ملحم بركات.. الفنان المثير والثائر

ابن كفر شيما.. دمعته سخية وقلبه أبيض والمرأة في نظره أخطر من القنبلة النووية

TT

يلقبونه بالفنان المثير والثائر معاً. انه ملحم بركات الذي يثيرك حديثه ليبقى الثائر ابداً على الفنانين ونجوم الطرب والسياسة... وعلى الحياة.

طفولته كما يصفها كانت حزينة، خصوصاً انه عاش في كنف عائلة فقيرة وبسيطة. والده انطون بركات الذي لا يزال على قيد الحياة، يجيد العزف على العود، وغالبا ما كان يجلس على كرسيه الخشبي الصغير ويرتشف القهوة مقابل منزل جاره الفنان الراحل حليم الرومي في بلدته كفرشيما. كذلك كان ينافسه على الغناء... في هذه الاجواء نشأ ملحم بركات الذي ابصر النور في الخامس من ابريل (نيسان) من عام 1942. وترعرع بركات في منزل يعبق بالفن من قريب ومن بعيد، لأنه كان محاطاً بظلال اهم الملحنين في لبنان الذين كانوا يسكنون في الجوار منهم الراحل الكبير فيلمون وهبي. لطالما كان الفتى الذي لم يكن تجاوز الثامنة من عمره ان يسرق آلة العود الخاصة بوالده ويحاول ان يقلده، فيعزف من دون ان يعرف النوتة الموسيقية ويدندن اغاني سمعها منه لعمر الزعني ومحمد عبد الوهاب. وملحم الصبي الشقي والموهوب كان وحيداً بين شقيقتين هما: ليلى المستقرة حالياً في استراليا ونوال التي رحلت منذ فترة. وهو لم يتمن يوماً ان يكون لديه شقيق. يقول: «اعتقد انه كان ليزعجني فأنا تعودت على الوحدة والامر لا يضايقني».

اما والدته الموصوفة بنظافتها المتناهية، فقد تعلم منها عزة النفس اذ كانت تختبر ضعف اولادها فتمد الحلويات والفواكه على المائدة طالبة منهم ان لا يلمسوها وتراقبهم من بعيد حتى تتعرف الى اضعفهم واكثرهم حباً لبطنه.

أغنية «الله كريم» التي كتبها له الراحل توفيق بركات ولحنها له جاره الراحل ايضاً فيلمون وهبي رسمت اولى بدايات ملحم الفنية، الا انه لم يقتنع بأغنية واحدة وعندما طالبهما بأغنية ثانية رفضا الامتثال لرغبته، فلجأ الى مارون نصر وقدم له اغنية «يا أسمر» بعد ان دفع له مبلغ 32 ليرة لبنانية مقابل الحصول عليها. يومها طلب المبلغ من والده فوافقه رغم انه لم يكن يشجعه على الغناء.

ومن ذكرياته التي لا ينساها معايشته للراحل فيلمون وهبي، ابن بلدته كفرشيما، فهو رافقه كسائق خاص لاربع سنوات متتالية، فتعلم منه تبسيط الامور. اما النصيحة التي كان يرددها على مسمعه فكانت: «لا يتفلسف في التلحين».

اما علاقته بالراحل حليم الرومي، والد المطربة ماجدة الرومي، فكانت اقل عمقاً من تلك التي ربطته بفيلمون وهبي. والمرة الاولى التي سمعه يغني فيها كانت بالصدفة عندما طلب احد اقرباء الرومي من ملحم ان يغني للحضور في مسرحية «جنفياف» بين الاستراحة والاخرى، فأدى اغاني لمحمد عبد الوهاب مثل «يا بابور»، «احب عيشة الحرية». آنذاك أعجب الرومي بصوته.

لا يحب ملحم بركات ان يستذكر طفولته كثيراً. تلك الايام تشعره بالحنين والحزن معاً. لا ينسى مثلاً رائحة الليمون التي كانت تفوح في كفرشيما في الربيع، كذلك صوت الفوتوغراف الذي كان مختار البلدة متمسكاً به كأنه جوهرة نادرة تنطلق منها اصوات العمالقة فيجلس ملحم مستمعاً شغوفاً بها.. ورغم كل حنينه الى طفولته يقلقه المرض وعذابه. شهد مشواره الفني نجاحات عدة. تعاون مع الرحابنة وروميو لحود وشارك في اكثر من مسرحية مع صباح، منها «الفنون جنون» و«حلوي كتير». كما وقف امام فيروز في مسرحية «فخر الدين» ومع سلوى القطريب في مسرحية «زمرد». عرفَ ملحم في ما بعد بألحانه الشجية، التي لم تمر مرور الكرام على الاجندة الفنية اللبنانية، حتى عندما اطل في برنامج «ساعة وغنية» مع الاخوين رحباني نجح في ترك الاثر الاكبر لدى المشاهدين وشارك يومها جورجيت صايغ في اغنية ثنائية بعنوان «بلغي كل مواعيدي» فلاقت نجاحاً كبيراً واسرت قلوب الصغار والكبار معاً.

احتل الوطن مساحة لا يستهان بها من مسيرة ملحم بركات الفنية، فهو يعتبر لبنان حبه الاول والاخير. غنى له «موعدنا ارضك يا بلدنا» التي تحولت الى نشيد يتلى في المناسبات الرسمية والمهرجانات. كذلك غنى «بلادي ومين ما بيعرف جمالها» و«يا صمتي يا معذبني» كما خص الرئيس اميل لحود بمناسبة توليه الرئاسة اغنية بعنوان «من فرح الناس جايي». اما احدث اعماله الوطنية فهي «رح تبقى الوطن» التي تشارك في غنائها مع شمس الاغنية اللبنانية نجوى كرم وكانت بمثابة المقدمة التي تبعتها اعمال متتالية، واحدثها اغنية «بالسنة اشوفك يوم» والتي بسببها امتنع عن الغناء على مسرح فندق الحبتور في عيد الفطر الماضي. فهو رغب في غنائها لمناسبة العيد، بينما ارادت شركة «روتانا»، ان تحيطها بهالة اكبر فترفقها بحملة اعلانية وترويجية كبرى، ما ولد سوء التفاهم بين الطرفين ووقعت نجوى كرم ضحية هذا التباين في الآراء وألغيت الحفلة، لان ملحم بركات تمسك بغنائها لأول مرة على المسرح.

ومن النجاحات التي عرفها اخيراً اغنية قدمها لماجدة الرومي بعنوان «اعتزلت الغرام» واخرى لكارول صقر بعنوان «يا حبيبي تصبّح فيي»، الا ان معظم اغانيه بقيت عالقة في ذاكرة اللبنانيين حتى اليوم. بينها «على بابي واقف قمرين»، «العذاب يا حبي»، «احلى ظهور»، «حمامة بيضا» وغيرها. ويشير ملحم بركات في غالبية احاديثه الصحافية والمتلفزة الى ان لكل لحن اغنية قصة. وهو يحب التلحين في الصباح الباكر او عندما يكون خلف مقود السيارة او على متن الطائرة. من الاغاني التي استوحاها من تلك الظروف «ابوك مين يا صبية لوليد توفيق»، «يا حلوة شعرك داريه» لغسان صليبا، و«حمامة بيضا» التي غناها بنفسه.

هو يتأثر برحيل الاحباب. عندما غابت والدته عن الدنيا غنى لها «يا كبيرة هيك البيت» اما عندما رحل ابن شقيقته الشاب عن عمر يناهز الثمانية عشر عاماً فغنى له «عهد الله يا محبوب».

يعتبر الشاعر نزار فرنسيس توأم روحه، فهو كتب له معظم كلمات اغانيه. واذا ما تطلب الامر تعديل بعض هذه الكلمات فهو لا يتوانى عن القيام بذلك بكل طيبة خاطر من اجل عيني ملحم، كما حصل مثلاً في اغنية «جيت بوقتك» عندما قرر ملحم ان تحل كلمة «فرفح» مكان كلمة «فرَّح»، وكان له ما اراد، خصوصاً ان هذه الكلمة تذكره بابنه ملحم جونيور فهو كان يقول له دائماً: «بابا عندما اشاهدك على شاشة التلفزيون «بفرفح قلبي».

عاش ملحم قصة حب عاصفة مع الفنانة مي الحريري، وذلك قبل ان تبدأ رحلتها الغنائية فتزوجها لتسع سنوات بعد ان انفصل عن زوجته الاولى رندة والتي انجبت له مجد وغنوة. اما ثمرة حبه من مي فكانت ملحم جونيور الذي يتقاسم سكنه اليوم ما بين منزل والدته في جونيه ومنزل والده في بلدة ريفون الكسروانية.

المعروف عن ملحم بركات ولعه الشديد بهواية الصيد. كان يؤلف مع الملحنين ايلي شويري والراحل فيلمون وهبي ثلاثياً معروفاً في هذا المضمار فلا يفترقون في مواسم صيد طيور«المطوق» و«الترغل» و«السمن».

وكان يحلو للثلاثة ان ينتقدوا بعضهم بعضا ويروون الطرائف والنكات الخاصة بالصيادين اثناء قيامهم بهذه الهواية.

ويروي المقربون من ملحم بركات تلذذه في تناول الاطباق اللبنانية العريقة كالكبة على انواعها والمجدرة والتبولة الا ان طبق الفول المتبل بالحامض والثوم يبقى الافضل بالنسبة له خصوصاً عندما يشكل ختام المسك لرحلة صيد ناجحة.

ولم ينس مشاهدو تلفزيون «ال بي سي» وبالتحديد برنامج «اكتشفنا البارود» لمقدمه انطوان بارود شعورهم بالشهية الكبيرة التي اصيبوا بها عندما تابعوا حلقة الموسيقار اللبناني وهو يتناول طبق الفول المدمس على طريقة مطعم «دنون» الطرابلسي في شمال لبنان والذي يقصده ملحم بركات عندما يرغب في تناول هذا الطبق.

وكان معد البرنامج قد حرص على استقدام هذا الطبق خصيصاً من طرابلس لمعرفته سلفاً بنقطة ضعف ضيفه. الامر الذي ترجم تهافتاً منقطع النظيرعلى سائر المطاعم التي تقدم هذا الطبق.

يرفض ملحم بركات ان ينعت بالغرور ويؤكد ان قلبه ابيض ودمعته سخية وحنون لأقصى درجات الحنان ويعتبر المرأة اخطر من القنبلة النووية وان متعته الاولى والاخيرة تكمن في التلحين فقط. ويصف الوسط الفني بالمتعب. اما امنيته فهي ان يستطيع اكمال ما بدأه لمقطوعة موسيقية من تأليفه يحلم بأن ترافقه من منزله الى مثواه الاخير ومدتها نصف ساعة، وهو الوقت الذي تستغرقه المسافة بين المكانين.

ويصف عمله مع روميو لحود مشبعاً بالحرية بينما عمله مع الرحابنة أكسبه الخبرة في الحياة وشجعه لأن يصبح فناناً.

ولا يتوانى ملحم بركات عن توجيه النقد الى الفنان غير الملتزم فهو حامل راية الاغنية اللبنانية اينما ذهب وعتبه كبير على المطربين الذين نسوا انهم من لبنان واعتقدوا ان مصر هي بلدهم الاول والاخير حسب قوله.

اما عن امنية التلحين لمطرب ما فهو في انتظار تعاون مع جورج وسوف وآخر مع زياد الرحباني ضمن مسرحية يعتقد انها قد تعرض لسنوات متتالية اذا ما كتب لها ان تبصر النور.