صاحب مطعم «زهرة».. حارس الليل الذي ينوب عن وكالة غوث

«الشرق الأوسط» ترصد 24 ساعة في حي الأمل بخان يونس

مطعم زهرة (خاص ب«الشرق الأوسط») - جانب من حي الأمل في مدينة خان يونس بقطاع غزة
TT

أراقب بقلق وخوف، البنايات المواجهة لبيتي، بينما صوت الانفجارات يزلزل حي الأمل الواقع غرب مدينة خان يونس حيث أقيم. أستحضر فيلم «الطائرة المفقودة» الذي قدمته السينما المصرية قبل سنوات، وأتناول معاناة ركاب طائرة ظلوا على قيد الحياة بعد سقوطها في الصحراء. أستعيد مشاهدهم ومحاولاتهم المستميتة للبقاء على قيد الحياة.

حال سكان «حينا»، لا تختلف عن أولئك المنكوبين كثيرا: حصار وحرب أخرى، هي الثالثة من نوعها، وقصف، وموت متنقل وانفجارات تتوالى، بينما الناس على صيامها في رمضان صيفي حار تنقطع فيه الكهرباء معظم أوقات النهار. الكل يجاهد من أجل البقاء. يتحلق الناس حول بعضهم، يتكاتفون، ويتضامنون متناسين ما بينهم من خلافات، محاولين تسيير أمور حياتهم اليومية بشكل طبيعي وسط ظروف غير طبيعية.

قبل سنوات رحل «أبو خالد»، صاحب المطعم الشهير، «مطعم زهرة»، وترك لأولاده ما سوف يتعرف فيه أهل الحي، على «وكالة غوث» محلية أفضل من تلك التابعة للأونروا. صاحب المطعم الذي يديره حاليا، يتمتع بشعبية عالية بين سكان الحي الذين يعدونه «مختار» الحي، من دون تعيين رسمي. يستشيرونه في معظم أمورهم، وقد يتقدمون له بشكاوى حول انقطاع الخدمات، ويطلبون معونته، ليهاتف موزع المياه في حال انقطاعها، فيحضر إلى الحي ويشتري منه السكان مئات اللترات من الماء، يضخها من صهريج ضخم. أو يسألونه عن آخر التطورات السياسية ويناقشونه فيها. عن أماكن القصف، عن عدد الشهداء الذين سقطوا حتى الآن. فهو حارس الليل كما يطلقون عليه. لا ينام لحظة ويتابع مجريات الأمور. يهاتف الجيران بيتا بيتا. يبلغهم بعودة المياه المقطوعة التي تزودهم بها بلدية خان يونس، وفقا لجدول معين «رنة واحدة» من هاتف صاحب المطعم، تكفي ليدرك مستقبلها أن عليه تشغيل الموتور بأقصى سرعة، لضخ المياه ونقلها من الخزان في الطابق الأرضي، إلى الخزان في الطابق العلوي من البناء. كما يتصل بأحدهم ليخبره أنه قد شاهد ابنه المراهق يدخن خلسة في أحد الأزقة.

* تكافل وقت الأزمات وعلى الرغم من كونه المطعم الأشهر في الحي، فإن الرجل يتجاهل وقت الحرب شهرته، وحتى ما يمكن أن يجنيه من مال، ويلتفت نحو سكان الحي من جيرانه، العاجزين عن الوصول إلى السوق للتزود بالطعام أو أي مشتريات ضرورية، بسبب القصف الشديد، ويفتح أبواب مطعمه. كما يخصص كميات من الأطعمة الشعبية التي يشتهر بها كالفول، والفلافل، والحمص، لفقراء الحي الذين لا يملكون مالا مدخرا، ويوزعها عليهم قبل الإفطار بدقائق. وفي حال توفر كميات أكبر لديه، يوزعها على معظم السكان من دون استثناء.

* بيوت واحدة حين تعرض بيت عائلة مخيمر للقصف. لم يتردد القريبون في استضافة أصحابه، ومساعدتهم على إخلاء ما خف وزنه وغلا ثمنه من أثاث البيت ومتاعه، والاحتفاظ به والمحافظة عليه في بيوتهم.

وعن ذلك يقول أبو سامي: استخدمت «التوك توك» الخاص بي، لنقل أمتعة الجيران وأثاث بيتهم. لقد طلب منهم إخلاؤه وتلقوا إنذارا بذلك قبل قصفه. وقد ساعدتهم وعدد من أبناء الحي على رفع الركام، في محاولة منا للعثور على ما بقي صالحا للاستخدام.

منذ بداية الحرب، قبل تسعة أيام، خصص صاحب المطعم مدخل بنايته الأمامي، لاستقبال بعض أبناء الحي الفارين من القصف المفاجئ، الذين قد يتصادف خروجهم مع غارة جديدة. يحتشد العشرات رجالا ونساء صغارا وكبارا في مدخل البناية، بانتظار انتهاء الغارة، متناسين «طوشة» وقعت بينهم قبل أيام، فيما يرتفع صوت مذيع في إذاعة محلية، من راديو قديم معلق على الجدار في مدخل البناية، وقد زود بسماعات كبيرة، وينصت الجميع لآخر الأخبار، مع أنهم يرون الأحداث الكارثية وهي تتشكل أمام أعينهم.

* محللون سياسيون محليون أما نساء الحي، فلا يتوقفن عن تبادل الحديث بعيدا عن مجالس الرجال. ينتهزن الصباحات الباكرة، ويقفن أمام أبواب البيوت يتبادلن الأخبار، وتحليلات أبنائهن وأزواجهن لمجريات الأحداث، ثم يجمعن بعضهن البعض للذهاب إلى السوق القريبة، على الطريق الفاصل بين الحي والمخيم، ويتزودن ببعض الخضار رخيصة الثمن، مما قارب على الذبول، بسبب عدم قدرة المزارعين على الوصول إلى مزارعهم وقطف خضراوات جديدة.

تعود الجارات من السوق قبل أن يستيقظ باقي أفراد عائلاتهن. تقول ساهرة: «ابنخطف حالنا خطف، لأنو الطيارات بتقصف كل إشي بيتحرك ع الأرض. بنجازف بحالنا، بدل ما يروحو أولادنا الشباب أو جيزانا ويتعرضو للموت».

ومنذ بداية الحملة العسكرية الإسرائيلية العدوانية على قطاع غزة، والناس تستفيق في الصباح على أصوات الانفجارات المدوية. بعد انتهاء القصف، أو في المسافات الزمنية القليلة الفاصلة بين غارتين، يجتمع أبناء حي الأمل لتبادل الأخبار وتقدير حجم الخسائر. وحال سماعهم خبر قصف منزل ما، يهرعون للمساعدة في انتشال الجثث، ونقل ما تبقى من أثاث، كما حدث بعد قصف عائلة «الحاج» مثلا، حين قصف البيت أثناء نومهم، وسارع شبان الحي لانتشال جثث الضحايا، وعادوا وقد أخذوا معهم إلى بيوتهم دموعا كثيرة وأحزانا مرة.

يذهب الكثيرون لصلاة الظهر في المسجد القريب، على الرغم من معرفة الجميع باستهداف الطائرات الإسرائيلية المساجد. وقد تذهب بعض النساء لأداء صلاة التراويح. قبيل الغروب، يلتقي الناس أمام البيوت، يواصلون الثرثرة وتمضية الوقت إلى حين انطلاق الآذان، وقد يجمعهم الفقر والعوز، خصوصا العمال منهم، والموظفون الذين لم يتلقوا رواتبهم منذ شهور، بسبب الأزمة التي تعيشها الحكومتان اللتان توحدتا من دون أن توحدا صرف الرواتب أو تحلان مشكلته.

وجبات الطعام تكون عادة مادة للحديث، وخصوصا آخر الأكلات التي تبتدعها النساء للتحايل على العيش. تقول إحداهن: «شرحت لجيراني طريقة إعداد وجبة سريعة وغير مكلفة وصحية، من الباذنجان والطماطم والبرغل، وأعدوها جميعا في اليوم التالي، ولا يمكن أن يمر يوم رمضاني من دون أن نتبادل أطباقا صغيرة مع بعضنا البعض، وهي عادة قديمة ما زلنا نحرص عليها حتى الآن».

* «مونديال» تحت القصف ومع انطلاق آذان المغرب، يهرع السكان لتناول الطعام على عجل، من دون حاجة إلى مدفع، فالقصف غالبا ما يتزامن مع موعدي الإفطار والسحور، ويتزايد مع حلول الليل. لكن ذلك لم يمنع تجمع الناس في بيت أو مقهى قريب، أو «كوفي نت»، ومتابعة مباريات كأس العالم، عبر شاشات عرض ضخمة ومن دون مقابل كان أصحاب هذه الأماكن يحرصون عليه قبل العدوان. يتناقشون ويستمعون للأخبار، على الرغم من المخاطر الكبيرة التي تتهددهم. فهم شعب يحب الحياة، كما يقولون، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

وكما يحرص الرجال على متابعة المباريات والتبرع ببضع لترات من السولار لتشغيل مولد ضخم، ومشاهدة التلفاز، في بعض البيوت، تحرص نساء الحي على متابعة حلقات مسلسل «باب الحارة» يعلن نقمتهن على «أبو عصام، الذي خان زوجته، ويسخرن من مراهقته المتأخرة. بينما تدعو كل منهن على جارتها بأن ينالها ما نال أم عصام، في مزاح جيرة محببة».

أما أطفال الحي فيقومون بدور وكالات أنباء سريعة متنقلة، «تنافس» وكالات الأنباء العالمية، حيث يهرعون بهواتفهم الذكية نحو البيوت المستهدفة بالقصف، ويلتقطون الصور في لحظات انهيارها، ويبثون مقاطع الفيديو للمواقع الإخبارية الفلسطينية على الإنترنت. وحين يتوقف القصف، يلعبون كرة القدم كالمعتاد أو لعبة «عسكر وحرامية»، على الرغم من وجود طائرات استطلاع فوق رءوسهم.