حظيت رواية «شمس الحصّادين» للكاتب الزميل عبد الستار حتيتة، التي صدرت أخيرا عن دار «جداول» في بيروت، باهتمام نقدي لافت من قبل نقاد وشعراء مصريين، خاصة أنها تطأ أرضا بكرا لم يسبق أن تعرض لها الكتاب الروائيون من قبل وبهذا الاتساع والعمق الفني.
بالرواية وكاتبها احتفى «بيت الوادي» الثقافي بالقاهرة في أمسية أدبية أخيرا أدراها كاتب هذه السطور وشارك فيها الناقد الأدبي الدكتور يسري عبد الله والشاعر محمود قرني، وتخللتها مداخلات ثرية من الجمهور. تتخذ «شمس الحصّادين» من الحرب العالمية الثانية مسرحا لفضائها الروائي، وتدير مناوراتها السردية من فوق هذه المنصة التي لم يبق منها سوى مخلفات الحرب وآلاف الألغام التي زرعها الألمان والإنجليز، وقضت على الأخضر واليابس، وعصفت بأحلام قبيلة بدوية صغيرة، تسكن أحد النجوع على أطراف الصحراء الغربية. ترصد الرواية واقع هذا النجع بكل تحولاته الإنسانية الاجتماعية والسياسية، وصراعات شخوصه، حول الزعامة واستعادة هيبة النجع، ومجد قبيلة «الحصّادين» الذي اندثر تحت رحى الحرب. كما تكشف طبيعة وأنماط السلوك الاجتماعي والأعراف والتقاليد، في بيئة لا تقف على حافة الفقر والجدب فحسب، بل أيضا تقف على حافة التطرف. وتتقاطع دوائر الصراع في شبكة سردية شيقة تصعد بالواقع اليومي المعتاد إلى مصاف الأسطورة والخرافة، من خلال عين «سنوسي» راعي الغنم الصبي الأمي البسيط والذي يتعامل الجميع معه على أنه مجنون، ويسعون إلى قتله، لأنه رفض الانصياع لسلطة القبيلة وكشف عن حبه لابنة عمه، وحرضها - عبر ميكروفون مسجد القرية - على الهرب معه ليتزوجا، ويفسد خطة والدها كبير النجع لتزويجها من أحد الأثرياء الدخلاء على القبيلة.
حول عالم الرواية ومقوماتها الفنية، يرى الدكتور يسري عبد الله أنها تدور عبر نفس ملحمي لا تخطئه عين، يتسق وطبيعة المكان الروائي، والشخوص المحكي عنهم (القبائل التي تسكن الصحراء الغربية في مصر)، وارتحالات قلقة في الزمان والمكان الروائيين.. تذوي أحلام قبيلة الحصّادين، وتأفل شمسها الغاربة عن محيط/ فضاء جغرافي/ مكاني/ إنساني لطالما سيطرت عليه، جسدته الرواية باقتدار وبمخيلة سردية شائقة. كاشفة عن تحولات اجتماعية تحوي توترها الداخلي المكتوم، وفي ظل بيئة تبدو ساكنة سكون الصحراء، متأهبة لرياحها المثيرة، ولعواصف لم تزل تأتي على كل شيء.. سنوسي وأحلامه، عبد الكافي وقبيلته التي خفت مجدها، نجية وبراءتها الضائعة على مذبح الرجعية.
ويلفت عبد الله إلى المكون المحلي في الرواية ويقول: «هنا يبدأ الروائي المصري عبد الستار حتيتة من المكون المحلي، من تلك البيئة التي خبرها جيدا، وشكلت الملامح المركزية لعالمه الخصب، هذا العالم الحاوي في جوهره جدلا خلاقا بين حدة الصحراء وسكونها.. تقلباتها وهدوئها، وفي سياق سياسي ملغوم يهيمن على فضائه أفق الحرب العالمية الثانية، حيث الحلفاء من جانب، والألمان من جانب آخر، وبينهما أبناء القبائل الذين ليس لهم لا ناقة ولا جمل في الحرب! إنه إطار سياسي عام ينبع من حدث فارق في تاريخ الإنسانية نرى تجلياته على مجتمع عشائري بالأساس، ابن لقيم مختلفة، ماضوية الطابع».
وحول أثر الصحراء على آليات السرد يتابع: «تبدو الصحراء هنا فضاء شاسعا بامتياز، يحوي منطقه الخاص، تحكمه علاقات مكانية؛ العرف القبلي سيدها، وجوهرها في آن.. ثمة حنين يلوح في البداية.. نوستالجيا خاصة، تحيل إلى ذلك البيت البعيد.. هكذا يهدي الكاتب روايته (شمس الحصّادين)، موقنا في اللقيا، واثقا في استعادة ما كان: (إلى البيت البعيد: سنلتقي). وعبر رواية تتشكل من 29 فصلا سرديا، يحكي الكاتب حكايته على دفعات، موظفا آلية التوالد الحكائي، وواعيا بطبيعة الجدل بين ما يعرف بـ(الحكاية الأم/ الرئيسية)، والحكايات الفرعية المنفصلة عنها والمتصلة بها في آن، فثمة قبيلة يطلق عليها الكاتب اسم (الحصّادين)، وبما يوحي به الدال/ اللفظ من مدلولات مختلفة، تحيل في معظمها إلى معاني القوة، والنماء.. كانت جزءا من أحداث كبار عاشتها المنطقة الواقعة في الصحراء الغربية بين مصر وليبيا، فتصبح بمثابة مركز الحكي وجوهره في الرواية».
ويستهل الشاعر محمود قرني شهادته النقدية عن الرواية قائلا: «أغبط نفسي أن صادفت تلك الرواية؛ (شمس الحصّادين) للقاص والروائي عبد الستار حتيتة. هذا حديث لا ينتمي للعلم، أعرف ذلك، بما أنني أولا وأخيرا من المؤمنين بالحدس أكثر من إيمانهم بالعلم». ويشير قرني إلى أن حتيتة يحتفي بالآيديولوجيا والميتافيزيقا، كما يحتفي ببلاغة اللغة وبلاغة الصمت والصحراء، بعنفها وبراحها، كما يحتفي بالآلة التي شقت فيها الموت وزرعت الألغام.. يحتفي بربقة الحب ومشاعره المترعة، كما يحتفي بعذاباته التي أودت ببطل الرواية إلى قيعان الألم ثم سلمته لمصير مجهول. سنألف الحدس رفيقا طيلة هذه الرواية ليس على النحو الذي جرى به حال (عوليس) و(أنكيدو) اللذين صارعا الميتافيزيقا والهيولى في أزمنة سرمدية».
ويسلط قرني الضوء على فكرة العشائرية ومدى ارتباط الصراع في الرواية بطبيعة المكان قائلا: «في الرواية لا تنعقد البطولة لفكرة العشائرية بقدر انعقادها لسلطة الصراع الاجتماعي الذي تعد الجغرافيا جزءا أساسيا من تصورات الكاتب عنه، ولأن الجغرافيا غير ناضجة فقد ظل صراع المكان وشخوصه طيلة الرواية صراعا يخرج على كل التصنيفات ويقدم صورة دقيقة لحجم الأزمة الاجتماعية والإنسانية التي تخلقها معتقدات وثيقة الصلة بفقر تلك الجغرافيا وتجلياتها في وجوه وسلوك البشر. ولعل الحب الذي ظل مكتوما في صدر سنوسي بطل الرواية لنجية ابنة عبد الكافي على مدار سني عمره حتى اختفائه، يبدو طريقا لفهم الكيفية التي تتشكل بها علاقات شديدة الخصوصية وسط صراع لا يخلو من طبقية أحيانا ومن عشائرية في معظم الأحايين».
ويشير إلى ارتقاء طبقات السرد إلا مصاف الخرافة والأسطورة، متابعا بقوله: «فسنوسي طفل زيدان اليتيم يأخذ قدر أبيه الذي تصنفه العائلة على أنه «رجل مشؤوم وخميرة خراب، بعد أن قتلته أطماعه تحت أنقاض بيته ليس لأي سبب سوى لأنه بناه من أحجار مقابر جنود المحور والحلفاء وهو ما لم يكن يرضى عنه عمه (عبد الكافي). كان العقاب قاسيا، اعتبره الأهل جزاء وفاقا لعمل يُخْرِج صاحبه على الملة».
ويخلص قرني إلى أن «الجغرافيا التي صنعتها الرواية لنفسها أو صنعها عبد الستار حتيتة لروايته، تلعب دورا في تشكل السلوك العام لقاطنيها، فهي تمثل فضاء واسعا مقفرا وقاحلا ينتظر السماء كل عام حتى تنعم عليه بالمطر. ورغم هذا الامتداد الذي يبدو لا نهائيا، فإن الحركة في صحراء الرواية تبدو مقيدة بفعل قوة غاشمة انهارت وتركت وراءها ألغامها.. فالمكان هو هضبة صحراء السلوم، والجغرافيا تشكلها قرية صغيرة اضطرت إلى الإغارة على معسكرات الألمان بعد أن طالت قذائفهم الحرث والزرع والنسل فمات من مات وتشرد المئات بالـ(الهَجّة) أو الهجرة إلى أقصى الجنوب حتى تهدأ الحرب»، مؤكدا أن «رواية عبد الستار حتيتة الممتلئة والمكتنزة في 262 صفحة بعيار أيامنا تعد سجلا مأساويا بحق لشبكة محكمة من العلاقات المعقدة. في المقابل تبدو صورة الماضي أكثر إشراقا من ذلك الحاضر التي تنحسر فيه قوة الاحتلال لتحل محلها قوة الجهل والفقر، وهي القوة التي تحكم مصير هؤلاء الأبطال التعساء. كما أنها رواية في الإجمال شمس أخيرة لواقع يموت أو هو في طور الاحتضار، حيث تبدو كسردية فريدة في قسوتها وقدرتها على صياغة المأساة المجتمعية دون خطابات رفيعة ومؤدلجة، ويتم ذلك عبر لغة مركبة تتحسس قوتها وصرامتها وشاعريتها بعيدا عن حرية الحركة الزمنية في السرود والشخصيات، وكذلك عبر مستوياتها الدلالية المتعددة، أعادت الصوت الملحمي والواقعي، والخطاب الآيديولوجي بوعي جديد ومتقدم يتجاوز فكرة الراوي العليم، صانع الحكاية، خالق الأبطال وقاتلهم أيضا. هذه هي الفخاخ التي استطاع روائي (شمس الحصّادين) أن ينجو منها فقدم لنا هذا العمل المائز والنادر».