الخيط الذي يفصل الفن والموضة، وكان رفيعا في الماضي، ذاب هذا الموسم بعد أن تقمص العديد من المصممين أدوار رسامين وطرحوا لنا أزياء تحاكي الفن بشتى مدارسه وتوجهاته. البعض يفسر هذه الموجة بأنها تدرج طبيعي بعد أن دخلت أعمال مصممي الأزياء إلى المتاحف، ودخل فنانون محترمون مجال تصميم الأزياء أو الإكسسوارات من خلال تعاونات مهمة حققت لكلتا الجهتين الربح والشهرة.
وإذا كان دخول مصممي الأزياء المتاحف، لمنافسة فنانين من أمثال مونيه أو رينوار أو ماتيس وغيرهم، قد أثار حفيظة البعض في البداية على أساس أنه لا يمكن المقارنة بين الاثنين، وعلى أساس أن الموضة سطحية من دون عمق أو أهداف سامية، إضافة إلى أنها متغيرة ولا تبقى للأبد، فإنهم مع الوقت غيروا رأيهم، إما عن قناعة أو مضض. السبب أنهم عاينوا بأنفسهم أن بعض المتاحف التي كانت شبه فارغة لا يؤمها إلا شريحة قليلة من المهتمين بالفن والمتخصصين في شؤونه، أصبحت تزدحم بالزوار المهتمين بالموضة أو الفضوليين.
فجأة وبحسبة بسيطة لم يعد الأمر سيئا، فهو إن لم يرق بالفن عاليا، فإنه على الأقل سيرقى بأذواق الناس، حتى وإن اقتصر الحال على إدخالهم متاحف لم يكونوا ليفكروا في دخولها من قبل لولا بريق الموضة والأسماء التي يعشقونها أو يقرأون عنها في المجلات.
هذه الجدلية بين الفن والموضة بدأت منذ بداية القرن الماضي، من باب اهتمام المصممين بالفن ومعاشرتهم لفنانين من عصرهم ودعمهم لهم بشكل أو بآخر. كان هناك إعجاب، يصل إلى حد العشق، من قبل صناع الموضة ولّد لديهم رغبة قوية في التشبه بهم مستعملين أدواتهم الخاصة. استلهموا من شتى الفنون والمدارس، ومع الوقت أصبح بعضهم يرى أنهم لا يقلون فنية أو تفانيا في إبداع تحف لا تعترف بزمن، وبالتالي يستحقون أن يُنظر إليهم على أنهم فنانون. وربما يكون أكبر مثال على هذا تشارلز جيمس، المصمم الذي يحتفل به متحف المتروبوليتان بنيويورك حاليا، وأقيم الحفل السنوي للمتحف الذي ترأسه أنا وينتور، رئيسة تحرير مجلة «فوغ» الأميركية، على شرفه للتذكير بعطاءاته الفنية. لم يترك هذا المصمم إرثا زاخرا من حيث العدد، كما أنه مات مفلسا، لأنه كان يتعامل مع كل فستان يصممه على أنه تحفة قائمة بذاتها، تحتاج إلى صبر ودقة بغض النظر عن الوقت الذي تستغرقه والخامات المترفة التي تستنفذها، فالمهم هو النتيجة التي ترضيه أولا وترضي زبونته ثانيا. وهكذا عوض أن ينتج كميات كبيرة يبيعها ويستفيد منها، تعامل مع الأزياء ليس كصناعة بل كفن ليذكرنا برسامين ماتوا مدقعين ولم يعرف أحد قيمتهم إلا بعد مماتهم.
بيد أن هذه الصورة ليست هي العامة والسائدة في عالم الأزياء، ففي المقابل، هناك مصممون يحترمون الفن ويستلهمون منه، كما استفادوا منه، مثل كوكو شانيل وغريمتها إلسا سكابيريللي وكريستيان ديور. الاستفادة كانت أنهم نجحوا في تحقيق المعادلة الصعبة بين الفن والتسويق، لأنهم خاطبوا شريحة عارفة وذواقة بهذه التصاميم بلغة عصرهم، وكانت هذه الإيحاءات الفنية خفيفة، تهمس أكثر مما تصرخ. في الستينات، جاء الراحل إيف سان لوران، وقلب الموازين وحقق ما لم يكن في الحسبان، عندما باع لنا لوحات «موندريان» مطبوعة على فساتين ترقص على إيقاع هذه الحقبة، التي شهدت تحرر المرأة من العديد من القيود الاجتماعية والثقافية. كانت فساتين بسيطة بخطوط هندسية وألوان واضحة تصرخ باسم موندريان، وفجأة أصبح الفن مشاعا للجميع، والأهم من هذا وجد المصمم نفسه في بؤرة الضوء مرة أخرى بعد أن فشلت تشكيلاته السابقة في تحقيق بعض من النجاح التجاري الذي كان يحتاجه للاستمرار. بهذه التشكيلة أكد سان لوران للجميع أن الفن يمكن أن يغني ويسمن، وأن كل ما يحتاجه المصمم هو نظرة حساسة وعارفة وقدرة على ترجمة الفن بلغة عصرية. وربما كان مارك جايكوبس أكثر من فهم الدرس وطبقه طوال فترته كمصمم فني في دار «لوي فويتون» الفرنسية، من خلال تعاونات حققت للدار الكثير من الأرباح وبوأتها مكانة مهمة بين بيوت الأزياء، وهي التي كانت قبل جايكوبس مجرد دار إكسسوارات. تعاونات شملت تاكاشي موراكامي، ستيفن سبراوس، ويايوا كوساما وغيرهم. الآن وبعد 16 عاما من العمل في الدار، ارتأى المصمم أن يتفرغ لخطه الخاص فاتحا المجال لنيكولا غيسكيير لكي يرسم لوحات جديدة بأسلوبه الخاص. وطبعا لا يمكن الحديث عن الفن من دون ذكر اسم ميوتشا برادا، التي، مثل إيف سان لوران، ترجمته بطريقة أكثر وضوحا في قطع تخاطب امرأة واثقة و«مثقفة» كما يحلو لها أن تقول دائما.
لصيف 2014، يمكننا القول، ومن دون مبالغة، إن موجة الاستلهام من شتى المدارس الفنية، بما فيها الغرافيتي والبوب آرت، وصلت حدا لا يمكن تجاهله هذا الموسم. فهي مثل الحمى اجتاحت كل الأسواق والأذواق بعد أن شهدت دفعة قوية من قبل بيوت أزياء لها جمهورها وتبث الثقة في النفوس، مثل «شانيل، ديور، سيلين، برادا، كنزو»، وغيرها. والعديد من هذه البيوت حولت مكان عروضها إلى ما يشبه المتحف، إن لم يكن من حيث الديكورات فمن حيث الأزياء التي تلونت وأخذت أشكال لوحات متحركة، حاول فيها كل مصمم أن يستعرض قدراته الفنية الكامنة أو فقط عشقه للفن. كل من «لو غران باليه» و«فيا فوغازارو»، مثلا، تحول على يد كارل لاغرفيلد وميوتشا برادا إلى متحف للفنون المعاصرة. كارل لاغرفيلد قال بعد عرضه إنه حاول أن يجعل الحضور يشعرون بأنهم في متحف يجمع باقة من الفنانين الشباب، لكل منهم أسلوبه الخاص وألوانه المعينة.
من جهتها، دعت ميوتشا برادا مجموعة من الرسامين على الجدران هم مايلز ماغريغور، ميسا، غابرييل سبيكتر وستينكفيش، ليتعاونوا مع رسامين معروفين هما جين ديتالانانت وبيير مورني، لتحويل جدران «فيا فوغازارو» إلى لوحات تلعب على تيمة أنثوية تجسد القوة والأوجه المختلفة لامرأة برادا. وكانت النتيجة تحفة غيرت مفهوم عروض الأزياء التي كانت تجري في قاعة عادية، وتجربة تستكشف فن الشارع والبوب آرت، الذي طبع العديد من القطع التي ظهرت بها العارضات، والتي ستتحول لا محالة إلى قطع للهواة خصوصا من النساء القويات اللواتي تتوجه لهن المصممة الإيطالية عموما.
فيبي فيلو لم تتأخر عن الركب، وقدمت في تشكيلتها لدار «سيلين» قطعا مرسومة بالغرافيتي منحت تصاميمها المفصلة بدقة عالية دفئا ليس معهودا في تصاميمها التي يغلب عليها الأبيض عادة والأشكال الهندسية، وكأنها تنهي موجة البساطة، أو القليل كثير، التي كانت تتبناها وسوقتها بنجاح طوال السنوات الأخيرة. حتى راف سيمونز، وهو واحد من أهم مصممي المدرسة البلجيكية، الذين يميلون إلى التصاميم الهادئة والبسيطة، تبنى مذهب دار «ديور»، التي التحق بها ليحملها إلى المستقبل. أمر ظهر بوضوح في عرضه لربيع وصيف 2014، من خلال أزياء وإكسسوارات مطبوعة بلمسات من البوب آرت والفن الانطباعي، كما تجلى في الحملة الدعائية التي تظهر فيها الممثلة الفرنسية ماريون كوتيار على خلفية جدار يقطر بالدهان. الصورة تصرخ بالحداثة رغم أنه لم يدر ظهره تماما إلى الإرث الذي خلفه المؤسس كريستيان ديور، الذي كان يعشق الفن الانطباعي وأعمال رينوار، وديغا، ومونيه، تحديدا، وليس أدل على هذا من تأثير لوحة رينوار Roses Mousseuses مثلا التي تجسدت في فستان صمم في عام 1956 باسم «روز دو فرانس». أما في أعمال راف سيمونز، فتأخذ الورود والطبيعة عموما شكلا أكثر عصرية وحداثة، يجعلها مطلبا لكل امرأة أيا كان عمرها أو جنسيتها، ربما لأن كل واحدة منا تعرف أنها قطع أيقونية قد تدخل في يوم من الأيام إلى المتاحف أو المزادات العالمية.
فالخيط بين الفنان والمصمم يذوب بالتدريج وقد ينعدم في يوم من الأيام بعد أن أصبح مصممو الأزياء يرون أن الفرق الوحيد الفاصل بينهم وبين الرسامين هو اختلاف الأدوات. وربما هذا ما عبر عنه كارل لاغرفيلد بعد عرضه لربيع وصيف 2014 عندما قال بنرجسية الفنان إن عرضه لا يتعلق بالفنانين الشباب فحسب «فهناك فنان عجوز آخر وراء هذا كله هو أنا! لقد صنعت كل شيء».
* لأن أغلب اتجاهات الموضة تعكس ثقافة العصر الذي تظهر فيه وتغيراته وتطلعاته، فإنه لا بد من ربط هذه الموجة بالاهتمام المتزايد في السنوات الأخيرة بعالم الفنون ورغبة الطبقات الثرية والمتوسطة على حد سواء في الاستثمار في الفن من خلال شراء لوحات من المزادات والمعارض. فكما للموضة عشاقها والراغبون في اقتنائها بغض النظر عن سعرها، هناك من يستثمر في اللوحات الفنية، مما أنعش سوقها. على الأقل بتنا الآن نرى فنانين شبابا يحققون الملايين، بعد كان هذا الفن في الماضي البعيد لا يشبع من جوع ويموت أصحابه فقراء ومفلسين.
* الفن الجديد «نوفو آرت» الذي ظهر في بداية القرن التاسع عشر، كان نتاج الثورة الصناعية، ببساطة أشكاله الهندسية مثل الأقواس ونصف الدوائر والأبراج، فضلا عن الخطوط التي تتوخى عملية أقرب إلى التقشف أحيانا.
* بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، وفي العشرينات من القرن الماضي، ظهرت موجة الـ«آرت ديكو» التي كانت مضادة للبساطة بزخارفها السخية وألوانها المتوهجة، ومرآة لبداية تحرر المرأة. وشهدت هذه الموجة عهدا مزدهرا آخرا في 2008، في ما يخص مجال الموضة، وكأن المصممين أرادوا من خلال هذا السخاء وبريق الذهب الهروب من الأزمة الاقتصادية والتأكيد على أنها لم تمس جانب المنتجات المترفة.
* كان للرجل نصيب من هذه الموجة، فدار «بيربيري» لم تفوت الفرصة لاستعراض عضلاتها في هذا المجال، وأسهب مصممها كريستوفر بايلي في الغرف من ألوان الفنان البريطاني ديفيد هوكني وتجسيدها في قطع بتفصيل بريطاني لا يعلى عليه، سواء في تشكيلته النسائية أو الرجالية. وإذا كانت المرأة تفهم لغة الألوان بسهولة ولا تخاف منها، فإن المصمم نجح في أن يطمئن الرجل هنا، لأنه لن يرى فيها تعارضا مع أناقته. فهي مرسومة بألوان هادئة وراقية في الوقت ذاته، زادتها القطع ذات التصميم الكلاسيكي والتفصيل البريطاني التقليدي هيبة، إن صح القول.
ولم يخف المصمم إعجابه بديفيد هوكني الذي سبق أن استلهم من لوحاته في عام 2005، لكنه في هذه المرة استلهم من أسلوبه الشخصي في ارتداء أزيائه وتنسيقها مع إكسسواراته. «لقد قابلت ديفيد هوكني بالصدفة في (جيرمين ستريت).. كان يرتدي بدلة من الكتان بلون بيج مع لمسات خفيفة من الأخضر.. أعجبت بشكل كبير بالأسلوب الذي نسق به ألوانه مع بعضها بعضا، وبطريقة تضعك في حيرة لأنك لا تعرف إلى أي مدى تعمد المزج بين كل تلك الألوان». هذا ما اعترف به كريستوفر بايلي بعد عرضه، وهذا ما جعله يطلق على تشكيلته لربيع وصيف 2014 عنوان «كتاب ورسامون» احتفالا برجل يتمتع بالكثير من الجوانب الفنية والفكرية. راجل واثق بنفسه ولا يهتم سوى بإرضاء نفسه وتغذية أسلوبه. فهذه الأزياء، سواء كانت للمرأة أو للرجل، ليست موجهة لأشخاص عاديين، بل هي خاصة بأشخاص يتمتعون بالثقة كما تربطهم خيوط قوية بالفن ولغة العصر.