في مسلسل «ضبو الشناتي» (الفضائية السورية) هناك جرأة، ولو محسوبة، مفادها أن أحد أفراد العائلة من الذين يشتركون في المظاهرات ضد النظام. والدته تنظّف له الجرح بعدما تعرّض للضرب ووالده يسأله: «كمان أكلت أتلي (بمعنى ضرب بدني) اليوم؟». لا يستطيع ابنه أن يجيب بل يدير وجهه لشقيقته ويطلب منها أن تنفخ على وجهه لعل الألم يخف. يضيف الأب: «أنا ما شفت بحياتي واحد بيضهر من البيت عشان ياكل أتلي ويرجع».
الأب في هذا المسلسل الكوميدي النيّر هو بسام الكوسا، الذي في حلقة أخرى نراه وقد ترك العائلة والمدينة في رحلة في شيء من الهجرة. حين يحط الترحال يتصل بالعائلة لكي يطمئنها عن حالته فيقول: «مررنا على سبعة حواجز، وكل حاجز لجهة مختلفة. في واحد ما قدرنا نعرف لأي جهة تابع. عملنا حالنا، أنا ومرتي، خرسان.. لو ما كنا مخبايين المال في مكان لا يمكن لهم التفتيش فيه لما كنا نفذنا بأنفسنا».
بسّام كوسا ممثل رائع ومجيد ويصلح للدراما كما للكوميديا وهو هنا في حلّة كوميدية. كأي ممثل جيّد لا يحتاج لكي يبحلق عينا أو ينفخ ودجا أو يدّْعي التأتأة أو أي فعل نافر لكي يسترضي أذواق المشاهدين. يكفيه أن يكون هو في الشخص الذي يمثله وأن يكون هذا الشخص اعتياديا. هنا، في «ضبو الشناتي» هذا الشخص هو إنسان كل يوم. هو الأكثر انتشارا بيننا في كل مكان وزمان. لذلك تصل النكتة مهضومة أولا ومضاعفة ثانيا كونها صادقة.
والحلقات المذكورة بدورها تلتقي مع ما كنا نتحدّث فيه قبل ثلاثة أيام عندما جئنا على ذكر «باب الحارة»، فالمدينة هنا (غالبا دمشق) عابقة بالتاريخ وبالحاضر. في الحلقة الأولى عندما تمسح الكاميرا باب العائلة من الخارج ثم تمضي عنه صوب جدران الشارع الضيق لتلتقي وبسّام الكوسا وهو يجر ما سمّته الحلقة بـ«جحش طروادة» (صقالة خشبية) يفوح عبق ذلك التاريخ الذي لا يزال واقفا على قدميه. كل شيء قديم في مسلسلات اليوم يبدو كما لو كان اتجاها معاكسا لما تذهب إليه الدنيا من أحوال، ويبدو أنه يستعيد الذكريات والشعور بالحنان الجارف لدى المشاهدين الذين اشتروا أجهزتهم التلفزيونية المجسّمة أو المسطّحة لكي يتواكبوا مع العصر، فإذا بهم - في تضاد ملموس - يعبّرون عن شوقهم للأمس.
والرحيل للأمس ينقلنا إلى وفاة الممثل السوري أدهم الملا والد المخرج بسّام الملا المشرف العام على مسلسل «باب الحارة» والذي يعيش في دبي. أدهم الملا له تاريخ زاخر والأجزاء الخمسة الأولى من «باب الحارة» هي جزء من ذلك التاريخ. يذكرني بالراحل عبد الوارث عسر الذي كان يمثل دور العجوز قبل أن يصبح عجوزا وأصابه نوع من العتق الفني الراقي كلما تقدّمت به السن.
ما حال هذه الدراما السورية في هذه الأيام. منذ الحرب الدائرة وهي تخسر أركانها؟ بعد ناجي جبر وهاني الروماني ونبيلة النابلسي وخالد تاجا وياسين بقوش وحسن دكاش وسليم كلاس وسواهم، خطف الموت رياض شحرور وعبد الرحمن آل رشي ثم أدهم الملا. نخبة من وجوه الدراما معظمهم قضى حياته حبّا بعلمه من دون أن يسأل عن شهرة أو نجومية. يكفيه أنه في إطار المتاح أنجز حضوره رحمهم الله جميعا.