رحالة فرنسي.. يرسم بالقلم تفاصيل رحلة نادرة إلى مكة المكرمة قبل 115 عاماً

وصف جدة بواحة من الصخور الموحشة لكن شوارعها وأسواقها مليئة بالحيوية * روعة المشهد في الحرم تثير الفرنسي.. وصوت الأذان الشجي يمنحه الدفءَ * شاهد 20 ألف مصلٍّ يتراصون في صفوف منتظمة بالمسجد الحرام قبل أكثر من قرن

مشهد عام لمكة المكرمة مأخوذ من جبل ابي قبيس («الشرق الأوسط»)
TT

اكتسبت رحلة الرحالة الاوروبي جرفيه كورتلمون الى الأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة قبل اكثر من 115 عاما أهمية خاصة رغم ان هناك رحلات كثيرة ومماثلة قام بها رحالة اوروبيون الى المدينتين المقدستين وحققوا رغباتهم في دخول حرمي مكة المكرمة والمدينة المنورة، لكن رحلة كورتلمون تميزت باختلاف نص رحلته عن معظم نصوص الرحالة الاجانب الذين كتبوا عن الجزيرة العربية. كما ان أهمية هذه الرحلة جاءت كون صاحبها فنانا تصويريا، سعى الى الارتقاء بالصور المكتوبة الى مستوى الصور التي تلتقطها الكاميرا، مركزا في الجزئيات والتفاصيل الصغيرة، مازجا الواقع بالخيال، مضيفا إلى كتابته ألوانا متعددة، ليكون نصه المكتوب اشبهَ بنسخة اخرى من الصور التي التقطها بالعدسة.

وتعد رحلة الرحالة الفرنسي كورتلمون المعروف بـ «الحاج عبد الله بن البشير» الى الاماكن المقدسة قبل اكثر من قرن من الوثائق التاريخية لمرحلة زمنية وإحدى المحطات الزمنية المهمة في تاريخ السعودية. وقدمت مؤسسة التراث بالرياض ترجمة لنص الرحلة، ملمحة الى ان كاتبه يجري سباقا بين القلم والكاميرا لنقل الحركات والسكنات، الظلال، والألوان إلا ان الفرق بين صور القلم وما التقطته الكاميرا يتجلى الآن في تحول صور الكاميرا الى اشكال هندسية فقدت القدرة على الحركة بمجرد اغلاقها، اما صورة القلم فلا تزال تنعم بالحيوية بعد ان جف المداد، فالمشهد نفسه يتكرر في الحرم يوميا بل زاد حركة وحيوية. واتسم نصه بهذا الاسلوب، ولم يقتصر على وصف الكعبة المشرفة، وانما صاحبه في كل مراحل الرحلة، فوصف السفينة، وتلاطم الامواج، والبدو، وما شاهده في مدينة جدة وينسحب ذلك على حالته النفسية بعد كل مرحلة من مراحل رحلته التي لم تخل من صعوبة. ورأى الناشر انه لو بحثنا عن الأسباب الحقيقية للرحلة لوجدناها واضحة، ولما احتجنا الى ادلة، فقد سافر من اجل جمع معلومات عن الظروف التي يعيش فيها الحجاج المغاربة القادمون من مناطق السيطرة الفرنسية، ودراسة الاثر الروحي الذي يحدثه الحج في نفوس الحجاج بعد عودتهم الى بلدانهم. بدأت رحلة كورتلمون الى الأماكن المقدسة بعد ان تعرف على رجل جزائري اسمه الحاج آكلي واصطحبه في الرحلة من الجزائر الى جدة وذلك عام 1894م عبر سفينة أبحرت لمدة عشرة ايام منها ثلاثة ايام من السويس الى جدة حيث ذكر الرحالة انه وبعد ثلاثة ايام من مغادرتنا السويس. ها نحن أولا على مرمى البصر من مدينة جدة. انتظرنا طويلا وصول احد المرشدين، إذ يصعب على السفينة «كلوكوز» ان تزحف الى مسافة اكثر نحو الساحل. واخيرا جاء المرشد فصعد الى جسر السفينة. انه رجل يرتدي بذلة طويلة، وعلى رأسه عمامة متواضعة. لون عينيه اسود داكن، كما لو انهما محترقتان يحدق في الافق دون ان يرمش ويعطي اوامره المتعلقة باجراءات الوصول باللغة الانجليزية.. رسونا على مسافة عدة اميال من البر، اكثر من المسافة المعتادة لان ربان سفينتنا شديد الاحتياط. فهو لا يريد الزيادة في عدد السفن التي غرقت على الساحل الممتلئ بحطامها. إذ نرى هنا سفينة بخارية مشطورة الى نصفين وهناك يظهر لنا على سطح الماء. شراع وبجانبه قمة مدخنة، وبموازاة ضفة البحر تنتشر علامات صخور متموجة تبرز في مستوى سطح المياه تدل على وجود ارصفة مرجانية، مما يشكل تهديدا دائما للسفن.. يتمتع الربابنة العرب في البحر الأحمر بكفاءة عالية، لكن.. «قدر الله لا يعلم به إلا هو، كما يقول لنا اصحاب القوارب التي تنقلنا الى البر، وهم مخربون حقيقيون للسفن، يتكلمون وهم يفغرون افواههم بالضحك حتى تنكشف اطراف اسنانهم الحادة.

هكذا ترى يا أخي هذه السفينة الفارقة هنا. فقد كانت سفينة بخارية جميلة قدمت من موغادور (الصويرة حاليا) من طنجة. كانت محملة بالحجاج المغاربة: إلا ان الربان الانجليزي. لعنة الله على جنسه!، كان قاسيا ولا انسانيا مع اخواننا خلال رحلة العبور كلها.. وهكذا، وبمجرد ان اصبحت الارض المقدسة على مرمى البصر. دفعه الله غصبا عنه نحو الساحل، وذلك على الرغم من كفاءته العالية. لقد نجا جميع الركاب لأن ربك عادل لكن السفينة ضاعت عن آخرها. ان الله على كل شيء قدير وكان في ذلك نعمة غير متوقعة لنا، لأننا حصلنا على مكسب جيد من انقاذ ما تبقى من حمولتها..».

هبت عاصفة كبيرة بينما كان قاربنا يتلوى بين الصخور المرجانية وهو سنبوك (زورق صغير) عتيق، ترنح احيانا بشكل خفيف مثيرا هلع الشيخين البدويين اللذين ليس لديهما خبرة في ركوب البحر: بعد ذلك كان يجب انزال الشراع والقيام بآخر تحريك للقارب بالمجداف من اجل دفع القارب الغارق الى منتصفه بين الرمال والوحل لأن الجزر كان كبيرا، ثم بدأ ازدحام النزول على الطريقة المشرقية: صياح وصراخ وتدافع بين الناس تأشيرة الجوازات والمعاناة من اجراءات الجمرك والصحة الخ. لكن الحاج اكلي يعرف جيدا كيف يخرج من هذه الدوامة وبينما كان يقوم بالاجراءات، بقيت في إحدى الزوايا اقوم بحراسة اغراضنا فأثرت انتباه افراد الشرطة الاتراك الذين اقتادوني دون أي سبب الى المركز. انها بداية سيئة، فأنا لا اعرف اللغة التركية، وعربيتي الجزائرية لا يفهمها احد، وجواز سفري عند الحاج، كل شيء اصبح يتعقد ويختلط ومن حسن الحظ ان مرافقي وصل، فشرح لهم كل شيء ثم قمت بدفع واجبات الصحة، ووضع التأشيرة على الجواز، بالإضافة الى البقشيش طبعا، وبذلك اصبحنا احرارا... إلا اننا تحت المراقبة.. الى حدود السكن الذي اخترناه عند عبد الرحمن افندي.. المترجم المعتمد لدى القنصلية الفرنسية، روقبنا عند اول خروج لنا، إذ كنا نسأل كما لو ان ذلك يتم بالمصادفة في محلات التبضع حيث نشتري بعض الحاجات.. كانت الليلة الاولى حزينة بل كئيبة، أحنى الحاج اكلي رأسه، لا يعرف الموقف الذي يجب اتخاذه ولا المشروع الذي سيقوم به، وبدا له هذا التوقيف الاول الذي تعرضت له نذير شؤم. فأمرني بقص شعري عند اقرب حلاق، وتغيير بذلتي وظل يذهب ويجيء وهو في حالة عصبية يغير مشروعه وافكاره عشرات المرات في الساعة.. وفي اليوم التالي وبعد ليلة من الهدوء والراحة هدأ روعه. فوافق على مرافقتي للقيام بجولة طويلة في مدينة جدة.

جدة.. حيوية موحشة المدينة مبنية على ساحل البحر في منبسط رملي منخفض ولا يوجد فيها أي تل او منحدر انها شاطئ محترق ومجدب مرفأها موحش ووضعها محزن. الاقامة فيها لا يمكن تحملها. ولا يمكن ان تخطر على البال، ينقض عليك لفيف من الناموس ليل نهار، والماء فاسد والحرارة مليئة بالرطوبة ومرهقة ولا يوجد فيها أي اثر للخضرة يمكن ان يبدد كآبة المنظر الحزين المحيط بها، توجد بعض الاشجار الشوكية في باب المدينة، تغطي الاكواخ الفقيرة الموجودة في قرية يسكنها السود، وهذا كل ما يوجد من النبات في هذا البلد الجاف والمقفر. اما الشوارع والبازارات فمملوءة بالحيوية، لأن المدينة مركز تجاري كبير، والبيوت محكمة البناء، جدرانها من الحجر، مزينة بأجمل أنواع المشربيات لكن لا شيء يمكنه ان يخفف من انطباع الموت والفراغ الذي يلح عليك بمجرد الوصول الى هذه المدينة التي تنتمي الى زمن آخر، انها واحة من الصخور ضائعة على هذا الساحل العقيم المفزع.. خرجنا في الصباح الباكر من باب مكة المكرمة، وبعدما قمنا بزيارة قصيرة لضريح أمنا حواء قمنا بجولة حول الأسوار: انها محاطة بسور قوي يحميها من هجمات القبائل البدوية الموجودة على مشارفها، وخاصة في وقت الانتفاضات الا ان هناك فتحات تنتشر هنا وهناك على طول السور المهترئ، وخاصة في الجنوب الشرقي حيث توجد بعض الاحجار المنثورة على الارض كأثر على المكان الذي كان يوجد فيه سور المدينة قديما. اما الحاج اكلي الذي سبق له ان عاين ممارسة عصابات اللصوص في الصحراء فيأسف بمرارة لهذا الاهمال من قبل الادارة التركية الذي يمكن ان تندم عليه يوما، لانها في رأيه هي المسؤولة عن هذا التهاون.

وبعد عدة ايام قضاها في جدة، قرر الرحالة التوجه الى مكة. وعن ذلك يقول كورتلمون لم يكن أمامنا سوى وسيلتين للنقل، ويجب ان نختار احداهما لقطع مسافة الـ87 كلم التي تفصل مكة المكرمة عن مدينة جدة، الجمال أو الحمير، كنت أرغب في امتطاء الجمل الذي أحب خطواته التي تشبه المهد ومشيته الاسترخائية، الجمل هو المطية الحقيقية في هذه الاماكن المقفرة والقاحلة، انه الجمل المثير للسخرية، والمعاند، وعلى الرغم من ان مواقفه غريبة إلا ان قلبه طيب، انه الجمل الذي لا يتوقف عن الشكوى، سواء عند تحميل الاغراض عليه أو عند انزالها، في الوقوف وفي البروك، لكنه يسير دائما دون أكل أو شراب، انه حيوان مناسب (أرسلته العناية الالهية)، خلق للصحراء لمواجهة كآبة هذه البلدان العتيقة الميتة ولعزلتها التي لا نهاية لها. كان علينا أن نقضي يومين في السفر، بينما كنا نستعجل الوصول، فالطريق غير آمنة، لانها ملأى بالبدو النهابين. ولكون حمير الحجاز مدربة على نقل المسافرين، وأصبحت لها سمعة جيدة في هذا المجال، فاننا سنتمكن من قطع المسافة بين جدة ومكة المكرمة بمرحلة واحدة، بل الاحسن من ذلك هو اننا لن نضطر الى تغيير رواحلنا ولذا قررنا استئجار الحمير.

اصبح كل شيء جاهزا للانطلاق، توضأت الوضوء الأكبر، ولبست ثوب الإحرام، وهو اللباس الوحيد الذي يرتديه الحاج، وينحصر في قطعة من الثوب غير مخيطة تلف على الخصر، ويفرض هذا اللباس الفطري بشكل صارم على كل مؤمن يتوجه أول مرة الى مكة المكرمة، كما يجب ان يلبسه ساكن مكة المكرمة الذي يتغيب عنها أكثر من تسعة وثلاثين يوما.

عاري الجذع على ظهر حمار ها أنذا على الطريق أمتطي حماري، عاري الجذع، حليق الرأس، في الساعة الثانية ظهرا، تحت وهج شمس محرقة، وأنا أعاني من الخوف من ضربة شمس، فتذكرت، وأسفاه! النصائح الكبرى التي زودني بها صديقي القديم الحاج عبد الرحمن، وهي النصائح التي لم يعد في امكاني اخذها في الحسبان، وبما انني اخبرت الحاج أكلي بكل ما يجول في خاطري من تخوفات فقد أجابني بخشونة: ألست بين يدي الله؟! فما الذي تخشاه؟.

سرنا في منبسط مرمل نحو 16 كم، ثم ارتفع الطريق بشكل غير ملحوظ، منزلقا بين جبال الحجاز الجرداء، التي تتابع خلجانها، الشبيهة بالبراكين الخامدة، كحبات سبحة طويلة.

لقد سوت حوافر القوافل، بمرورها على مر السنين، الصخور التي كانت تشكل عوائق على الطريق، فأصبحت الطريق مستوية تشبه تماما مجرى واد رملي جاف. ينزل الظلام في هذه المنطقة بشكل مفاجئ تقريبا، وفترة الغروب لا تستغرق وقتا طويلا، كما ان نور القمر الخافت لا يظهر الا نحو الساعة الثانية بعد منتصف الليل. تلمع الكواكب في سماء هذا البلد لمعانا لا نظير له، كما ان بريق النجوم الكثيرة يسطع في عنان السماء، ناشرا حولنا اضاءة خفيفة، ونورا باهتا وحزينا، لا يسمح بتمييز الاشياء الموحشة التي تحيط بنا.

كانت كتل من أنقاض مبعثرة، تبدو كأنها تغلق الطريق امامنا، واقتربنا فاذا هي تبين عن تصدع ينزل فيه الطريق، اقتحمناه، فاذا هو مرة اخرى خليج اسود، دائري وعميق وخطير.

لاح لنا من بعيد مركز تركي معلق على ربوة يحجب خياله المشؤوم رؤية الأفق، يلمع فوقه نور أحمر، باهت ينبعث من فانوس، كأنه يريد أن يقول: اننا هنا، اي ان رجالا مسلحين يوجدون هنا، وهم مستعدون لكل طارئ.

كنا نسير وقلوبنا منقبضة، نتقاطع مع القوافل دون أن نتوقف، ومع صفوف من الجمال التي تسير فوق طبقة الرمال السميكة دون أن تحدث صوتا، تسوقها أشباح سوداء لا تتبادل مع الاخرين أي تحية ولا كلمة سلام، خلافا للأعراف العربية، يمر خيالهم بمحاذاتك، ثم تبتعد بسرعة واضعا يدا تلقائيا على الزناد، دائم الاستعداد لخوض معركة او للتعامل مع أي مكيدة.

نحن الآن في قرية (حدة)، في منتصف الطريق، أنزلنا أغراضنا عن ظهور الحمير، صلينا جماعة، ثم قدم لنا الأكل المكون من بيض قلي بزبدة الضأن، تناولناه بصمت مع سواقي الحمير الذين كانوا يتوقفون كل مرة عن تناول هذه الوجبة الضعيفة للذهاب الى تقديم العلف الى حميرهم في حفنات صغيرة بأيديهم.. كما يذهبون لمراقبة حركات وجوه جيراننا في هذه الاستراحة.

هذه الوجوه تزعج سواقي حميرنا، ولعلهم وجدوا فيهم شيئا مريبا، لأنهم كانوا يحملون اغراضهم على الحمير بشكل مفاجئ وبدل ان نأخذ قسطا من الراحة بعض الساعات في قرية حدة، كما هو متفق عليه ها نحن أولا نمتطي الحمير ونسرع الخطى في الليل، وبينما كنا نجتاز كثبانا كبيرة من الرمال اذا القمر يعن في السماء، كان نوره باهتا جدا، لا يبدو منه الا الربع (هلال)، ولا يكاد يلمع أكثر من لمعان النجوم، الا انه يضيء الاشياء التي ترتسم الى جانب الاخيلة الطويلة والغريبة بشكل واضح. ومرة أخرى وجدنا أنفسنا من جديد في المنخفضات الدائرية، وهي حفر سوداء بعيدة القرار، فأخذتني سنة من النوم، وبدأت في الحلم.

إنني أعي تماما أنني أعيش في أحلك اللحظات في حياتي، ماذا سأكون غدا؟ ما المصير الذي ينتظرني؟ عند الفجر سأدخل الحرم الشريف المهيب، ترى هل سأخرج منه؟.. وقد استعرضت حياتي كلها في رؤى سريعة.. تختلط في ذهني ذكريات تافهة من طفولتي بأحلام حب أيام الشباب الأولى، ثم جاءت الأسفار، والركض الأحمق في البلدان التي جبتها، غرناطة، قصر الحمراء، طليطلة وأسوارها القديمة، وغروب الشمس في اشبيلية على برج الذهب، ومالقا.. وطنجة، ولمعان القمر في تلمسان وركض الخيالة في جنوب الجزائر، ثم دمشق، وبورصا واسطنبول والقدس والقاهرة وأثينا. ومجاري المياه الباردة في ضواحي باريس وأودية فرنسا وحدائقها ووردها، ثم الذكريات الأكثر ايلاما، انها ذكريات عائلتي، ووالدتي الغالية التي لا أشك في أنها تدعو لي كل مساء وهي تفكر فيّ، وأيضا ذكريات فرنسا: الاصدقاء الذين ودعوني بحزن كبير ظنا منهم أنني ضعت.

أسمع أصوات أجراس الحمير تدندن ليلا وهي غير آبهة بها، كجلاجل خفيفة، وقلبي يمتلئ أملا وأنا أرى طريق العودة وفرحة اعزائي وهم يرتمون في احضاني بعد هذه المعاناة القاسية، نسير ثم نسير دون توقف، على وقع الرواحل، نسير نحو الهدف الغامض، نحو المجهول.

توقفنا للاسترخاء في مكان ما أجهل اسمه، وقد كنت في حملي، ولم أفكر في السؤال عنه، ودون أن ينبس أحد ببنت شفة، تلفع رفاقي بثيابهم الصوفية، وخلدوا الى النوم على الارض التي ارتموا فوقها على شكل كتل.. كنت شبه عار، أرتعش فوق الحصير، لا أجرؤ على الكلام أو الحراك، تاركا رفيقي المنهك بالتعب يأخذ قسطا من الراحة، كما أنني لا أرغب في اثارة انتباه أحد، ارتعشت طويلا شارد الذهن تحت برد الشرق القارس في وقت الشروق، برد قارس على الأقل بالنسبة إليّ، اذ لا يقيني منه أي شيء، وأخيرا استيقظنا من النوم وبعد اداء الصلاة، امتطينا الدواب.

طيور آمنة دخلنا حدود الأرض المقدسة فجرا، ويوجد عمودان من الاسمنت اشارة الى حدود الحرم يشبهان باب مزرعة، يبتعد بعضهما عن بعض أمتارا قليلة، وهي ـ كما قيل لي ـ نقطة بداية تحريم الصيد، اذ بمجرد ان يتجاوز المرء هذه النقطة يحرم عليه قتل أي حيوان بري أو طائر، وفعلا، فقد شاهدنا مع بداية النهار أسرابا كثيرة من الحجل، وأماكن كثيرة يقيم فيها طائر خطاف الصحراء، وهي تركض أمامنا، دون أن تكلف نفسها عناء الهروب، كما هي عادتها عند مرور البشر أمامها، لأنهم، اصبحوا لا يمثلون في نظرها أي خطر، ثم جاء دور اسراب الحمام البري التي تحوم حولنا مكونة سحبا حقيقية، كانت تنتقل من حولنا بأعداد كبيرة، وتتوقف تقريبا تحت أرجل رواحلنا بألفة شديدة، كما كانت توجد بعض فراخ الترغلة المتخلفة على الطريق وكأنها تنتظر من يدوسها، فانتفضت رعبا، خشية ارتكاب جريمة قتل من هذا النوع عن غير عمد. ان افراخ الحمام تحظى باحترام كبير من قبل سكان مكة المكرمة، وقتل أحد هذه الطيور المتجمعة داخل الحرم الشريف محرم، ويتوافر الكثير من الذرة والسمسم لاطعامها. تجاوزنا أحد منعطفات الطريق، فوجنا أنفسنا في المدينة المقدسة، لا شيء كان يدل على اقترابنا منها، فهي تختفي بين جبلين يقتربان بعضهما من بعض، ولا نعلم بدخول المدينة الا بعد دخول شوارعها الاولى، لا توجد نظرة شاملة تمكننا من مشاهدتها كاملة، فالشوارع تتابع، وكلها متشابهة تستمر هكذا الى الحرم الشريف الذي يمكن القول إنه يتوارى في مكان ما أسفل المدينة، تختفي عن النظر بشكل غامض، كما تختفي البيضة في قاع العش.

دخلنا فناء الحرم الشريف بعد ترحيب مطوفنا عبد الرحمن بوشناق، بقدومنا، وهو المسجد الكبير والوحيد في مكة المكرمة (توجد مساجد كثيرة ولكن المؤلف لم يعرف منها إلا الحرم) ها هي الكعبة المشرفة تقف شامخة أمامنا بإجلال، محاطة بستارها الاسود المزخرف، والكعبة المشرفة، خلافا لما هو شائع، ليست هي قبر الرسول صلى الله عليه وسلم (الموجود في المدينة)، انها بيت الله بالنسبة الى جميع المسلمين، سرة الدنيا.

وعند وصولي بادر المطوف بالقول: «أخي، لا تعتقد أنك تعبد هذا الحجر أو هذا القماش أو الذهب الذي يحيط بها، أنت هنا في مركز الأرض، تتجه نحوها جميع الصلوات في العالم الاسلامي، تتجمع كلها في هذا المكان لترفع مباشرة الى السماء، أنت هنا أقرب الى الله، هذا كل شيء».. كانت الساعة تقترب من السادسة، وهناك بصيص نور وردي يضفي على جميع الاشياء مسحة الصباح الندية، فجلسنا في ساحة الحرم الشريف ينتابنا شعور من الاجلال والحب. وبعد برهة من التأمل شرعنا في اداء أولى الصلوات. وشربت بلذةٍ من ماء زمزم الذي كنت أستزيد منه، بينما لا يمكن للمسيحي، في نظرهم، أن يبتلع جرعة واحدة دون أن تنسد حنجرته، بل انه سيختنق بهذا الماء بدل أن يشربه، بالاضافة إلى أن الرجل السيئ النية سيجد فيه طعما كريها. وأضاف واصفاً صلاة المغرب بالحرم: عشرون ألف مؤمن يتراصون في صفوف منتظمة، يقفون في ثبات وسكون: بسم الله فعم الحرم الشريف صمت مطبق، وامتلأت القلوب بالايمان في صمت، الله أكبر فيرد الجميع بصوت واحد، وبصوت خافت: الله أكبر! الا ان عدد المصلين كبير جدا، لدرجة أن ترديد الاصوات، وإن بصوت خافت، يجعلها تتجمع في صوت هائل مفعم بالايمان، محدثا جلجلة تستمر مدة طويلة مع انحناء المصلين للركوع.

تستمر الصلاة، ومعها تستمر جباه المصلين في ملامسة الأرض مرتين، عبادة لله تعالى وخضوعا له، ثم تتوالى الركعات في حركات هادئة مملوءة بالإجلال، فتزيدهم وقارا وهكذا الى أن تنتهي الفريضة بالسلام.

تنتهي الصلاة، الا ان المصلين يستمرون في الجلوس في صمت، يتأملون، وهم يمررون بين اصابعهم حبات السبحات المصنوعة في أغلبها من مادة العاج. وفي وسط لمعان شعاع الذهب المتوهج المنتشر في كل الجهات، يتوالى بروز بصيص لون وردي ذي دفء لا نهائي، محيطا كل شيء بشعاع دافئ، ثم يتحول هذا البصيص الى لون ضارب الى البنفسجي فإلى لون الحديد الرمادي، ثم يجيء الليل ليلقي بظلاله على الحرم الشريف شيئا فشيئا، ناشرا ثوبه الادكن لإخفاء كل هذه الأشياء الروحية. وبعد أن يصبح الظلام أكثر كثافة، يعود الناس بلباسهم الأبيض إلى الطواف بصمت، يتحركون، كالظلال فوق البلاط المصقول، حول الكعبة المشرفة التي يتماهى ستارها الأسود بسرعة في ظلال الليل. ها هي ذي المصابيح الكثيرة تتلألأ في الحرم الشريف، تنير الليل بشراراتها اللامعة. مكسرة جمال المكان. فيشرع الناس في التحاور بينهم، ويزداد التحرك نحو الانصراف وكثرة الذهاب والمجيء الى ان ينسحب الجميع.

يجب العودة الى السكن والصعود فوق سطح البيت لأداء صلاة العشاء والاستعداد للمبيت. حينئذ سيكون لدي الوقت للعودة الى احلامي التي قطعت عني، في هدوء مطلق، وفي ليل صاف وهادئ وتحت سماء تتلألأ بالنجوم.

شقق من دون سقوف تتوافر جميع بيوت مكة المكرمة على سطوح محاطة بأسوار منخفضة مبنية من اللبن المصفوف على شكل مربعات منسقة بينها فراغات، وهذا الوضع يسمح بمرور الهواء بحرية دون أن يكشف الجار بيت جاره. ولا شك ان المكيين يصعدون كل مساء الى السطوح ليناموا فيها خلال عدة أشهر من السنة، والسطح هو شقة حقيقية من دون سقوف، وعند الحاجة توضع حواجز صغيرة للفصل بين الأسر، وفصل الحريم أو العبيد. واذا كان البيت كبيرا، فإن السطح يقسم الى طبقات، فيصبح على شكل مدرج لجعله أكثر ملاءمة وسترا. والسطح هو المكان الأكثر متعة في البيت، ينام فيه الناس على الحصير، والليالي فيه هادئة ولا يحتاج فيه المرء الى غطاء، كما يحتفظ بملابس النهار، وغالبا ما يكون اللباس هو القندورة (الثوب) المصنوعة من كتان الموسلين المستورد من طرابزون (ميناء تركي على البحر الأحمر)، أو القفطان المصنوع من القماش او من القطن المستورد من الهند.

أصبح لي بسرعة عدد من الأصدقاء في المدينة، أولهم عبد الواحد، وهو من أصل مغربي، يشتغل في دباغة الجلود في حي المشرفة، متزوج بهندية، وأب لثلاثة أطفال، وهو يكن لي صداقة حميمة، فهو الذي يرافقني في جولاتي الطويلة خلال المدينة، كما قادني الى مِنَى بعدما تعذر ذلك على الحاج آكلي الذي منعه مرضه من مغادرة البيت، وبفضله تعرفت على جزئيات المدينة وضواحيها، وبرفقته استطعت التقاط بعض الصور بعدستي المكبرة المدسوسة في سجادة الصلاة التي كنت أتأبطها كما يفعل جميع الناس تقريبا في مكة المكرمة.

صعدنا معاً ذات صباح الى جبل أبي قبيس، وهو جبل وعر يشرف على المدينة وتوجد في قمته قبة صغيرة أنيقة. قليلون هم الحجاج الذين يذهبون الى هناك من اجل الاستغفار، او التعبير عن امنياتهم، اما أنا فكنت آمل التقاط صورة بانورامية للمدينة المقدسة من هذه النقطة التي تشرف عليها. كانت تلك المرة الأولى التي احمل فيها عدستي المكبرة. وكان الخطر مضاعفا في هذا اليوم، من جهة تسلق الجبل الوعر وعدم التوجه الى الصلاة في القبة. وفي هذا خطر اثارة انتباه حراس الضريح الذين يترصدون دائما ما يحمله اليهم الزوار. من جهة أخرى لكي نؤدي الصلاة في هذا المسجد كان يجب تسريح السجاد الذي اخفي فيه عدستي المكبرة التي لم يكن بوسعنا اخفاؤها في مكان آخر بالنظر الى البذلة الخفيفة التي كنت البسها وهي قفطان طويل ليس له جيوب.

تساءلت: أأخفيها في الحزام؟ لم يكن بامكاني التفكير فيه. اذن من المستحيل التوجه الى قمة جبل أبي قبيس لزيارته أو القيام بأي عبادة.. تسلقنا الجانب الوعر من الجبل بهدوء دون ان نلتفت وراءنا. وكأننا شخصان مؤمنان لا يشغل بالهما شيء عن الورع والتقوى، وبعد وصولنا الى أسفل البناية جلسنا أرضا كما لو أننا نلتقط أنفاسنا ـ ما أروع المشهد ـ المدينة كلها تنبسط تحت اقدامنا، وكان الجو صحوا لدرجة يمكن معها ان يرى بوضوح تام أي جسم مهما كان صغيرا في الحرم الشريف الذي كان يوجد فيه بعض المصلين. وكالعادة، فقد كان هناك أناس بلباسهم الأبيض يطوفون بالكعبة المشرفة ذات اللون الأسود.

أعترف اني لم استمر طويلا في هذا التأمل، إذ انتقلت بسرعة الى العمل، أخذت آلة التصوير لالتقاط صور بانورامية، فالتقطت المشهد الأول، فالثاني، فالثالث فالرابع فالخامس على التوالي.. التقطت هذه المشاهد كلها وأنا واقع تحت تأثير خاص، كما لو اني فرغت لتوي من انجاز شيء خارق، بقيت جالساً فترة على الأرض، ثم قمت، فقلت لعبد الواحد لنذهب، ودون أن ننبس ببنت شفة. غادرنا هذه المناطق الخطيرة. لقد نجونا... لكن ألم يشعر الحراس بوصولنا، أم تراهم كانوا في الجهة الأخرى عند بوابة الدخول؟ انه لغز، ومهما يكن الأمر فإن أحدا لم يشاهدنا، ولم يبق لنا سوى النزول بسرعة.

اعتقدت انه كان يجب عليّ كسر وتيرة الصمت وتقديم شرح لمرشدي.. وفي اول منعرج من ممر النزول قلت له: «أرأيت يا عبد الواحد، ان نظري سيئ لا يسمح لي بالرؤية بعيدا، وبمساعدة هذه الآلة الصغيرة أصلحت بصري فإحدى عينيَّ تبصر بعيدا والأخرى تبصر قريبا، وبهذه الآلة استطيع الرؤية بشكل أفضل».

ـ لكن عبد الواحد أجابني قائلا: إنه يعرف ذلك، فهذه الآلات تلتقط صور البلدان. لقد رأيت آلات تشبهها سابقا في طنجة.

ـ فأجبته هل أذنبت يا أخي؟ وفي هذه الحالة سأقوم بتحطيمها فورا.

ـ فرد عليّ: لا يا اخي، ما دمت لا تصور الوجوه، الأمر سيان، خذ حذرك كثيرا كي لا يراك أحد، سيتهمونك بالتجسس السياسي، وستقتل بلا شفقة ولا رحمة.. وقد حدث هذا كثيرا في موسم الحج. أحسست فعلا بحجم تهوري وحماقة مشروعي الذي أنوي فيه جمع الوثائق الضرورية لتأليف كتاب مدعم بالصور عن مكة المكرمة. مسكين هذا الحاج آكلي الذي يجهل تقنية التصوير، ظنا منه ان الأمر ينحصر فقط في التقاط بعض الكليشيهات بشكل سري في بعض الأحياء المعزولة، أو تصوير نوافذ بيوت بعض الأصدقاء، أو بعض الأسطح، وهذا سيكون كافيا في نظره.

لقد سمح لي بحمل آلة التصوير (13 x 18) وبعض الألواح التي أخفيناها بعناية في أغراضنا، بين الكتب العربية التي يسمح حجمها باخفاء علب الألواح، بالاضافة الى الغرفة المظلمة، لكن الاقتراب من باب الشريف الأكبر الذي يحرسه رجال الأمن الأتراك بعناية، أو حتى الوقوف في الشوارع والأسواق والبازارات. أو من بيت الباش، بكاميرا التصوير مهما كانت درجة إخفائها سيكون حماقة ما بعدها حماقة، وسيكون أسلوبا مكشوفا يلقي من خلاله المرء بنفسه الى التهلكة. لهذا فقد كانت عدسة التكبير الصغيرة الحجم الوحيدة التي سمحت لي بالتقاط بعض الصور للمدينة المقدسة التي تدعم هذا الكتاب، دون ان اتعرض لعقاب، وتعود بي الذاكرة الى ايام استعدادي للسفر في باريس، إذ يمكن القول إني كنت محظوظا جدا باتباعي النصائح الثمينة التي قدمها لي ذلك الصديق عندما قال لي: «اصطحب معك عدسة التكبير على سبيل الاحتياط». كم سخرت حينها من اقتراحه وما ازال أرى نفسي مستمرا في غروري الأحمق، ويمكنني أن اقول الآن إنه لو لم يكن هذا الصديق قد أخذني من ذراعي وتوجه بي الى شارع الأوبرا، عند السيد ريتشار العزيز الموجود في المعرض العام للصور، ولو لم يكن السيد ريتشار أجبرني على حمل عدسة التكبير لندمت الآن كثيرا على رجوعي بخفي حنين.

ينعرج الممر الذي نسلكه في النزول الى أحد المنحدرات ليشرف مرة أخرى على المدينة.

لقد هدأ روعي، وأصبح لدي الوقت كي أتمعن في كل شيء، إذ تبددت كل مخاوفي. كنا معا مجرد شخصين مسالمين عائدين من جولة من قبة جبل أبي قبيس.. كانت صورة المدينة بأكملها تظهر لي بوضوح تام، وكنت أعي أهميتها، الأسطح تتدرج تحت أقدامنا وعلى هيئة شقق عارية تعلو جميع البيوت متخذة شكل مدرجٍ. وتعد الصور البانورامية التي تتضمنها اللوحات الخمس التي حملتها من هذه المرحلة الخطيرة، الأولى في نوعها التي تغطي المشهد العام للمدينة، وهي الصور الأكثر تعبيرا من أي وصف، كما انها تسمح بتقديم فكرة دقيقة عن أهمية المدينة الروحية للمسلمين.

اعتقد ان عدد سكان مكة المكرمة يبلغ نحو 100 الف نسمة، اغلبهم من الهنود الذين تبلغ نسبتهم نحو 75 في المائة. وكما اسلفت القول، فإن المدينة تقع بين جبلين، في شعب ضيق وطويل يمتد من الشمال الشرقي الى الجنوب الغربي، ويخترقها شارع رئيس يمتد على طولها، تتخلله بعض المنعطفات، وتلتقي عنده بعض الأزقة المجاورة له، أغلبها يتقاطع معه بشكل منحرف.

جبت الشوارعَ والبازاراتِ بكل أمان، وغالبا ما كان يرافقني عبد الواحد، واحيانا أكون برفقة الدرويش الجزائري أو أحمد بوشناق، لذلك فقد كان عليَّ ان اتبادل بعض عبارات التحية والمجاملة، وشرب عدد لا يحصى من كؤوس الشاي التي كانت تقدم لنا حيثما ذهبنا في جميع المناسبات، عند الاصدقاء، وعند الباعة حيث كنت أتسوق وفي كل مكان.

تنتظم المهن في أحياء، كما هو الأمر في جميع المدن العربية، وكان كل يوم يمثل بالنسبة اليّ استكشافا جديدا. ذهبنا في أحد الأيام الى أحد باعة القماش، فتمكنا بعد أخذ ورد، وبعد مفاوضات طويلة، ونقاشات اطول، من شراء حزام وعمامة وقفطان وقطعة من القماش، وذهبنا في اليوم التالي، الى سوق العطور، لأشتري قليلا من البخور لصديقنا الحميم في الجزائر عبد الرحمن، وشيئا من زيت خشب الصندل والمسك لأصدقاء آخرين. وذهبنا في يوم آخر الى الحي الذي تباع فيه صفائح الماء من أجل التزود بماء زمزم، ويوجد بهذا الحي عدد كبير من الحرفيين يصنعون من دون توقف أوعية من القصدير، من جميع الأشكال والأحجام، معدة خصيصاً لتعبَّأَ بماء زمزم، وتراهم يفصلون ويلحمون ثم يملأون ويبيعون بأنفسهم في محلاتهم التجارية الصغيرة، وهذه الأشياء الصغيرة الغالية يأخذها كل واحد منا عند عودته الى بلده، اذا عدنا اليه بصحة جيدة، بعون الله، وهي العبارة التي تتردد على مسامعنا في كل لحظة. اما شراء الأشياء المصوغة، مثل خواتم الذهب أو الفضة فتتطلب التحلي بالصبر، وتمثل الصياغات المكية مؤسسة حقيقية، يسيرها ويديرها، كما تسير المؤسسات الحكومية أحد الشيوخ (شيخ الصاغة)، وهو احد حرفيي المهنة نفسها، انهم صناع مهرة، يصنعون تحفا جميلة بطريقة متقنة ومتأنية، مثل سلاسل من الذهب والفضة، كما يصنعون عددا كبيرا من الخناجر التي يطلق عليها هناك اسم «الجنبية» ويتمنطق بها جميع اعراب الجزيرة العربية، وتوضع اغلب هذه الخناجر في أغمدة فضية مذهبة على شكل (كم)، وهي غالبا ما تمثل كل ثروة البدوي الذي يتاجر بهذه البضاعة، إذ ان الاعراب يبيعون أو يشترون هذه الأسلحة التي تمثل كل توفيرهم، ويتصرفون فيه حسب السنوات التي تكون تارة خصبة وتارة سيئة، ولا يمكن ان تتم أي عملية بيع للمصوغات دون قرار من شيخ الصاغة.

يشرع المشتري اولا في مناقشة التاجر في سعر الدرهم (نحو ثلاثة غرامات) التي تعد الوحدة الأساسية في ميزان هذه الصفقات التجارية، ثم يتوجه المشتري الى شيخ الصاغة الذي يوجد أحيانا في الطرف الآخر من المدينة، وذلك حسب المكان الذي يشرع فيه بالمعاملة، وهو ما حصل معي فعلا. فقد وضعت عيني على سلسلة جميلة من الفضة الذهبية كانت موضوعة على رفوف أحد تجار المقتنيات القديمة والرخيصة السعر التي يوجد سوقها في أحد الشوارع المجاورة لقصر الشريف الأكبر. كانت الساعة نحو العاشرة صباحا، وهو وقت افتتاح السوق، وقد نصحني عبد الواحد بالرجوع في غضون النهار للحصول على سعر جيد.

قدم لي احمد بوشناق مصحفا جميلا جديدا لكنني لم ألمسه إلا بعد التوضؤ، حتى لا أدنسه بيديَّ غير الطاهرتين، فاخذت هذا المصحف الى الشيخ محمد عابد، وهو من كبار مفتيي المالكية، الذي كان هو الآخر يحبني كثيرا، فقدم لي سيلا من المواعظ، ودروسا مهمة في الأخلاق. قام الحاج آكلي بترجمتها لي. علق الشيخ محمد عابد المصحف في خيط الحرير المربوط في مفتاح بيته ليرى من خلال ترجحه في يده، ان كانت بشائر الخير تتوقع لنا عودة سعيدة الى بلدنا، وبعد ان تمتم بعدد من الأدعية السرية، بينما كان المصحف معلقا في الفضاء، استدار المصحف جهة الشرق، وفي ذلك علامة على حسن الطالع. كان هؤلاء المشايخ يؤمنون بالسحر والسحرة والجن، وخرافاتهم الساذجة مطبوعة بفلسفة صبيانية، إلا أنها أخلاقية ومهدئة، لا يمكن ان تصدر مثل تلك الخرافات عن مفتيي المالكية.

لم يصادف وجودي في مكة المكرمة موسم الحج السنوي، واهنئ نفسي بذلك، لأنني تمكنت بفضل فراغ المكان من أن اتمعن على مهل، ودون ازدحام في كل ما يتعلق بالأكل والمبيت، وهي الانشغالات التي ترهق الزائر الأجنبي في وقت امتلاء المدينة بالحشود الغفيرة من الحجاج.

كان خطر اتهامي بالجاسوسية كبيرا، إلا انني كنت اتخذ من وجودي في مكة المكرمة خارج وقت الحج حجة لمصلحتي، إذ أكرر على مسامع من يسألني: لو كانت نيتي سيئة، كان بامكاني ان استغل وقت الحج للتستر وسط الجموع، فأضيع بين الاجانب من كل الاجناس ومن جميع البلدان، ومع ذلك فقد نبهني الشيخ محمد عابد، صديقي المفتي المالكي على انني يجب ان اهنئ نفسي على مناخ التسامح الكبير الذي اصبح معمولا به اليوم مع الأجانب الراغبين في الاقامة في المدينة خارج موسم الحج ثم أردف قائلا: في السابق كان الأمر مختلفا تماما، فمنذ ما يقرب من ثماني سنوات كان المسؤولون يفرغون المدينة مباشرة بعد انتهاء موسم الحج. بعد ثلاثة أيام من العودة من عرفات يشرع المنادون في شوارع المدينة المقدسة قائلين: «هيا.. ايها الحجاج لقد حان وقت الرجوع الى اوطانكم غدا ستنطلق قوافل مصر وسورية. كما ان السفن راسية في ميناء جدة، في انتظار من يرغب في السفر الى بلده، وقريبا ستبحر وبإذن الله ستصلون الى بلدانكم سالمين غانمين مشمولين بالبركة».

ويواصل الرحالة بوصف بيوت مكة بقوله: بيوت مكة جيدة البناء، شأنها شأن بيوت مدينة جدة، فهي مبنية من الأحجار والبلاط ومدعمة بأعمدة من الخشب مغروسة في جدرانها وتتألف من دورين او ثلاثة الى خمسة أدوار، وجميعها مزينة بالمشربيات المصنوعة من خشب الهند، وغالبا ما يكون محكم الصنعة.

يجنح المعماري احيانا الى إعطاء واجهة البناية اشكالا طريفة، لا تخلو من جمالية حقيقية. أما البيوت من الداخل فمرتبة بعناية، خصوصا ما يتعلق منها بوسائل الراحة. واما الادوار العلوية فأكثر اتقاناً، لأنها المكان الوحيد الذي يمكن التعرض فيه لبعض هبات الريح الذي يعز في هذا البلد، لكن ألطف ما في البيوت العربية، دون شك هي سطوحها التي لا تستخدم مع الأسف إلا في الليل.

روح تضامن ونظافة جماعية يسهر السكان انفسهم على تنظيف الشوارع التي تشبه الى حد كبير شوارع دمشق، او شوارع القاهرة القديمة. ويجد المرء نفسه مضطرا الى ان يحيي روح التضامن الكبيرة السائدة بينهم، اذ ان اشغال التنظيف الشاقة تجري كما يقال طوعيا، لأن السكان لا يدفعون في مكة المكرمة ضرائب عادية ولا ضرائب ارباح، ولا يدفعون أي مساهمة من أي نوع كان، ونتيجة لذلك فلا يبدو ان هناك نظاما للنظافة، باستثناء جمع القاذورات التي تحمل على ظهور الحمير.

قمت بجولات طويلة على طريق عسير التي تسير باتجاه الجنوب الغربي للمدينة. وعند خروجي من الحرم الشريف، اجتزت قرية كبيرة يسكنها الزنوج، انها قرية غريبة مَنْ يصدق انها مبنية من القصدير الابيض الذي تصنع منه صفائح البترول؟! لا شك أن كمية كبيرة من هذه المادة قد استهلكت في بناء مدينة الزنوج بأكملها من مخلفات هذه الأوعية. وتساءلت عن سبب ترك السكان الفوانيس مشتعلة طوال الليل، سواء في الشوارع او في المساجد او حتى في الشقق الخاصة، فلم أجد جوابا شافيا؟