أول كتاب أشبه بدلو ماء يسكب على أرض بكر

طه جزاع

TT

من الصعوبة بمكان أن يتحدث الإنسان عن الكتاب الأول الذي قرأه أو عن تأثره بكتاب قرأه في حياته، ذلك أن الحديث عن كتاب أول هو حديث عن مرحلة ما قبل الوعي الثقافي للشخصية الإنسانية، وهو أشبه بدلو من الماء تسكبه فجأة على أرض بكر يابسة سرعان ما يتبدد ويتسرب من بين ذرات التراب أو يتبخر في الفضاء، كما أن الحديث عن كتاب ترك تأثيرا في حياة قارئه يبقى حديثا ضبابيا تعوزه الدقة، وعادة ما يتخلص الذين يوجه لهم مثل هذا السؤال من المثقفين المسلمين بالجواب الجاهز أنه القرآن الكريم! ولعمري إن في ذلك مغالطة وتلفيقا يتجاوزان الفهم العقلاني بأن القصد من السؤال هي الكتب التي أنتجها العقل البشري التي لا يمكن أن نضعها في مجال المقارنة مع كتاب سماوي منزل ومنزه ومقدس، لا يؤثر في حياة الإنسان فحسب، إنما يصقل عقيدته ويرسخ إيمانه ويقوده إلى الخلق الرفيع والدرب القويم والصراط المستقيم في حياته الدنيوية والأخروية، وفي ذلك أمر جليل أكبر وأعظم مما يفعله أي كتاب بشري في حياة الإنسان، ومن أجل ذلك فإنني لا أشعر بالارتياح لأي إجابة تنحو هذا المنحى، لأن القرآن الكريم وحي منزل وليس مجرد كتاب نقرأه ونقول عنه إننا تأثرنا به.

وأعود إلى جوهر السؤال لأقول، إن صوت أخي المعلم العتيق أبو زياد، أطال الله في عمره، هو الذي رسخ في ذاكرتي الروايات والكتابات الكلاسيكية الرومانسية لمصطفى لطفي المنفلوطي ومحمد عبد الحليم عبد الله، فقد حدث في سنوات طفولتي ودخولي المدرسة الابتدائية أن عشت في بيت أخي، وكان معلما في قرية زخيخة التابعة لقضاء هيت التي لم تصل إليها نعمة الكهرباء مثلها في ذلك مثل قرى العراق شمالا وجنوبا شرقا وغربا أوائل الستينات من القرن الماضي، فكان أخي بعد أن تغرب الشمس وينقضي موعد الصلاة والعشاء، يضطجع على سريره ويقرأ بصوت مرتفع فصولا من كتب وقصص المنفلوطي، ليس من أجل عيني، بل لتستمتع بسماعها أم زياد، رحمها الله، وكنت أنا أسترق السمع وروحي الفتية تتناغم مع نظرات المنفلوطي وعبراته أو تتألم مع الشخصيات المعذبة، وبالأخص في روايتي «لقيطة» و«شجرة اللبلاب» لمحمد عبد الحليم عبد الله التي كان يقرأهما أخي بعاطفة قوية ونبرات صوته الحزينة تثير اللوعة والشجن في تلك الليالي المظلمة إلا من ضوء شمعة أو فانوس قديم! وأعبر الزمان سريعا، وصولا إلى منتصف السبعينات، حين انتبهت إلى رواية «الساعة الخامسة والعشرون» للروائي الروماني قسطنطين جورجيو، وكيف أنني تحمست لقراءة هذه الرواية بعد أن أخبرني صديقي القاص والروائي علي خيون أن القاص عبد الستار ناصر أعلن أنه لو اضطر لبيع كتب مكتبته فإن كتابا واحدا سيحتفظ به هو رواية «الساعة الخامسة والعشرون»! وكان الراحل عبد الستار محقا، فقد تعلق جيلنا بهذه الرواية الفذة التي تلخص عذابات الإنسان في عصر الآيديولوجيا، وأصبح كل منا يشعر وكأنه أيوهان موريتز، بطل الرواية المسكين المعذب بين معتقلات وسجون ومعسكرات الشيوعية والنازية والرأسمالية بعد أن فقد حلمه الصغير بتكوين عائلة بسيطة بعيدا عن صراعات السياسة وحروب الآيديولوجيات المتنافرة. ومن شدة إعجابي وتعلقي بهذه الرواية حينها أنني لاحقت صديقي التشكيلي والناقد الموسيقي حميد ياسين ليعيدها لي بعد أن استعارها مني وتورط بإعارتها إلى طالب في كلية الفنون الجميلة حتى تمكنت من استرجاعها منه بعد 8 سنوات من التحري والملاحقة، وفقدت بعدها كثيرا من كتبي لكنها ما زالت في مكتبتي حتى يومنا هذا!

* كاتب وأكاديمي عراقي