روبسبير.. رجل الثورة النقي وجلاد السلطة

سيرة بريطانية عنه تتبع حياته منذ طفولته ومثاليته كثوري حتى تحوله إلى قاتل بدم بارد

TT

كانت شخصية روبسبير مزيجاً غريباً من الريبة السياسية الحادة والعداء الشخصي لكل من يختلف معه، الأمر الذي حمله إلى طريق التفرد خلال الثورة. إضافة إلى ذلك، هناك صورة أُخرى يرسمها روبسبير عن نفسه باعتقاده بأنه لم ولن يُخطئ إطلاقاً، يرى نفسه كمصدر للقانون، حاله حال كل الطغاة في التاريخ القديم والحديث

"الحرب، هي دائماً الرغبة الأولى لحكومة قوية تريد أن تصبح أقوى" هذا ما قاله روبسبير عند نهاية عام 1791 محاولاً إقناع مريديه السياسيين من أن الحرب التي كانوا يعتزمون خوضها لأجل نشر أفكارهم سوف تأتي بنتائج معكوسة وستكون لعبة بيد الملوك الأوروبيين. "إنها حرب أعداء الثورة الفرنسية ضد الثورة الفرنسية"

كان التأثير الطويل لمساعي النظام الجديد العسكري هو توريط البلاد في مشاكل مميتة استمرت سنوات طويلة، أثناء ذلك. كان نابليون قد أخذ زمام الأمور في فرنسا كجنرال ثم إمبراطور وترك وراءه بعيداً مُثل وأهداف الثورة.

حياة روبسبير تفرض على كاتب سيرته تحدياً غير اعتيادي، والتزاماً بمقياس دقيق عند تقييمه والحكم عليه لأن روبسبير قد أصاب في عدة مواضيع واجهها في البداية، وأخطأ أخطاء جسيمة، حينما تسلم السلطة وارتكب من كبائر الأمور ما يتعذر تبريرها أو الدفاع عنها. لكن المؤلفة روث سكور في ببليوغرافيتها هذه "نقاء خالص: روبسبير والثورة الفرنسية" قبلت هذا التحدي وهذا الالتزام وقدمت ببليوغرافيتها، بشكل خاص، إلى كل أُولئك الذين يعنيهم موضوع إرهاب الدولة وكيف تطور ونما من ما يبدو أصولاً مثالية. ولد روبسبير عام 1758 في آراس وترعرع فيها لأم ماتت وعمره ست سنوات وأب عاطل عن العمل ومبذر. لهذا اتسمت حياته بمسحة حزينة، متزمتة وغيورة. "رجلٌ، لم يمر بمرحلة الشباب"، كما كتبت شقيقته ذات مرة عنه. إلا إنه كان ذكياً، وأُختير من بين جميع نظرائه الطلبة ليلقي خطاب تتويج لويس السادس عشر عام 1775. في عام 1789 أصبح روبسبير محامياً، وممثلاً للطبقة الثالثة في قصر فرساي ووجهه الشاحب وعروقه ذات اللون الأخضر التي لم تترك انطباعاً حسناً لدى مضيّفته مدام دي ستو.

عند سقوط سجن الباستيل في يوليو (تموز) برر روبسبير الإعدامات التي جرت في أعقاب الثورة من قبل " الغوغاء " من دون محاكمات قانونية، وكمتطرّف وصفها "بالقضاء الشعبي". وفي الوقت نفسه، أخذ روبسبير يدعو إلى توفير حرية تامة للصحافة على النموذج الأميركي، وحرية دينية أكثر مما تم النقاش حوله في الإعلان الجديد للحقوق. ومع أنه لم يكن جمهورياً بشكل علني، عارض روبسبير بشدة قرار الجمعية القاضي باقتصار حق الانتخاب على ما كان يسمى "المواطنون النشيطون" من دافعي الضرائب. أراد روبسبير بهذا مساعدة ما يقرب من تسعة وثلاثين بالمائة من السكان الذكور، ممن حرموا حق الانتخاب. ثم استمرّ في محاججاته حول حقوق مجاميع أُخرى مثل الفنانين والهنود الغربيين الذين كانوا يعيشون تحت الحكم الكولنيالي الفرنسي. أما زواج القساوسة فقد كان موضوعاً "ليبرالياً" آخر يسجل لصالحه. وعارض بشدة وبلهجة حادة عقوبة الإعدام قائلاً عنها: "إن عملية سلخ المنتصر لرؤوس أسراه هو عمل يتصف بالبربرية. إن من يذبح طفلاً ضالاً يمكن إصلاحه ومعاقبته فهو أمرؤ وحشي".

تستعرض المؤلفة روث سكور حياة روبسبير ابتداءً من اعتباره شخصية مفكّرة راديكالية، تستقبله كل الصالونات الحديثة بوجهه الصارم، حتى تحوله إلى قاتل بدم بارد، تسبب في قتل أغلب رفاقه المقربين. روبسبير، هذا المنادي بإلغاء عقوبة الإعدام، تراه الآن يناقش بحماس لصالح تنفيذ حكم الإعدام بحق لويس السادس عشر: "يجب على لويس أن يموت، لأن الأُمّة يجب أن تعيش". وتشير المؤلفة أيضا إلى بعض المفاتيح التي تفصح عن شخصية روبسبير فتقول بأنها "مزيج غريب من الريبة السياسية الحادة والعداء الشخصي لكل من يختلف معه، الأمر الذي حمله إلى طريق التفرد خلال الثورة". إضافة إلى ذلك، هناك صورة أُخرى يرسمها روبسبير عن نفسه إذ يقول بأنه لم ولن يُخطئ إطلاقاً. وهكذا بدأ روبسبير يرى نفسه كمصدر للقانون.

في السابع من سبتمبر (أيلول) 1794 صدر قانون "التشكيك" المرعب، فيما المقصلة آخذة بقطع رقاب الناس. كان هذا القانون ينص على أن الأشخاص يمكن أن يتعرضوا الآن إلى الاعتقال والمعاقبة بالموت بسبب إما "تصرفاتهم، علاقاتهم، كلماتهم، كتاباتهم أو ممن يطرحون أنفسهم على أنهم مناصرون للطغيان". خلال تسعة أشهر من الإرهاب حُكم رسمياً على (16) ألف شخص بالموت، من ضمنهم الجيرونديون (وهم المنتمون إلى الحزب الجمهوري المعتدل، أحد أكبر الأحزاب السياسية خلال الثورة الفرنسية)، وكذلك جاك بريسو، عدو روبسبير اللدود، الذي اتهم عام 1791 روبسبير بإثارة الحروب.

وتدور الدائرة، وها هو الآن روبسبير يحكم عليه بالإعدام من خلال إدانة لجنة المحلفين له، وليس من خلال الأدلة. غير أن المفارقة النادرة هي أن نفس هيئة المحلفين هذه قد حكمت في الأخير على روبسبير بالموت. ظلّ روبسبير يؤكد حتى النهاية "ما من بريء واحد" مات خلال فترة الإرهاب. في إحدى الفقرات المؤثرة التي تتعلق بموت روبسبير، تصف المؤلفة صرخته حينما هوت سكين المقصلة على رقبته. كانت لحظة حاسمة، حينما غادرته أخيراً نظرته المرائية عن الجمهورية الديمقراطية المؤسسة على النقاء والفضيلة. في نهاية كتابها تتوصل المؤلفة إلى خلاصة، مفادها أن روبسبير كان يمكن إدانته بـ "الخبل أو عدم الإنسانية"، ولكن ليس بعدم الإخلاص، وتذكّر بأن كل تلك الدماء التي تسّبب في سفكها هذا الرجل "المخلص" هي بالتأكيد إنذار لكل أُولئك الذين يعتقدون بأنهم "دائماً على حق"، وهو ما يمكن أن يكون أمراً خطيراً مثل خطر الطاغية الذي يسكنه باعث الشك والريبة.