كما أن لكل إنسان قصة في هذه الحياة، فإن لكل مشروع في شركة ارامكو السعودية قصة، ومشروع التابلاين يستحق أن يكون رواية، بطلها إنسان استطاع أن يتجاوز الظروف الصعبة في زمن أصعب كان مزحوما بتشابكات الحصار الجغرافي والسياسي والأمني والإمكانيات البسيطة في أربعينات القرن الماضي.
كان مشروع خط التابلاين تحديا في عالم صناعة النفط، فهو الأكبر من نوعه، إذ امتد بين ساحل الخليج العربي إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، بطول بلغ 1664 كيلو مترا، واستغرق انجاز المشروع أقل من ثلاث سنوات فقط، ليكون معبرا لنقل النفط من السعودية إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
فتحت لهيب حرارة شمس صحراء الدهناء والنفود، ومع وعورة تضاريس الصحراء وانعدام الطرق المعبدة والمرافق، في تلك الفترة، عمل جنود مجهولون بكل جد لتنفيذ مشروع المستحيل بإمكاناتهم المتواضعة، رابطين النهار بالليل حتى وصلوا إلى ميناء صيدا في لبنان. فقد واجه مشروع نقل الأنابيب الحديدية كل تلك المسافة الطويلة والوعرة، شح في إمدادات الحديد بسبب الإقبال المتزايد عالميا على التصنيع الحربي المتزامن مع الحرب العالمية الثانية والتي انتهت في أربعينات القرن الماضي.
بدأت القصة بأمر ملكي من الملك عبد العزيز، وقع على اثره عبد الله السليمان وزير المالية الأسبق، في 22 شعبان من سنة 1366 الهجرية، اتفاقية امتياز مع شركة الأنابيب التي يمثلها وليم ج لنهان، وبشراكة مع اسو Esso ، شيفرون Chevron تكساكو Texaco وموبيل Mobil. لإنشاء خط أو خطوط من الأنابيب لنقل النفط ومنتجاته في السعودية إلى المرفأ النهائي على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وكان مخططاً أن تكون المحطة النهائية على البحر الأبيض المتوسط هي ميناء حيفا في فلسطين، إلا أن قيام دولة إسرائيل عام 1948، عطل تنفيذ المشروع وعندئذ أمر الملك عبد العزيز، إما إلغاء الخط كاملاً، أو إيجاد مسار بديل، فتم تحويل مساره إلى ميناء صيدا في لبنان عبر الأردن وسوريا.
وسمي خط التابلاين اختصارا للكلمة الانجليزية، تابلاين هي الكلمة المعربة من الكلمة الانجليزية TAPLINE اختصار من Trans-Arabian Pipeline Company واسمها الرسمي باللغة العربية هو خط الأنابيب عبر البلاد العربية (تابلاين). واستعمل لإكمال هذا المشروع 35 ألف طن من الأنابيب و3000 قطعة من الآليات ومعدات البناء، وشارك في تنفيذ إنشاء المشروع 16 ألف عامل، بتكلفة قدرها 150 مليون دولار. وتم الانتهاء من إنشائه في عام 1950. وبعد شهرين من ذلك بدأ ضخ النفط إلى ميناء صيدا وكان سعر برميل البترول ببورصة نيويورك، في ذلك الوقت، 3 دولارات. وشيدت عليه خمس مضخات في النعيرية والقيصومة ورفحاء وعرعر المعروفة سابقا بـ (بدنة) وطريف وهي آخر محطة على الأراضي السعودية.
الصعوبات التي تعرض لها العاملون في المشروع دفعتهم إلى تحقيق انجازات غير متوقعة، فالمشكلات الهندسية فرضت حلولا مبتكرة جديدة وغير مألوفة، أنتجت بدورها في تحقيق أرقام قياسية جديدة، فعلى سبيل المثال، كان حجم أعمال نقل الأنابيب والمواد والعمال وطول الرحلات البحرية المطلوبة أكبر من أي مشروع منفرد يتم تنفيذه بسلاسة زمنية في تاريخ صناعة النفط، فقد احتاج المشروع إلى شاحنات ومقطورات عملاقة صُمِّمت وصنعت خصيصاً له، ويمكن لكل منها نقل ما يزن خمسين طناً وسط الصحراء، أي ما يوازي وزن عربة قطار شحن.
ومن أبرز الابتكارات التي شهدها هذا المشروع ابتكار «الخطاف السماوي» الفريد الذي أقيم في رأس مشعاب، وهو شبكة كابلات علوية يبلغ طولها نحو ثلاثة أميال كانت تحمل مفصلات الأنابيب من السفن إلى اليابسة. ولم تكن المشكلات الفنية هي الأصعب في المشروع، حيث المشكلات السياسية، التي تلت الحرب العالمية الثانية وزادت من تعقيدات الموقف، مما استدعى تغيير الخطط أكثر من مرة. إذ كانت الخطة في الأصل تتضمَّن الشروع في إنشاء الخط من الطرفين والالتقاء في مكان ما في المنتصف، غير أن التوترات السياسية والحروب المباشرة أخرت الشروع في إنشاء الجزء القادم من ساحل البحر المتوسط كما كان مقرراً. وعلى الرغم من ذلك؛ انطلقت أعمال الإنشاء في المملكة العربية السعودية، وسط شكوك جدية حول هذا الاستخدام للأيدي العاملة والمواد، لأن الجميع، من مسؤولي التابلاين حتى عمال اللحام في الميدان كانوا يتساءلون عما إذا كانت الأمور السياسية ستستقر بدرجة تسمح للمهندسين بإنجاز مهمتهم.
إلا أن المثابرة كانت لها اليد العليا في نهاية المطاف، ففي أوائل عام 1948 بدأت أعمال إنشاء خط أنابيب عائد لأرامكو من بقيق إلى تقاطع خطوط أنابيب القطيف، ومنها إلى القيصومة، التي كان مقرراً لها أن تكون نقطة بداية خط أنابيب التابلاين، على مسافة 315 ميلاً من الظهران.
وفي الثاني من شهر سبتمبر عام 1950، تمت آخر عملية لحام لربط القطاعين الغربي والشرقي من الخط، ليكتمل بذلك أطول خط أنابيب يتم إنشاؤه في التاريخ. وقد استغرق وقت تعبئته بعد إنجازه ما يقرب الشهرين لطول مسافة الخط.
وفي نوفمبر من عام 1950 تدفَّق الزيت، إلى الخزانات في ميناء صيدا اللبناني، تمهيداً لتعبئة الناقلات التي أصبح بإمكانها نقل الزيت إلى أوروبا في غضون أيام، مختصرة تلك الرحلة البحرية البالغة 7200 ميل من رأس تنورة على الخليج العربي إلى البحر الأبيض المتوسط.
كان المشروع مشتركاً بين الشركات المالكة لأرامكو حينذاك تحت اسم «شركة خط أنابيب الزيت الخام عبر البلاد العربية»، وأصبح معلماً بارزاً في التجارة العالمية وصناعة البترول وهندسة خطوط الأنابيب، وكانت سعته الأصلية 300 ألف برميل في اليوم، وتمت زيادتها بعد ذلك إلى 500 ألف برميل، وأشرفت شركة بكتل الأميركية العملاقة على إنشائه بعد أن بينت دراسة هندسية أجريت في عام 1944 أن إنشاء هذا الخط، رغم صعوبته، يعتبر مجدياً وممكناً.
ولاحقاً أصبح خط التابلاين ينقل ما يصل إلى 30 بالمائة من إنتاج المملكة من الزيت الخام إلى الناقلات التي حمّلته، بدورها، إلى أسواق النفط في أوروبا والساحل الشرقي للولايات المتحدة.
تم ايقاف الضخ إلى صيدا بجنوب لبنان مع الاحتلال الاسرائيلي لهضبة الجولان الذي يمر بها الخط وذلك في عام 1967.
وخط التابلاين خارج الخدمة اليوم، وحل محله خط أنابيب الزيت الخام شرق/غرب وغيره من خطوط الأنابيب، فيما تقوم الناقلات الضخمة المملوكة لشركة فيلا البحرية العالمية المحدودة التابعة لأرامكو السعودية بنقل الزيت السعودي إلى الأسواق العالمية.
ولم يكن المشروع نفطياً خالصاً بالمعنى الدقيق، بل تأسست بفضله مدن، وعلى سبيل المثال فإن مدينة القيصومة التابعة اليوم لمحافظة حفر الباطن، هي أول مدينة تنشأ عن تجمع عمالي بمحاذاة الخط.