هجمات مومباي 2008.. لغز يبحث عن حل

عناصر «عسكر طيبة» الباكستانية اعتمدوا على برنامج «غوغل إيرث» لتحديد الطرق نحو أهدافهم داخل المدينة

TT

في خريف 2008، تنقل خبير بالحاسب الآلي يدعى زارار شاه (30 عاما)، ما بين الجبال الواقعة شمال باكستان ومنازل آمنة قرب البحر العربي، بينما كان يخطط لمذبحة في مومباي راح ضحيتها 166 شخصا، بينهم 6 أميركيين، أهم المراكز الاقتصادية الهندية.

واعتمد شاه، وهو المسؤول التقني الأول بجماعة «عسكر طيبة» الباكستانية الإرهابية، والمتورطون معه على برنامج «غوغل إيرث» لتحديد الطرق نحو أهدافهم داخل المدينة. كما صاغ نظاما هاتفيا يعتمد على الإنترنت للتمويه على مكانه عبر تحويل المكالمات الواردة إليه عبر نيوجيرسي.

إلا أنه لم يعلم أنه بحلول سبتمبر (أيلول)، كان البريطانيون يتجسسون بالفعل على كثير من نشاطاته عبر الإنترنت بما في ذلك إجراءات البحث والرسائل، حسبما كشف مسؤولون أميركيون وهنود سابقون وكذلك وثائق سرية كشف عنها إدوارد جيه. سنودن، المتعاقد السابق مع وكالة الأمن الوطني.

ولم تقتصر جهود المراقبة على ذلك، وإنما اجتذب شاه اهتماما مشابها من جانب وكالة استخبارات هندية، تبعا لما قاله مسؤول سابق على علم بالقضية. من ناحيتهم، قال مسؤولون أميركيون إن الولايات المتحدة لم تكن على علم بجهود الوكالتين، لكنها التقطت مؤشرات على وجود مخطط عبر مصادر إلكترونية وبشرية أخرى، وحذرت مسؤولين أمنيين هنديين مرارا خلال الشهور السابقة للهجوم.

أما ما حدث بعد ذلك، فقد يأتي بين أكثر الإخفاقات كارثية في تاريخ الاستخبارات، حيث لم تجمع الوكالات الاستخباراتية الثلاث خيوط للمعلومات التي جمعتها كل منها، الأمر الذي ربما كان سيحول دون وقوع هجوم إرهابي مروع غالبا ما يوصف بأنه 11 سبتمبر الهند.

من جهته، قال شيفشانكر مينون، الذي كان وزيرا للخارجية الهندية وقت الهجمات ثم أصبح لاحقا مستشارا للأمن الوطني وهو متقاعد حاليا: «لم يضع أحد الصورة الكاملة، للأميركيين ولا البريطانيين ولا الهنود. فقط بمجرد أن بدأ إطلاق النار، تشارك الجميع في المعلومات واتضحت الصورة الكبيرة على الفور».

من ناحيتهم، امتلك البريطانيون قدرا هائلا من المعلومات من اتصالات شاه، لكنهم أشاروا إلى أنها لم تتضمن معلومات محددة بما يكفي لرصد الخطر. أما الهنود فلم يتحركوا على الفور لوقف المخطط رغم تلقيهم عدة تحذيرات من الولايات المتحدة.

وحتى الأميركيين أنفسهم غفلوا عن بعض الإشارات المهمة أيضا، فمثلا تبادل ديفيد كولمان هيدلي، الباكستاني - الأميركي الذي تولى استطلاع الأهداف في مومباي، تبادل رسائل تدينه عبر البريد الإلكتروني مع المتآمرين الآخرين، رمت من دون أن يلحظها أحد حتى قبيل إلقاء القبض عليه في شيكاغو أواخر عام 2009. ولم تنتبه الوكالات المعنية بمكافحة الإرهاب لما قالته زوجته التعيسة لمسؤولين أميركيين قبل وقوع المذبحة بكثير حول أنه إرهابي باكستاني يجري مهام غامضة في مومباي.

ويكشف هذا التاريخ الخفي لهجمات مومباي عن نقاط قوة وقصور المراقبة عبر الحاسب الآلي وعمليات التنصت كأداة لمكافحة الإرهاب. ورغم أن جهود التنصت الإلكتروني غالبا ما تقدم معلومات قيمة، فإنه حتى المعلومات بالغة الأهمية يمكن إغفالها إذا لم تخضع التقنية لمراقبة وثيقة ولم يتم ربط المعلومات الاستخباراتية التي تتمخض عنها بمعلومات أخرى، أو إذا عجزت جهود التحليل عن الكشف عن وجود نشاطات إجرامية من قلب بحر البيانات الرقمية المتوافرة.

وعن حادث مومباي، قال مسؤول استخباراتي أميركي بارز سابق: «لم نتوقع حدوث هذا الأمر. لقد كانت أنظارنا متركزة على أمور كثيرة أخرى مثل القاعدة وطالبان والأسلحة النووية الباكستانية والإيرانيين. ولم يكن وقوع الحادث نتيجة إغفالنا لشيء ما، وإنما لأننا لم نضع القطع الصغيرة بجانب بعضها البعض».

وبعد بدء الهجوم، سرعان ما تشاركت الدول الثلاث فيما لديها من معلومات، وقامت بمراقبة غرفة السيطرة التابعة لـ«عسكر طيبة» بباكستان والتي كانت تصدر منها التعليمات للإرهابيين داخل فندقي تاج وأوبروي والنزل اليهودي، تبعا لما أفاده مسؤولون أميركيون وبريطانيون وهنود سابقون وحاليون.

وكشفت وثيقة بالغة السرية صادرة عن وكالة الأمن الوطني أن هذا التعاون ساعد المحللين على تجميع «خطة العملية بأكملها».

من جهتهم، رفضت الحكومة الهندية الرد على كثير من الطلبات التي تقدمنا بها للحصول على تعليق حكومي، لكن مسؤولا رفيع المستوى سابق بالاستخبارات الهندية اعترف بأن الهند راقبت اتصالات شاه الإلكترونية. إلا أنه من غير الواضح ماهية المعلومات التي توصلت إليها من وراء ذلك.

وفي رده عن سؤال حول ما إذا كان ينبغي أن تكون لدى مركز الاتصالات الحكومية، وكالة تنصت بريطانية، شكوك قوية حول قرب وقوع هجمات، قال مسؤول حكومي في بيان له: «لا نعلق على الشؤون الاستخباراتية، لكن لو كانت لدينا معلومات حيوية حول عمل إرهابي وشيك في موقف كهذا، كنا سنتشارك في المعلومات مع الحكومة الهندية. لذا فإن الادعاء المحوري لهذا المقال خاطئ تمامًا».

الملاحظ أن الحادث لا تزال له أصداء قوية داخل الهند، ويمثل مصدر توتر دائم مع باكستان. الأسبوع الماضي، منحت محكمة باكستانية إطلاق سراح بكفالة للقائد المسلح زكي الرحمن لاخفي، المتهم بكونه العقل المدبر للهجمات. إلا أنه لم يتم إطلاق سراحه بالفعل للنظر في استئناف مقدم في هذا الشأن. من جهتها، اعترضت الهند على قرار إطلاق سراحه، مشيرة إلى أنه يأتي في إطار الجهود الباكستانية لتجنب محاكمة إرهابيين مشتبه بهم آخرين.

يذكر أن قصة مذبحة مومباي تحمل دلالات مهمة بالنسبة لتعامل الغرب مع «داعش» والجماعات المشابهة الأخرى، فمثلما الحال مع «العسكر الطيبة»، يعد «داعش» باعتماده على الاتصالات السرية واحدًا من أكثر التنظيمات الإرهابية تعقيدًا من حيث التكنولوجيا المستخدمة على مستوى العالم. والملاحظ أن «القاعدة»، التي أعلنت أخيرا بناء تنظيم تابع لها في الهند، تعتمد على أدوات مشابهة.

ورغم الدور الحيوي الذي تلعبه ترسانة الحواسب الآلية التي تملكها واشنطن بهذا المجال، فإن التصدي للإرهاب يتطلب مزيجا مركبا من الموارد البشرية والفنية.

وعن ذلك، حذر تشارلز فاديس، رئيس جهود مكافحة الإرهاب سابقا لدى وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) من أن أجهزة المراقبة تجمع بالفعل معلومات قيمة، لكن جزءا كبيرا منها يهدر دونما خضوعه «لمراجعة أو تحليل جاد». وأضاف: «لا أتذكر خلال مشواري العملي حالة واحدة تمكنا خلالها من إحباط مخطط ما بالاعتماد حصريا على الاستخبارات الإلكترونية».

يذكر أن استهداف اتصالات شاه أخفق في رصد دور هيدلي في هجمات مومباي، وظل مسؤولو وكالة الأمن الوطني غافلين لشهور عن تخطيطه لشن هجوم جديد في الدنمارك.

*خدمة «نيويورك تايمز»