«الشرق الأوسط» في مهرجان دبي السينمائي الدولي 3: «دلافين» لوليد الشحّي.. رسم للمكان وشعر في الزمان

مفاجأة رائعة للسينما الإماراتية

مشهد «الولدان والبحر»
TT

«لم يرن الهاتف اليوم».. يقولها فاضل وهو ينظر إلى هاتفه الجوّال إلى جانبه في الفيلم المكتوب برقّة والمنفّذ ببراعة وحكمة «دلافين».

لا يعمد المخرج وليد الشحّي إلى لقطة قريبة لذلك الرجل وهو ينظر إلى هاتفه. بل هي ذات اللقطة البعيدة له وللرجل العجوز الذي فقد أمّه جالسين على صخرة وحيدين ومحاطين بالضباب الوافد. «لم يرن الهاتف اليوم»، يقولها بلهجة إماراتية حزينة ومنها ترتفع الكاميرا إلى السماء لنرى مروحية منطلقة من منطقة قريبة إلى عمق البحر.

«دلافين» هو فيلم إماراتي جديد ثالث هذا العام. كان شوهد «من أ إلى ب» لمصطفى علي في مهرجان أبوظبي (ويعرض في مهرجان دبي حاليا)، وشوهد هنا «عبود كونديشن» لفاضل المهيري، والآن العمل الذي حققه وليد الشحّي كأول عمل روائي طويل له. وهو فيلم معروض بين الأفلام المتسابقة على جوائز «المهر» الدولية (أفلام عربية وأجنبية) ويستحق أن ينالها. هو أيضا الفيلم الروائي الأول للمخرج بعد طول انتظار. كان السيناريو الذي كتبه أحمد سالمين فاز بجائزة «IWC»، مما مكّنه من تفعيل هذا العمل المنتج بقدرات ومواهب محليّة، والمحلّي، مع بدايته، بموسيقى تكاد تراها مجسمة رغم شفافيتها ورقّتها من إبراهيم الأمين. قليلة هي الأفلام الخليجية (بل والعربية عموما) التي تعرف متى وكيف وإلى أي حد تستطيع استخدام الموسيقى. هذا الفيلم يفعل. حين يطلبها للمشاركة تأتي لائمة وفي مكانها الموجز والصحيح.

* رحلات حياة

* حكاية متعددة الرؤوس ولو أن شخصياتها تنتمي إلى جسد عائلي واحد. هناك الأب والأم والولد. الأب فاضل يعمل سائق سيارة إسعاف في أحد مستشفيات مدينة رأس الخيمة، ومطلّقته تعيش البحث عن التعويض العاطفي وعلى أهبة الزواج من جديد، وابنهما الفتى الذي يعيش في كنف أمه لكنه غير راض عن دخول رجل جديد حياة العائلة الصغيرة، مذكّرا والدته بأنها تزوّجت، بعد طلاقها من أبيه، مرّة سابقة وطلقها زوجها ذاك، و«الآن ستتزوّجين مرة ثالثة وسيطلقك أيضا».

إنها مشاهد قليلة تلك التي تجمع فعليا بين الأب وابنه أو بين الأم وابنها ذاك، وليس هناك أي مشهد بين الأب والأم. إذ يفتح الفيلم أوراق حكايته تدرك سريعا أنه، في أحد جوانبه، عن القطيعة بين هذه الشخصيات (ومن يماثلها في الحياة). الأب المعتكف الذي كان قرر أن يقطع علاقته بابنه أساسا، والأم التي تعيش عالما خاويا من حولها (تدخل متجر ثياب تتجول فيه وحيدة في دلالة كبيرة) تتحدث هاتفيا مع الرجل المقبل في حياتها (لا نراه ولا نسمع صوته)، بينما هي في سيارة التاكسي (التي لا نرى أو نسمع صوت سائقها).

أما الولد فهو الرقم الصعب. الفيلم ليس عن طفولة حائرة بين أبوين، ولا هو دراما عن فتى يتمرد على وضعه ثم بسببه فيخرج عن القانون. عوض السبيل السهل، اشتغل كاتب السيناريو أحمد سالمين على الواقع وقدم فتى في نحو الرابعة عشرة من العمر يبدأ بتشكيل رأيه في والديه. ينحو إلى الاستقلال قدر ما يستطيع، لكنه مرتبط بواقعه ارتباطا وثيقا ليس من السهل الخلاص منه. هذا الفتى ليس أمامه سوى أفق واحد يستطيع أن يسلكه بعيدا عن الواقع وهو ركوب البحر في صندوق خشبي (كان في الأساس ثلاجة قديمة) مربوط ببرميلين كل إلى جانب لأجل إبقائه طافيا ومتوازنا ومعه صديقه ذو الساق المعطوبة الذي يعيش (بدوره) مع والدته (ومن دون أب).

في مطلع الفيلم نجد الفتى يقود دراجته النارية في ليل المدينة. إنه يقصد أباه الذي يعمل في أحد مستشفيات المدينة. حين يلقاه يخبره بأن والدته لا تريده في البيت. يطلب منه بكلمات أقل من ملحة أن يؤويه. يمنحه والده، بتصرّف أقل من ودي، مفتاح الشقّة وبعض المال ليأخذ التاكسي إليها ثم يتركه طالبا منه الانتظار ومتوجّها إلى ذلك الرجل المتقدّم عمرا الذي كان يبكي رحيل والدته لكي يواسيه. الصبي ينظر إلى والده ثم يترك المال والمفتاح وينطلق مبتعدا.

ربما يحتاج الفيلم إلى تبرير أفضل هنا لمثل هذا الفعل. نعم العلاقة بين الابن والأب تبدو متوتّرة. الابن يبدو مترددا في طلب المساعدة (ولو أنه جاء يطلبها على أي حال) لكن التبرير لمغادرة المكان لمجرد أن والده توجّه لمواساة ذلك الرجل الغريب ليس وافيا.

* محاولات تواصل

* ستمضي عن هذه الملاحظة سريعا. ستقبل بها لأن المشهد ضروري. الفيلم يبدأ، عمليا، به. هذا قبل أن يعود إلى المفارقات التي أدّت إليه. لو أن المخرج حذف مشهد البداية المذكور وباشر فيلمه بسرد الحكاية من نقطة العودة تمهيدا للوصول إلى ذلك المشهد، لكان المخرج اضطر إلى سرد تقليدي سيكون من الصعب حمايته من التنميط. ذلك المشهد يأتي مفعما بالأحاسيس وسيبدأ رحلة الفيلم لكي يعود إلى المشهد عندما يحين وقت حدوثه تبعا لسلسلة الأحداث ثم يكمل القصّة كلها. سنجد هذا الفتى وصديقه ذا الساق المعطوبة ينطلقان في رحلة بحرية وفي البال الوصول إلى عمق البحر فلربما وجدا دلافين. الفتى، بطل الفيلم، يعرف عنها بضعة أشياء. صديقه الذي يجر قدمه المكسورة جرّا يصدّقه. هذا الصديق ينظر إلى بطلنا كأخ أكبر (ولو أن فارق العمر بينهما قليل جدا) وذلك بعدما فقد والده وحلّ بطلنا مكان أي علاقة يمكن أن يحتاجها الصديق خارج البيت ومع العالم.

سيمضي الفيلم بين حكاياته الثلاث: الأب الذي يأخذ الرجل المسن في رحلة إلى منطقة جبلية معزولة ليدفن أمّه الميتة والأم التي ستراوح محلّها في الحياة والابن الذي سينطلق إلى البحر مبتعدا قدر الإمكان عن اليابسة وما يحدث له ولعائلته فوقها.

لا علاقات وطيدة بين هذه العوالم لأن العلاقات الشخصية بدورها غير وطيدة. الأم هي أقل الشخصيات تمتّعا بحدث ما في حياتها، بينما تنضوي حكاية الأب فاضل واستعداده لرحلة غير متوقّعة على شعور إنساني رائع. المشاهد التي تقع في المستشفى بين هذين الرجلين من أفضل ما تم تصويره في فيلم إماراتي من مشاهد تدور بين رجلين. فهم كامل يمارسه المخرج الشحّي لتفاصيل اللقطات التي تجسّد هذا الشعور مع تمثيل جيّد من هذين الممثلين الجديرين.

تفاصيل الشحّي تستولي على كل شيء. لا تبرزها الكاميرا (تصوير التايلاندي فوتيفونغ أرونفنغ الذي، مثل المخرج، صوّر أفلامه قصيرة من قبل) في لقطات متخصصة، هذا ليس أسلوبه، بل تكشفها المشاهد بما تنضوي عليه من عمق في دلالاتها وعواطفها. وإذ يضيع مركب الولدين في عرض البحر وتجلس الأم على الشاطئ منهارة ومدركة ورطتها، يجد المخرج في مشهد الأب الذي تعطلّت سيارة الإسعاف الخاصة به وسط الجبال، وجلس على تلك الصخرة مستمعا إلى أشعار صاحبه التي حفظها عن والدته، النهاية التي تستطيع أن تلم تحت معانيها كل ما يحدث بعيدا عن الأب في الوقت ذاته.

في المشاهد السابقة، كان الابن لا يتوقّف عن محاولة التواصل مع أبيه. يطلب هاتفه النقال دائما. الأب اعتاد ألا يجيب الهاتف. وعندما ينظر الأب في نهاية الفيلم إلى هاتفه مفتقدا أنه لم يتلق عليه أي مكالمة في هذا اليوم الأخير الذي تتوقف أحداث الفيلم عنده (تدور في رحى 24 ساعة) يكون ذلك هو الرابط الذي سيعيد الأب للتفكير في ابنه، وسيزيده مشهد تلك المروحية التي انطلقت من موقع قريب لتبحث عن الولدين التائهين في عرض البحر. أما ذلك الضباب المتسلل فله معانيه الرمزية بدورها والتي تزيد من جمالية المشاعر المنسكبة وجماليات حزنها. كان المخرج يستطيع إما حذف التعليق المسموع أو اعتماده على نحو أكثر توازنا، لأنه في الحال الماثل يبدأ ويتوقف عند منتصف الفيلم تقريبا فاقدا بذلك الدور المنشود.

«دلافين» ليس الفيلم الذي سيجده رواد السينما الإماراتيين مسلّيا. جمهور أنطونيوني الإيطالي في الستينات لم يجدوا أفلامه مسلية أيضا، لكن أعماله هي التي خلدت. إذا امتنع الشحّي عن التنازل مستقبلا فإنه - مع بعض التدقيق والمزيد من الخبرة - مايكل أنغلو أنطونيوني السينما العربية. هنا لا يحاول تقليده، لكن المسار وأسلوب السرد في بعض نواحيه واحد. في الحقيقة لا يحاول الشطّي تقليد أحد، بل يقدم على مغامرته الأولى في الفيلم الروائي الطويل باستقلالية تامّة. هدفه الواضح هو صنع فيلم فني بصرح عال. بموضوع اجتماعي شفاف ورقيق وبمعالجة هي في الوقت ذاتها إنسانية كاشفة وجمالية مبدعة. وهو يحقق كل هذه الأغراض جيّدا وبذا يقدم باسم الإمارات سينما راقية وجميلة.