تونس.. أصوات أدبية ناشئة تلاحق النقاد فلا تجدهم

إنتاج أدبي وفير في حاجة لغربال النقد

محمود المسعدي و أحمد الفرشيشي
TT

رحل جيل رواد الأدب التونسي تباعا وتركوا الساحة الإبداعية مفتوحة أمام أجيال جديدة تحاول أن تخط لها طريقا مختلفا عما عرفته الأجيال السابقة سواء على مستوى أشكال التجريب الأدبي أو كذلك على مستوى المواضيع المطروحة من خلال النصوص المنشورة. فإذا كان محمود المسعدي أشهر كتاب تونس قد بنى مؤلفاته على مفهوم الوجودية تأثرا بالكاتب الفرنسي جون بول سارتر فأنتج كتاب «السد» ورواية «حدّث أبو هريرة قال» وغيرهما من الإبداعات الراسخة في سجلات المدونة التونسية، ومصطفى الفارسي صاحب المجموعة القصصية «المنعرج» التي طبعت الذاكرة الأدبية، فإن كتاب اليوم سواء في مجال القصة أو الرواية أو كذلك الشعر قد تاهت بهم المسارب وتغلغلت في متاهات كبيرة لم تجعل للجيل الجديد ميزة معينة يمكن الحديث عنها.

لذلك فإن بعض الكتاب والشعراء يعيدون إنتاجات الكتاب العرب الكبار أمثال نجيب محفوظ والطيب صالح وعبد الرحمن منيف بسياقاتها المعروفة أما الشعراء فهم في تونس سجناء تجربة أبو القاسم الشابي صاحب الروائع الرومانسية في ديوان «إرادة الحياة» ولكن الشابي ظل تلك الشجرة الوارفة الظلال التي تحجب الغابة بأكملها عن بقية الشعراء، وفي الخارج ينقسمون بين تجارب محمود درويش ونزار قباني أو يدخلون في غياهب التجريب التي لا تفضي إلى إنتاجات مميزة وتلفها الطلاسم في معظم التجارب.

ولكن هذا لا يعني بالضرورة عدم وجود أصوات أدبية شابة لها المقدرة الفكرية والمعرفية والتكوين الأدبي الصميم ما يجعلها تنتج بدورها خطوطا جديدة في مجال الإنتاج الفكري في تونس.

وللكتاب الشباب كثير من المشاكل على رأسها عدم القدرة على غربلة الإنتاج الأدبي فالكتابة تبقى على الدوام في باب الهواية ولا توجد بوابات صارمة للتأكد من جودة الإنتاج الأدبي وبالتالي تمكين الأصوات الجديدة من بطاقات اعتماد أدبي أن صحت العبارة. ونتيجة لهذا الوضع المتذبذب تجاه الإنتاج الأدبي برمته، فقد غابت البرامج الأدبية التي تسوق الأصوات الجديدة في الإذاعات والقنوات التلفزيونية التونسية، وانتهت تقريبا كل الصفحات الأدبية التي كانت موجهة إلى الأدباء الشباب على صفحات الجرائد التونسية.

كما أن تبني أصوات أدبية وفكرية جديدة بات تقريبا مفقودا في الساحة الأدبية إذ إن النقاد غالبا ما يبحثون عن الأسماء المكرسة على مستوى الساحة ولا يجتهدون في البحث عن الأقلام الجديدة في جيل أدبي ظل متأرجحا بين القديم والجديد.

وفي تعليقه على مشاكل الأدباء الشبان، قال يوسف عبد العاطي الروائي التونسي لـ«الشرق الأوسط» إن الواقع الأدبي في تونس صعب ومعقد للغاية، فوزارة الثقافة التي غالبا ما تقتني أكبر كمية من الكتب المطبوعة غالبا ما لا تنظر عميقا في نوعية الكتب المنشورة وتمكن الناشرين سواء الخواص أو على الحساب الخاص من منح قليلا ما تغطي كلفة الكتاب المبدع.

ويرى عبد العاطي الذي ينتمي إلى نادي القصة (أعرق ناد أدبي في تونس أسسه الأديب التونسي محمد العروسي المطوي منذ أكثر من 40 سنة) أن الجيل الجديد من الكتاب على عجلة من أمره فهو يطلب الشهرة والمجد الأدبي قبل أن ينتج نصا عليه القيمة ويثير الجدل في الساحة الأدبية. وبخصوص تجربة نادي القصة، أشار عبد العاطي إلى أنها فتحت مجال النقد الأدبي لإنتاج الكثير من الأصوات الشابة خلال العقود الماضية وقدمت المشورة والنقد والتعديل لمعظم كتاب القصة في تونس.

ولكن يوسف عبد العاطي الذي ألف عدة روايات تونسية من بينها «ريح الوقت» و«غروب الشرق» يؤكد على ثانوية الإنتاج الأدبي بالنسبة لكثير من القطاعات الفنية الأخرى، فكل الأطراف المتدخلة في مجال الثقافة تعطي الأولوية للإنتاج الفني (غناء وطرب ومسرح وسينما) وتنسى النص الذي هو قوام معظم الإنتاجات الفنية.

وباتت ظاهرة النشر على الحساب الخاص خطيرة للغاية على مسارات الأدباء الشبان إذ إنها تطرح أسئلة كثيرة عن واقع النشر في تونس، وتجعل معظم الإنتاج الأدبي يهرب عن غربال النقد وفي ذلك مخاطرة واضحة على الأجيال الجديدة المطالبة بصعود المدارج درجا وراء آخر.

كما أن ضيق السوق الثقافية في تونس قد يكون من أهم المشاكل التي تواجه الكتاب التونسي. ولعل البخل والتقتير في المطالعة والقراءة والتركيز على الكتب والمؤلفات المدرجة في برامج التعليم، ضيق الخناق جيدا على الأدباء الشبان، إذ قلما يقبل التونسيون على اقتناء إبداعات جديدة مثلما يبتاعون بقية حاجياتهم الغذائية والحياتية ولا يخصص الكثير منهم ميزانية واضحة للغذاء الفكري وهو ما يؤثر على السوق الأدبية ويجعل نشر كتاب لأديب مبتدئ بمثابة المغامرة المحفوفة بالمخاطر.

ولكن النجاح الذي يلاقيه المسرح والعروض الموسيقية والمعارض الفنية وأسابيع السينما وغيرها من التظاهرات الثقافية يعني أن هناك حياة ثقافية حقيقية في تونس، وهو في حاجة إلى ترجمة فعلية من خلال حركية النشر وإعلاء أصوات أدبية وشعرية على غيرها من الأصوات.

ويحكي الشاعر التونسي وليد أحمد الفرشيشي عن تجربته الخاصة في مجال الإنتاج الشعري وتعامل الساحة الأدبية مع إبداعاته وكيف فاز بجائزة قرطاج العالمية للشعر، فيروي لـ«الشرق الأوسط» سيطرة العلاقات الشخصية وخضوع معظم الإنتاج الأدبي في تونس إلى «الإخوانيات» بحيث أن نصوصا أدبية لا يمكن على حد تعبيره نسبتها إلى الأدب تحظى بهالة استقبال على المستوى النقدي لغايات في نفس من يدعمونها بالكلام الجميل والنقد المغشوش وتغمط نصوص أخرى وأصوات أخرى فلا يعرفها أحد.

وينفي الفرشيشي الذي سيصدر قريبا مجموعة شعرية تحت عنوان «لم أكن حيا بما يكفي» نفيا قاطعا تقصير الكتاب الشبان على مستوى إنتاج النصوص، ولكنه يعيب على النقاد انقسامهم إلى قبائل وتغليب نصوص على أخرى دون مرجعية نقدية صارمة.