2011 حين وقف الجانبان على طرفي نقيض بسبب ما حدث على الجبهة السورية.
في سياق الخلاف داخل تنظيم القاعدة كشف تمرّد الفرع العراقي عن صراع حاد حول تمثيل القاعدة، الأمر الذي دفع الفرع المتمرد إلى الإعلان عن طبيعة العلاقة مع إيران. فقد اتهم الناطق الرسمي لـ«داعش» أبو محمد العدناني يوم 11 مايو (أيار) 2014 عبر رسالة صوتية بعنوان «عذرا أمير القاعدة»، قيادة «القاعدة» المركزية بالانحراف عن المنهج ونسج علاقات مشبوهة مع إيران، إذ أقرّ بأن «للقاعدة دينا ثمينا في عنق إيران»، كما أن «داعش» «لم تضرب في إيران تلبية لطلب (القاعدة).. للحفاظ على مصالحها - أي (القاعدة) – وخطوط إمدادها».
ما يقوله العدناني لا يبتعد عن الحقيقة، إلا أنه يقتصد في سردها في سياق الصراع على تمثيل واحتكار «القاعدة» كعلامة رائجة لكسب الأتباع والأنصار. الحقيقة تتمثل باستثمار إيران لكلا الطرفين في تثبيت نفسها كقوة إقليمية، فقد عمدت إيران على رسم استراتيجية في سوريا تقوم على التخلص من المعارضة السنيّة المسلحة المعتدلة وتجنب التعرض لدولة البغدادي، عبر محاصرة حركات المعارضة المعتدلة ووضعها بين مطرقة ميليشيات الأسد وميليشيات «داعش».
سياسات الهوية الطائفية التي اعتمدتها إيران للتخلص من استحقاقات عادلة في سوريا والعراق مكنت «دولة البغدادي» اليوم من السيطرة على مساحات شاسعة غرب العراق، وخصوصًا، محافظة الأنبار ثم نينوى وصلاح الدين، وشرق سوريا وبالذات محافظة الرقة ودير الزور والحسكة. وعلى الرغم من قوة تنظيم «داعش» الذاتية فإن قوتها الحقيقية موضوعية، ذلك أن السياسات الهوياتية والمشكلات السياسية والاقتصادية في العراق وسوريا توفر بيئات حاضنة مثالية للتنظيم. وإذا كانت سياسات إيران الهوياتية الطائفية قد ساندت المالكي والأسد على أساس تأكيدات الهوية، فإن سياسات الهوية الطائفية تمثل أحد أهم المرتكزات الآيديولوجية لـ«الدولة الإسلامية في العراق والشام»، إذ يقوم التنظيم منذ تأسيسه على الحفاظ على مستوى مرتفع من التحشيد الطائفي لضمان عمليات الاستقطاب والتعبئة والتجنيد لعناصره وأنصاره. ولقد ساهمت سياسات المالكي والأسد الطائفية وظهيرهما الإيراني على إمداد تنظيم «داعش» بالذرائع الآيديولوجية اللازمة لانتشار التنظيم وازدهاره. كذلك عملت السياسة الإيرانية على بناء استراتيجية في العراق وسوريا تقوم على اختزال الحركات الاحتجاجية المطالبة بالحرية والعدالة والديمقراطية واختطاف الثورات الشعبية السلمية باعتبارها ذات طبائع هوياتية طائفية وإرهابوية. وعقب أكثر من ثلاث سنوات من التهرّب من المطالبات العادلة والمحقة تولّدت قناعة في العراق وسوريا على أن الطائفية هي المحرّك الأساس للسياسات الإيرانية، الأمر الذي عمل على بعث الحياة في مفاصل «القاعدة» في العراق وسوريا والمنطقة بأسرها.
عقب سقوط الموصل برزت سياسات الهوية لدى إيران وحليفها المالكي من جهة، وتنظيم «داعش» من جهة أخرى، وبدلاً من التوجه نحو سياسة تقوم على الاعتراف بالمطالب العادلة، توجه الطرفان نحو مزيد من سياسات الهوية الطائفية. إذ دعا رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي علنًا إلى تعبئة ميليشيات شعبية، الأمر الذي استجابت له المرجعية الشيعية العليا للسيستاني بالإعلان عن وجوب «الجهاد الكفائي»، وبدت الاستعراضات الطائفية مشهدا مألوفا لكل التيارات الشيعية الصدرية وغيرها، بحجة حماية المراقد المقدسة. أما «داعش» فقد أعلنت على لسان ناطقها الرسمي أبو محمد العدناني من خلال كلمة صوتية مسجلة بعنوان «ما أصابك من حسنة فمن الله» عن مواصلة زحفها وتوسعها.
لم يكن ممكنا لـ«دولة البغدادي» أن تتمدد وتتحول من العالم الافتراضي إلى الواقعي إلا عبر سياسات إيران الطائفية الفجة، ولا جدال في أن «دولة البغدادي» تماهت مع الأطروحة الإيرانية الطائفية، وباتت تتمتع بقوة كبيرة بشرية وعسكرية ومالية وإعلامية وتقنية، فجدول أعمالها يقوم على أولوية مواجهة النفوذ والتوسع الإيراني في المنطقة ومحاربة «المشروع الصفوي»، كما تصفه.
الإطار الجامع بين إيران و«داعش» هو الاعتماد على سياسات الهوية الطائفية... ففي الوقت الذي كانت إيران تدعم سياسات المالكي والأسد الطائفية، كانت تقدم موضوعيًّا خدماتها لـ«دولة البغدادي» التي كانت تؤكد على صواب نهجها الهوياتي، وبهذا يمكن القول بانتفاء أي علاقة بين إيران و«داعش» عمليًّا ولكن تأكيدها موضوعيًّا.
* باحث أردني متخصص في شؤون الحركات الجهادية.