خالد عبد الرحمن.. شجن الأغنية النجدية

أحيا الأغنية الشعبية.. وعبر الخليج بالعرضة والسامري

TT

قد تعلو جبينه الهادئ سحابة حزن وعناء، وتلمع في محاجر عينيه وملامح وجهه قطراتُ من ألم ساعة الغناء، ولكنّه ذو صوت دافئ يرسل أصنافا من شجن يستنطق به كلّ لوعة واشتياق، فتجيش لصوته مشاعر الحبّ وحرقة الفراق، بكلمات كـ«الليل» تداعب الأرواح وتختلج القلوب وتستحث العين فترسلها إلى مشاهد تختبئ خلف ذلك الوجه القمحي المهاب، الذي لم يكن يعرف يوما بأن صوته الرخيم سيكون البلسم الذي يشفي جراح الأغنية الشعبية التي كانت تولد ولا تلبث زمنا حتى تموت، فهي لا تتجاوز جدران الحارات القديمة.

ولعله كان محقا عندما كان يقرض الشعر باسم مستعار «مخاوي الليل»، حتى أن الجميع كان يتساءل عن من يختبئ خلف هذا الإسم، وظل يكتب مختبئا خلفه حتى بعد أن بدأ مشواره الغنائي رسميا باسمه الحقيقي «خالد عبد الرحمن»، فانطلق في أواخر الثمانينات الميلادية – بعد أن تسلل صوته إلى المدينة من عمق البراري المجاورة لمدينته الرياض، حيث الأغنيات التي كان يُطرِبُ بها أصدقائه هناك، فغنى كلماته باللهجة النجدية التي لم تكن على قائمة الغناء في الخليج العربي آنذاك، فطرح تلك الكلمات بإبداعات موسيقية وغنائية ارتبطت غالبا في أذهان الجماهير بلحظات الوداع والوجد والسهر، واللوعة والحزن بصوته الذي يطلق زفرات من أسى، تتسلل منها رنّة شوق حالمة يتلاشى معها الإحساس بالألم.

«آهات من طول العنا طاولتني.. ونفسي من الفرقا وحالي سخيفة».. هكذا يبدو خالد، رجلٌ ينسحب الحزن من أعماق حنجرته حين يغني، ومن أوتاره حين يعزف، حتى أنّه عُرِفَ باللّون الحزين رغمَ براعته في أداء ألوان أخرى مختلفة، لكنّ (الحزن) يأبى إلا أن يلازم صوته، كيف لا.. والحزن ينطق من داخله منذ أن فقد والده وهو في الرابعة عشرة من عمره، ليقع على عاتقه مسؤولية أسرة بأكملها تضم سبعة من إخوانه هو أكبرهم.

لماذا خالد عبد الرحمن دون غيره؟ قد يكون الجدل هو سيد الموقف عند تناول الأسباب والعوامل التي أجيب بها عن هذا السؤال، فبعض الكتاب والنقاد أرجعوا سبب نجاحه إلى الفترة التي ظهر بها والتي كانت بحاجة إلى نتاج فني كالذي يقدمه، وفئة ذهبت إلى أن إقدامه على طرح الألوان النجدية الفنية التي لم تكن معروفة على الساحة كـ«العرضة والسامري» هي السبب في تفوقه، فيما يرى البعض بأن عوامل مجتمعة أدت إلى نجاحه أحدها (الكاريزما) التي ظهر بها خالد وحافظ عليها طيلة مسيرته الفنية.

يقول عنه الناقد والكاتب الفني عبد الرحمن الناصر، كان يشكل باللون الغنائي الذي بدأ به واستمر عليه امتدادا ولكن بشكل متطور، لبعض من سبقوه بأداء الأغنية المحلية ذات الطابع البسيط، لافتا إلى أن الفترة التي ظهر بها خالد كانت تشهد خفوت نجم عدد من الفنانين لأسباب كثيرة. ليعود الناصر إلى القول «كان الشارع السعودي متعطشا إلى الكلمة الغنائية المحلية الصادقة، البعيدة عن الخيال، بلحن يلامس شعورهم.. وفي ذلك نجح خالد».

مرّ خالد عبد الرحمن خلال مسيرته الغنائية بمحطات كثيرة، وشهد رحلة فنية ذات شجون، بدأت بمحاولات غنائية غير علنية لم تعد عن كونها متعة وهواية، قبل أن يتسلل صوته إلى أجهزة التسجيل في محلات بيع التسجيلات الفنية في الرياض، لتنتشر من هنا إلى بقية المناطق، عبر أغنيات كان يستمتع بها هو وأصدقائه أثناء الرحلات البرية (هوايته الغالية على قلبه) والتي قال عنها في إحدى أغنياته التي كتبها الشاعر ناصر القحطاني: «البرّ يشرح كل صدر ويقلب الضيقة سرور.. وأنا إلى جيته يمرّ الوقت ما حسب له حساب ياما حلى طوي الخبوت وسجة الخاطر شهور.. ولامعك غير النشامى اللي يعزّون الجناب».

ولعل ما وصل من معلومات تشير إلى أن خالد عبد الرحمن كان يعيش حيرة من أمره فيما يتعلق بالتخلي عن الغناء كهواية، والبدء به كعمل معلن، سبقه رفضٌ بالظهور لم يدم طويلاَ، ولم يجد أصدقاؤه سوى ممارسة الضغوط عليه لاتخاذ قرار بتسجيل اسمه في الساحة الغنائية بشكل رسمي تمهيدا للبدء في بحث كيفية إصدار شريط، لا سيما وأنه يكتب الشعر وبدأ كشاعر قبل أن يبدأ كفنان، إلى جانب أنه يجيد العزف على آلة العود قبل غنائه بفترة طويلة، ويستسلم خالد في النهاية أمام هذه الضغوط ويحمل هم كيفية البدء بعد أن اقتنع لاحقا أن معارضته لأصدقائه في احتراف الغناء غير مبررة.

وبعد أشهر معدودات، وعقب موافقة خالد واتخاذه قرار الغناء بشكل رسمي وعن قناعة تامة،عاد بدوره إلى إعداد بعض النصوص الشعرية تمهيدا لاختيار ذكي يناسب البدء من الصفر، فوقع الاختيار على عدد من النصوص الشعرية وقام بتلحينها جميعا، ليقوم بعد ذلك بحزم حقائبة ويتوجه إلى القاهرة رغبة منه في تنفيذ الأعمال هناك وكان ذلك خلال عام 1987، إذ التقى الفرقة الماسية التي قامت بتنفيذ أعماله رغم المعوق الذي واجهه آنذاك في تكاليف التسجيل وملحقاته، ثم توجه إلى الكويت ليقوم هناك بتركيب الإيقاعات وإخضاع الأعمال للمكسجة النهائية، عاد بعدها إلى الرياض حاملا عمله الأول ليقوم بتسليمه إلى إحدى شركات التوزيع الكبرى.

ولم يمضِ وقت طويل حتى جاء صوته بشجن وهو يغنّي «صارحيني.. منهو أنا بدنيتك.. صارحيني.. إن كنت فعلا منيتك» وهي الأغنية التي يسمع ترديدها حتى الآن وتذيعها راديوهات الإذاعات العربية والخليجية، كتبها الشاعر رياض إبراهيم وحملت اسم عمله الأول الذي ضم أربع أغنيات أخرى كتب ثلاثا منها هي «بلا ميعاد»، و«خذ ما تبي»، و«صدّقيني»، و«لأجل حبك»، فحقق العمل انتشارا واسعا وشهد الطلب عليه إقبالا منقطع النظير وأحس خالد بأن شيئا جميلا في انتظاره.

تجدر الإشارة إلى أن الغناء في المنطقة الوسطى بكل أدواته وإمكاناته التي لم تكن ذات وجه مقارنة مع الأدوات القوية والإمكانات المتاحة التي كان يتمتع بها الغناء في الحجاز، تأخر كثيرا عن الفن العربي عموما والفن الخليجي على وجه الخصوص، وهو ما يعطي تبريرا لعطش الناس إلى سماع الأغنية النجدية بلحنها الخاص، كما ان فترة الثمانينات التي شهدت دخول صوت خالد عبد الرحمن إلى الساحة كانت فترة قابلة لاحتواء أي عمل يقدم بذائقة نوعية وفريدة.

ويبدو أن خالد عبد الرحمن استحسن فكرة الكتابة لذاته بل حتى التلحين، بدلالة أنه لم يمض سوى فترة يسيرة حتى طرح عمله الثاني بنصوص غنائية كتبها ولحنها جميعا ما عدا أغنية واحدة كتبها الشاعر خالد المجاهد، فجاء إنتاجه الثاني «بقايا جروح» الذي ضم خمس أغنيات أخرى هي «تروعني»، و«ضويتي»، و«طرف جفن عيني»، و«لا لاتناجي»، و«يا لايمتني».

ويسجل في تاريخ خالد عبد الرحمن اهتمامه بالنصوص الشعرية التي تكتبها المرأة في بلاده، بل والمراهنة على نجاحها، حيث طرح إنتاجه الثالث الذي احتوى على 6 أغنيات متنوعة في أفكارها وتراكيب ألحانها، غير أن أغنية واحدة منها قفزت بالطلب على العمل بشكل مذهل، وتجاوزت حدود السعودية لتضرب بأوتارها عموم الخليج العربي، فيما كانت تسمع هنا في كل مكان ومن خلف زجاج السيارات الواقفة عند إشارات المرور، واللافت في الأمر أن هذه الأغنية كتبتها شاعرة في وقت كان وجود المرأة كاتبة على ساحة الغناء أمر غير متعارف عليه، فكان الكثير يبحث ويتقصى عن الاسم الحقيقي للشاعرة التي كتبت تلك اللوحة الشعرية الجميلة باسم مستعار هو «الأمل المجروح»، فلم تكن الأذن تكتفي بسماع تلك الأغنية التي كانت «قصة»، وكان البحث عن من كتبت «تقوى الهجر.. لا لا تعنى لي وتمر.. وتبغى الصبر.. وين الصبر».

خالد عبد الرحمن ، الذي ولد في العام 1966، ولم يتزوج حتى الآن، رغم وجود شائعات يتداولها الناس من حين لآخر عن زواجه، أعطى لنص المرأة الشعري الشيء الكثير، حيث طرح «أعاني» وهو عمل كامل، كتبته شاعرات من السعودية، وهن «همس»، و«غيوض»، و«أثيل»، و«بنت العطا»، و«الشمس»، سبقه طرح عمل كامل جميع أغنياته كتبتها الشاعرة «غيوض» وهو ألبوم «لو بكيت» وكان يضم 3 أغنيات أخرى هي «حروف الحب»، «وين أنت»، و«ياحبنيلك».

أبو نايف، كما يحب جمهوره أن يناديه، يحفل برصيد فني كبير يفوق 150 عملا، ما بين أغنيات شعبية وفلكلورية، وقصائد وأغنيات طويلة، وأغان باللغة العربية الفصحى، كما أدى أغنيات إماراتية، وقام بأعمال وطنية واجتماعية منها «مسلم عربي سعودي رافع الراية.. عسى عزّه يدوم» وأغنية «رسالة إلى معاق»، وطرح رسميا نحو 27 ألبوما غنائيا، وأقام 23 حفلا فنيا، منها حفل موسيقي في العاصمة البريطانية لندن عام 1995 أوصل من خلاله لونه الغنائي.

وما زال عددٌ ممكن شهدوا بدايات خالد يتذكرون كونه صاحب الأغنية الواحدة التي باعت مليون نسخة من عمل طرحه بأغنية واحدة لا تزالتردد حتى اليوم، وهي أغنية «آهات» التي كتبها الأمير عبد العزيز بن سعود «السامر».

غنّى خالد عبد الرحمن قصائد للكثير من عمالقة الشعر، منهم الأمير خالد الفيصل في قصيدته الشهيرة «سمرت بصحبة حروف القوافي»، كما غنّى للأمير عبد الله الفيصل قصيدته «قرب الرحيل وخاطري منك ما طاب»، إضافة إلى غنائه لقصائد للأمير بدر بن عبد المحسن، محمد بن راشد آل مكتوم، محمد العثيم، طلال الرشيد، الأمير محمد بن عبد العزيز بن محمد، ناصر القحطاني، الأمير خالد بن سعود الكبير وسعد الخريجي.

وخالد عبد الرحمن الذي سجّل نجاحا على الصعيد الشعري بديوانه «العطا»، لحن للكثيرون ولحن له الكثيرين، ومنهم الدكتور عبد الرب إدريس، خالد الجمعان، محمد شفيق، صالح الشهري، علي كانو، وأنور عبد الله، وغيرهم.