رموز رمضان

د. خالد قباني

TT

ليس كأي من الشهور، ولا كغيره من الأيام. تمر عليك الأيام.. تتكرر بطيئة رتيبة لا تشعرك بتغير أو بتبدل معين، إلا ما يأتي منها مفاجئا غير منتظر أو غير متوقع. أما شهر رمضان، وأيام رمضان، فحدث ولا حرج.. كأنك في دنيا غير الدنيا التي كنت فيها، وغير ما ألفته أو اعتدته من أيام.. لا في إشراقة الصباح، ولا في غسق الليل، لا في غدوك أو رواحك، ولا في نظرتك أو مقاربتك للأمور. إنها دنيا مختلفة وعالم آخر، تدخل فيه طائعا مختارا، ويحدث التغيير في حياتك دون إرادة منك، ولا مسعى منك، ولا تخطيط أو ترتيب أو استعداد مسبق. لا تملك إلا أن تقول: سبحانك يا رب، سبحان مقلب القلوب.. في رمضان، تصفى القلوب، وتهدأ النفوس، وتسمو الأرواح، وتنشد لخالقها.. في رمضان يعود الإنسان إلى إنسانيته، يصبح أكثر صبرا وأكثر انضباطا، أكثر تسامحا ورقة وصدقا وشفافية وانفتاحا على الآخرين، أكثر إحساسا بأخيه الإنسان، بل أقوى عزيمة وأكثر قدرة ونشاطا وإقبالا على العمل.. هذا ما يشعرني به رمضان على الأقل.

يشعرني رمضان بصفاء ما بعده صفاء، وبعزيمة وقدرة على العمل لا حدود لهما، أبدأ في الصباح ولا أتوقف عن العمل إلا مع أذان المغرب، لا يغالبني نعاس ولا يخالجني شعور بالتعب أو الوهن أو إحساس بالظمأ أو الجوع.

تلتئم العائلة حكما في توقيت لا يخضع لمزاج أي من أفرادها.. تلتئم في جو عائلي حميم يجلله صوت شجي يتلو بعض آيات من القرآن الكريم.. تلتئم بعد افتراق فرضته ظروف الحياة وتكاليفها، ونمط عيش عصري وقيم اجتماعية باتت لا تأتلف مع أعراف الحياة العائلية وتقاليدها. يعود الأب على طاولة رمضان ربا للأسرة يترأس الإفطار ويمارس دوره بصفته مسؤولا عن العائلة، وتلعب الأم دور الراعية الحاضنة والحانية.. تهتم بكل صغيرة وكبيرة، بالأطفال والأبناء بما يعطي لرمضان معناه ويبلور رسالته بصفته شهر الرحمة والبركة والرضوان، حيث تتجلى فيه صلة الرحم في أجلى وأحلى مضامينها، وحيث يحل الوئام والتواصل والتواد بين أفراد الأسرة الواحدة. ويشعر كل واحد بالحماية ودفء العائلة وبأنه محاط بالأمان العاطفي والاجتماعي.

يعلمنا رمضان، وقد علمني، الصبر والأناة والتسامح والإيثار. إنه مدرسة في ثقافة الحياة والوجود، برموزه وما يحمل من دلائل ومؤشرات. ليس الظمأ أو الجوع وسيلة للقهر؛ قهر النفس وقهر الجسد.. إنه يعلمك ويرشدك وينبهك، إن جعلتك متطلبات العمل أو مشاغل الحياة أو همومها تسهو عن أن هناك من هو عطش أو جائع، لا يملك ما يسد به رمقه، وأن في زاوية من زوايا بيت أو حي أو شارع، مريضا لا يقدر على شراء دواء، أو لا يجد من يرأف بوضعه، وأن يتيما قد ترك دون مأوى ولا راعِ ولا مؤسسة تحميه أو تحتضنه.

لا تتوقف رموز رمضان عند حدود معينة، إنها تحيط بكل معاني ومقدرات الحياة ومعاشها، إنها رموز تخترق الضمير الإنساني وأعماق النفس البشرية، والمشاعر الإنسانية لتحييها وتحولها من حالة السبات والسكون إلى حالة الوعي واليقظة.

دروس رمضان لا تنتهي ولا تقاس بعدد أيام الشهر الفضيل، إنها تمتد وترافق الإنسان على مر الزمان، وتشكل صمام أمان تستقيم به حياته.. تفعل كما يفعل منبه الساعة في إيقاظ النائم من غفوته.

تستنفر الجمعيات الخيرية والاجتماعية، ومؤسسات الرعاية الاجتماعية، ومنها دار الأيتام الإسلامية، كل طاقاتها في هذا الشهر المبارك، شهر الهدى والرحمة، لتقوم بواجباتها وما نذرت نفسها من أجله، في سبيل الخير، وخدمة المجتمع، ليس فقط لحث أهل الخير على العطاء والتبرع في شهر المكرمات، ولكن أيضا لإشاعة الفرح والأمل والتفاؤل، في المدن والأحياء والشوارع، من خلال نشر الزينة الرمضانية المختلفة والمتعددة الأشكال والألوان، وإضفاء أجواء من الاستبشار والتفاؤل، لأن رمضان يجلب معه السكينة والأمان والسلام، ويحيل الظلام نورا وضياء، لأن القلوب عندما يدخلها الضوء وتستنير بنور الإيمان، تعكس ما في داخلها إلى الخارج، فيتحول ليل الناس إلى نهار، في ظروف وأحداث محزنة ومؤلمة تجتاح لبنان ومحيطنا العربي، وقد ساد ولا يزال يسود فيها ليل دامس طويل، علَّ أنوار رمضان وبركة رمضان وهدى رمضان، تنير منا القلوب والعقول، فنسلك سبيل الرشاد ونستهدي بهديه إلى طريق مستقيم.

* مدير عام مؤسسات الرعاية الاجتماعية ودار الأيتام الإسلامية – وزير سابق