الولايات المتحدة.. هل هي «دولة عميقة» حقا؟

تغيرات السياسة الأميركية من الأب إلى الابن

صورة ابي المؤلف : جورج دبليو بوش الناشر: كراون ، نيويورك ، 2014
TT

غالبا ما يتساءل المتابعون للسياسة الأميركية، في خضم حيرتهم من السبل العجيبة التي تدير بها أميركا سياساتها، كيف لمثل تلك «القوة العظمى» أن تنفعل في أتون السياسة وهي منبتة الصلة عن مجموعة النخبة الضامنة لاستدامتها. يمكن للمرء تمييز تلك الفئة من النخبة في معظم البلدان الأخرى، من السلالات أو العائلات أو حتى القبائل التي ترسي أركان النظام بدرجة من قابلية التنبؤ بمستقبل الأحداث. ويشير مؤيدو نظريات المؤامرة إلى تلك الفئات باسم «الدولة العميقة»، أي تحالفات القوى المبهمة والمدير الفعلي لمجريات السلطة، بغض النظر تماما عمن يتطلع بابتسامته في وجه وسائل الإعلام.

فهل تمتلك الولايات المتحدة «دولتها العميقة» كذلك؟

قد يمتلك بعضهم الإجابة، مشيرا إلى بعض النوادي الراقية، أو مصالح الشركات العملاقة، أو جماعات الضغط ذات التمويلات الفلكية، أو حتى إلى الحركات شبه السرية. ولكن حين الحديث عن العائلات الأميركية، وعلى العكس من مضمار الأعمال الذي برزت فيه قلة قليلة من العائلات الأميركية لما يربو على قرن من الزمان، فإن فئة ضئيلة منها كان لها أعمق الأثر على السياسات الأميركية.

يمكننا الاستشهاد، للدلالة على ذلك، بعائلة آل آدامز، والتي خرج منها رئيسان للولايات المتحدة، والد ونجله، وهما السيد جون والسيد جون كوينسي. ثم لدينا آل هاريسون الذين قدموا رئيسين كذلك، الجد والحفيد، السيد ويليام والسيد بنيامين هاريسون. ويأتينا آل روزفلت أيضا برئيسين للبلاد، العم وابن أخيه، السيدان تيودور وفرانكلين. ولم يَخْبُ طموح آل كيندي العائلي، غير أن العائلة لم تقدم للرئاسة إلا رجلا وحيدا، السيد جون كيندي، نظرا لحادثة الاغتيال التي نالت من حياة خليفته السيد روبرت كيندي.

وهكذا، يقترب آل بوش، برئيسيهما، الأب والابن، السيدان جورج وجورج دبليو، من السلالة الأميركية السياسية الحاكمة مع كثير من الكلام حول رئيس ثالث من العائلة ذاتها يأملون في يوم ما أن يعتلي سدة حكم البلاد، ألا وهو السيد جيب بوش، الحاكم السابق لولاية فلوريدا. (وقد يواجه السيد جيب السيدة هيلاري كلينتون في ماراثون البيت الأبيض، في محاولة عرضية لإقامة سلالة حاكمة جديدة). هذا، ويمتلك آل بوش الكثير من رجال الكونغرس، والنواب وحكام الولايات في تاريخهم الكبير.

بعيدا عن السياسة، لا يعتبر كتاب جورج دبليو بوش إلا أنشودة من أناشيد النصر احتفاء بوالده، وفي معنى من معانيه، للأبوة بمقتضاها الأشمل. فبعد تمحيصه الدقيق لكثير من رسائل والده، وفيما يبدو من خلالها أن بوش الأب مولع بالطراز الكلاسيكي من الرسائل، إضافة إلى مقابلات شخصية عدة مع الآخرين من أعضاء الأسرة، وعلى رأسهم بطبيعة الحال السيدة باربرا بوش، الوالدة العظيمة، وجماعة من أرقى الأصدقاء، فإن جورج دبليو يعرض لنا صورة شديدة الود للرجل الذي احتل دورا رئيسيا في سياسات الولايات المتحدة لما يفوق نصف القرن من الزمان. وللمولعين بالكشف عن خبايا السياسات المثيرة، فسوف تحيط بهم خيبة الأمل جراء ذلك الكتاب والذي يهيم مبتعدا عن مستنقع القضايا أو القرارات المثيرة للجدل.

يعد ذلك الكتاب مثيرا للاهتمام لسببين.

أولهما، أنه يكشف عن بوش الكبير من واقع أنه، ومنذ عهد الرئيس الأميركي هوارد تافت، آخر الرؤساء غير المتحزبين، أو على أدنى تقدير، متحزب بصورة وادعة. ونرى الكتاب يصور بوش الكبير كساع نحو الإجماع، وأن ذلك بوسيلة ما من طبائعه الخاصة. فبالنسبة له يأتي تفهم «الطرف الآخر» من قبيل صفقات المناصفة، حيث يميل دوما إلى البحث عن الحلول الوسط في خضم المواجهات العسيرة باعتبارها من القيم الأميركية الجوهرية. وذلك على النقيض من كراهية باراك أوباما الفجة لجورج دبليو بوش، أو ذلك القدر من الكراهية العميقة، في الوقت الراهن، التي يكنها بعض الجمهوريين تجاه أوباما، ولعلك تلاحظ الوتيرة التي تغيرت بها السياسة الأميركية، ربما نحو الأسوأ.

كان بوش الكبير هو الزعيم الجمهوري الأوحد الذي حضر مراسم وداع الرئيس الديمقراطي الراحل ليندون بي جونسون، احتراما لوفاته. كما تصادق بوش الكبير كذلك مع الرئيس بيل كلينتون، وهو الرجل الذي حال بينه وبين فترة رئاسة تالية للبلاد.

في حقيقة الأمر، يعتبر بيل كلينتون الآن، ومن زوايا عدة، «شقيقا لبوش من آباء متفرقين»، كما أشار السيد دبليو بوش في كتابه. كما كانت هناك علاقات تتسم بالمودة بين بوش الكبير والرئيس باراك أوباما. (فلقد شاهدتهما في عام 2012 يجلسان سويا، ربما كانا يتقاسمان مزحة ما، أثناء مأدبة غداء أقيمت في جامعة تكساس فرع كوليج ستيشن. وفي الخطاب الذي أعقب حفل الغداء أطرى السيد أوباما بعبارات الثناء والمديح على السيد بوش الكبير).

وثاني الأسباب التي تضفي على ذلك الكتاب أهميته، هو التضاد فيما بين سياسات بوش الكبير، من حيث الفحوى والأسلوب، وسياسات حركة الشاي، وهي الحركة التي تسيطر على غالبية الحزب الجمهوري. ولا نعرف على وجه التحديد موقف جورج دبليو من ذلك التضاد. ومع ذلك، فإن تاريخه السياسي قد يصوره كمزيج من النزعة الجمهورية التقليدية المستقاة من والده والالتزام الصليبي لتيار الشاي المناوئ.

كما يذكرنا الكتاب بالسؤال المحوري حيال السياسة الأميركية في وقتها الراهن، وربما لبعض فترات المستقبل كذلك، وهو: أيمكن إحياء نزعة الثنائية الحزبية التي كان يعزز من وجودها السيد بوش الكبير، على أدنى تقدير في مضمار السياسة الخارجية للبلاد.

استقرت صورة ما لدى الأذهان حول بوش الكبير باعتباره ذلك الأرستقراطي البارد ذا الإدراك الطفيف وربما التعاطف الباهت لحياة الناس العاديين. حيث يتذكر السيد جورج دبليو حلقة ما من الحملة الانتخابية حينما تلقى بوش الكبير سؤالا من أحدهم حول ما إذا كانت لديه أية تجارب في «الحياة العادية»؟

لا يمكننا الوقوف على ما كان يدور بخلد بوش الكبير حينها. ورغم ذلك، فلم يتمتع بحياة عادية نظرا لأنه قبل بلوغه العشرين من عمره، كان على مسافة 6 آلاف ميل من الوطن يخوض حربا ضد اليابانيين. وعقب عودته من الحرب، وقبل أن يتمكن من تذوق طعم «الحياة العادية» سرعان ما تزوج ومن ثم تولى مسؤولية عائلة واسعة بحق وفقا للمعايير الحالية.

يحتضن كتاب جورج دبليو بوش بعض المفاجآت مع درجة ما من الانتباه إلى مختلف الموضوعات. مثالا لذلك، تلقى مرور بوش الكبير كسفير عارض لبلاده لدى الصين، وهو منصب حاسم في حينه، القليل من الاهتمام. ومر الكتاب مرور الكرام كذلك على السنوات التي قضاها بوش الكبير سفيرا لبلاده أيضا لدى منظمة الأمم المتحدة، على الرغم من الدور البارز الذي لعبه الرجل في تعزيز سياسة الانفراج مع الاتحاد السوفياتي السابق بوصفها تمهيدا متأنيًا نحو الفصول الأخيرة من مشهد الحرب الباردة. وبدلا من ذلك، يقضي السيد جورج بوش الابن وقتا في تتبع دور والده كزعيم للحزب الجمهوري إبان أزمة ووترغيت والتي أفضت إلى إقصاء الرئيس ريتشارد نيكسون خارج مؤسسة الرئاسة. وقد يكون السبب وراء ذلك أن القارئ الأميركي (المستهدف) قد يكون على قدر أقل من الاهتمام إزاء السياسات الدولية أكثر من اهتمامه بجدالات مطبخ السياسة الداخلية.

غير أن ذلك عُوض بقدر من الأقاصيص التي ألقت الضوء على عائلة بوش. حيث يسأل السيد جورج بوش الابن بعضا من عائلته لماذا لم يُطلقوا عليه اسم جورج إتش دبليو بوش الابن في النمط الأميركي للتأكيد على انتماءات البنوة. وترد السيدة باربرا والدته قائلة: «ربما لم يكن هناك متسع لذلك الاسم الطويل في استمارات الالتحاق».

يكشف ذلك الكتاب، على الرغم من بعض السقطات الغنائية اللذيذة أحيانا، أن السيد جورج بوش الابن كان كاتبا موهوبا. حيث تخرج نثرياته قليلة الثقل وذات وتيرة متسارعة وتأتي من القلب مباشرة بعكس مذكراته السياسية المعنونة «نقاط القرار».

عقب أسبوع فقط من إصدار كتاب «41 صورة لوالدي» كان قد وصل إلى قمة الكتب الأكثر مبيعا في الولايات المتحدة، في إشارة إلى أن الملايين من الأميركيين لا يزالون مهتمين بكلا الرجلين، بوش الأب والابن. ومنذ رحيله من البيت الأبيض، كان بوش الابن يحاول قضاء وقته في الرسم والتأليف. ومن واقع رؤيتي لرسوماته، أظنه سوف يكون كاتبا ممتازا.