منظر الجهاديين: عدد المسلمين الذين تسببت «القاعدة» في قتلهم وتشريدهم يفوق بكثير عدد من قتلتهم إسرائيل (الحلقة الثالثة)

الدكتور فضل يرد في كتاب حصلت «الشرق الأوسط» على حقوق نشر حلقات منه على مواقف «القاعدة» وفتاوى بن لادن والظواهري

احد الجنود الأميركيين يغطي وجهه اتقاء للبرد خلال دورية لقوات التحالف العاملة في افغانستان في منطقة خوست الجبلية على الحدود مع باكستان (أ ف ب)
TT

بدأ اسم «القاعدة» يظهر على الساحة نهاية عام 1987 على يد الشيخ عبد الله عزام، وبأموال جمعها أسامة بن لادن، وتحت هدف واحد وواضح هو مقاومة الغزو السوفياتي في أفغانستان، وفي عام 1989 أخذ بن لادن البيعة لنفسه كأمير للتنظيم، من جماعة المتطوعين العرب، وتوسعت أهدافه إلى خارج أفغانستان، في جولة بدأها باليمن الجنوبي عام 1990، انتقل بعدها إلى السودان عام 1993، وهناك بدأت تداعبه طموحات الاصطدام بالقوى العالمية، التي أثمرت تحالفه الشهير مع أيمن الظواهري في ما سمي بالجبهة العالمية لمحاربة اليهود والصليبيين عام 1998، قبل أن ينتهي بهما المطاف إلى 11 سبتمبر (ايلول) 2001، ليدخل التنظيم وقائداه بن لادن والظواهري في نفق مظلم لم يخرجا منه حتى تاريخه.

وعلى مدار الحلقات الأربع القادمة من كتابه «مذكرة التعرية لكتاب التبرئة»، الذي حصلت «الشرق الأوسط» على حق نشره في حلقات، يتناول الشيخ عبد القادر بن العزيز أو الدكتور فضل، كما اشتهر بين المجاهدين، بالنقد الشرعي أركان فكر تنظيم القاعدة ودحض فتاواهم التي استخدموها في تضليل آلاف من الشباب في شتى بقاع العالم، كما يقول.

في حلقة اليوم يشرح الدكتور فضل قصة القاعدة ويحلل أفكارها، وهنا نص ما ذكره في كتابه: الركيزة الأولى للتنظيم وهي قولهم: إن أميركا واليهود هم سبب مصائب المسلمين، ليحشد ابن لادن المسلمين معه ضدهم، وليحول الأمر من قضيته الشخصية، المقدمة عنده على أي شيء آخر، إلى قضية أمة، فهذا قول ظاهر البطلان مناقض للقرآن. يا معشر المسلمين ابن لادن يستخف بعقولكم، فإن مصائب المسلمين هي بسبب المسلمين أنفسهم، هذا كلام الله ومن أنكره فقد كفر. لما هُزم المسلمون في غزوة أحد لم يقل الله لهم إن هذا بسبب كفار قريش، وإنما قال إنه بسبب ذنوبهم، وهم خير أمة محمد صلى الله عليه وسلم القائل (خير أمتي قرني) الحديث متفق عليه، فكيف بمن بعدهم؟ قال الله تعالى: «إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان، إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا» (آل عمران:155). وفي مصيبتهم في نفس الغزوة قال سبحانه: «اولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم انى هذا قل هو من عند أنفسكم» (آل عمران:165). وقال تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم» (الشورى:30). فمصائب المسلمين من أنفسهم وليست بسبب أميركا، هذا كلام الله ومن أنكره فقد كفر كما قال تعالى: «وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون» (العنكبوت:47)، والجحد هو الإنكار.

فهذا كتاب الله ينطق بأن مصائب المسلمين هي بسببهم لا بسبب الكفار، وقد أكد ذلك الحديث القدسي، الذي بيّن أن العدو الكافر لا يتسلط على المسلمين إلا بعد فساد المسلمين من داخلهم، وذلك فيما رواه الإمام أحمد بإسناده عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل قال: (يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يُرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكتهم بسنةٍ عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا ممن سواهم فيهلكهم بعامة حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، وبعضهم يقتل بعضًا، وبعضهم يسبي بعضًا) الحديث، قال ابن كثير (إسناده جيد قوي وقد رواه ابن مردوية عن ثوبان) وذلك في تفسير قوله تعالى: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض (الأنعام:65)، وورد تفسير (عدوًا ممن سواهم) أي (عدوًا من غيرهم يعني أهل الشرك) رواه الطبراني عن علي رضي الله عنه، في (تفسير ابن كثير 2/141-142)، ومعنى (سنة عامة) أي مجاعة تعمهم جميعًا. فالذي يقول إن مصائب المسلمين هي بسبب أميركا أو اليهود هو مكذب بالكتاب والسنة، ولكن ابن لادن والظواهري وأصحابهم لا يفقهون وينظرون إلى ظواهر الأمور بدون تدبر لحقيقتها وبدون دراية بالشرع. وإنما يسلط الله الكفار على المسلمين ليعاقبهم بذنوبهم، كما قال عُمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي جنوده (ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدوّنا شرّ منا فلن يُسلط عليها، فرُبّ قوم قد سُلِّط عليهم من هم شرّ منهم، كما سلّط الله كفار المجوس على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله».

الله سبحانه يقول مصائب المسلمين من أنفسهم، وابن لادن والظواهري يقولان بسبب أميركا، فلينظر كل مسلم من يتبع: الله أم ابن لادن والظواهري؟ ومعظم كتاب الظواهري (التبرئة) يحاول غرس هذه الفكرة الفاسدة في عقول المسلمين لتبرير ما فعلوه وليهاجم من ينتقدهم.

فمن الذي أضاع فلسطين؟ العرب هم الذين حاربوا العثمانيين وطردوهم من فلسطين في الحرب العالمية الأولى ثم سلموها لبريطانيا عام 1916م، فمنحتها لليهود بوعد بلفور عام 1917م. من الذي يقتل الفلسطينيين خاصة قادتهم اليوم؟ إنهم الفلسطينيون العملاء لإسرائيل، بوشايتهم تتمكن إسرائيل من قتل من تريد. ومن الذي يبني اليوم المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية لترسيخ احتلال إسرائيل لها؟ إنهم عمال فلسطينيون. من الذي أدخل أميركا إلى أفغانستان في 2001م؟ إنه ابن لادن والظواهري. ومن الذي تسبب في فتح معتقل غوانتانامو الأميركي لسجن المسلمين في كوبا؟ إنها حماقة ابن لادن. من الذي أدخل المغول إلى بغداد قديمًا 1258م؟ إنه الوزير ابن العلقمي. ومن الذي أدخل أميركا إلى بغداد اليوم 2003م؟ إنها خيانة كبار ضباط الجيش العراقي. ومن الذي قتل اللبنانيين لمدة 15 سنة (1975-1990م)؟ إنهم اللبنانيون. ومن الذي احتل الكويت وقتل أهلها في 1990م؟ إنهم أهل العراق وليست أميركا ولا إسرائيل. ومن الذي يقتل السودانيين بعشرات الآلاف اليوم في دارفور؟ إنهم السودانيون أنفسهم يقتل بعضهم بعضًا، تمامًا كما يفعل اليمنيون ببعضهم.

وبغض النظر عن مشروعية تواجدها، فإن القوات الأميركية أثناء تواجدها في السعودية ـ بعد غزو العراق للكويت 1990م ـ لم تقتل هذه القوات مسلمًا في السعودية، ولكن القاعدة قتلت مسلمين في السعودية. إن عدد المسلمين الذين تسببت القاعدة في قتلهم وتشريدهم في بضع سنين في كينيا وأفغانستان والعراق والسعودية والجزائر وباكستان وغيرها يفوق بكثير عدد من قتلتهم إسرائيل أو شردتهم في فلسطين وما حولها في ستين سنة. فالقول بأن القاعدة تدافع عن المسلمين هو (حديث خرافة) بل إنها تقتل المسلمين وتشردهم، ولكن الظواهري وشيخه ابن لادن يستخفون بعقول الناس. كما أن القول بأن القاعدة تدافع عن دين الإسلام هو أيضًا (حديث خرافة) بل إنها تحرّف أحكام الدين وترفض كلام الله، وهل يمكن أن يدافع جاهل بالدين عن الدين؟ والأمثلة كثيرة وكلها توكيد لقول الله تعالى: قل هو من عند أنفسكم (آل عمران:165). أما إلقاء التبعة على الغير مع تنزيه النفس عن التقصير، كما يقول ابن لادن والظواهري فهذا مذهب إبليس، فاعتبر إبليس أن سبب غوايته هو الله وليس خبث نفسه التي نزهها عن التقصير. وفي تقرير هذه الحقيقة قال ابن تيمية رحمه الله (وإذا كان في المسلمين ضعف وكان عدّوهم مستظهرًا عليهم كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم، إما لتفريطهم في أداء الواجبات باطنًا وظاهرًا، وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطنًا وظاهرًا) ، وقال تلميذه ابن القيم رحمه الله (والله سبحانه إنما ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه القائمين بدينه علمًا وعملاً، لم يضمن نصر الباطل ولو اعتقد صاحبه أنه مُحق ـ إلى قوله ـ ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله أو بإدالة عدوه عليه فإنما هي بذنوبه، إما بترك واجب أو فعل محرم وهو من نقص إيمانه)، من كتابه (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان). كذلك فإن إصلاح حال المسلمين لا بد أن يبدأ من داخلهم، كما قال الله تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (الرعد:11).

فمصائب المسلمين هي بسببهم لا بسبب أميركا كما يروج الظواهري لهوى ابن لادن، وإصلاح المسلمين يجب أن يبدأ منهم، هذا كلام الله من أنكره فقد كفر. أما جهاد العدو المعتدي فواجب عند الاستطاعة، وأما أن تعبر المحيط وتذهب إلى عدوك في داره وتهدم له عمارة فيدمر لك دولة (طالبان) وتزعم أنك مجاهد، فهذا لا يفعله إلا الحمقي. قال الشاعر: «لا يبلغ الأعداء من جاهل.. ما يبلغ الجاهل من نفسه». ولكن ابن لادن والظواهري يصران على أن أميركا سبب مصائبنا، والويل ثم الويل لمن يخالفهم ولو كان يحتج بكلام الله: هو يخدم المخططات الصليبية اليهودية، والمخابرات الأميركية تشرف على وثيقته. ولما كان ابن لادن يرى أن قضيته هي قضية الأمة الإسلامية فقد هرب هو والظواهري وتركا الأمة تدفع الثمن بضياع دولتين (أفغانستان والعراق) وبسقوط مئات آلاف القتلى والأسرى مع الخراب الواسع، وكله في رقابهم ولا شك، فالقاعدة الفقهية تنص على أن (إتلاف المتسبب كإتلاف المباشر في أصل الضمان) من (إعلام الموقعين) 2/65. وذكرها ابن القيم أيضًا في (الطرق الحكمية) ص 58، ط المدني.

وأما ركنهم الثاني والمتمثل في اعتراض الظواهري على الخيارات المشروعة للمسلمين مع أعدائهم، واعتراضه على أن للجهاد شروطًا وموانع، فأما الخيارات المشروعة: كالجهاد والصلح والهدنة والعزلة وكتمان الإيمان والصبر وغيرها، وكذلك شروط الجهاد وموانعه، فقد ذكرتها بأدلتها من الكتاب والسنة بالوثيقة. والشروط والموانع هي الفاصل بين العلم بوجوب الشيء (وهو الوجوب المطلق) وبين القدرة على القيام به (وهو وجوبه على المعين)، فقد يكون الشيء واجبًا بأصل الشرع ولا يجب على بعض المسلمين لانتفاء شروطه أو لقيام موانعه في حقهم.

وأما الظواهري فاستنكر الشروط والموانع، ولا خيار عنده إلا استعمال القوة كما قال (فقد كان واضحًا ولا زال لكل منصف ذي عينين أن هذا الواقع الفاسد لن يتغير باللين والمسالمة، ولن يتغير إلا بالقوة) من كتابه (التبرئة) ص193. واعتبر الظواهري أن أي خيارات غير القوة هي (سموم العجز والشلل التي تبثها أمثال تلك الوثائق بإشراف أمن الدولة ومن فوقهم سادتهم الأميركان) من كتابه (التبرئة) ص74. وكلامه هذا يؤول به إلى الكفر لأنه إهانة لكلام الله وكلام النبي صلى الله عليه وسلم، فمؤمن آل فرعون الذي كتم إيمانه وأثنى الله عليه، وأصحاب الكهف الذين اعتزلوا قومهم الكفار فامتدحهم الله، وقول الله تعالى: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها (الأنفال:61)، وكذلك إقدام النبي صلى الله عليه وسلم على صلح الحديبية ومدحه لخالد لما انسحب بالجيش، كل هذه سموم وعجز وشلل عند الشيخ المجاهد ـ الكذاب ـ الظواهري. وقد قال الله تعالى: قل ابالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون. لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم (التوبة:65-66)، هذا يا معشر المسلمين هو مبلغ علم شيوخ الجبال والثغور الذين يريدون حصر الفتوى فيهم.

والظواهري بحصره الخيارات المشروعة للمسلمين مع أعدائهم في خيار واحد وهو استعمال القوة لا غير، هو كالطبيب الجاهل الذي لا يعرف من العلاجات إلا دواءً واحدًا يصفه لجميع المرضى من دون مراعاة لاختلاف أحوالهم، فلا بد من سقوط كثير من الضحايا بين يديه، فإذا رأى هذا الطبيب الجاهل طبيبًا آخر يصف أدوية مختلفة بحسب اختلاف حالات المرضى شنّع عليه بجهله واتهمه بأنه يروج أدوية أميركية من إنتاج المخابرات الأميركية، كالخيارات المشروعة التي أظهرتها (الوثيقة) للمسلمين فاعتبرها الظواهري دعاية أميركية لمجرد أنها تخالف رأيه المناقض للكتاب والسنة. بقى أن يعلم القارئ أن الظواهري رجل كذاب ومخادع، وهو يستعمل أدوية أخرى في السر غير الدواء الوحيد الذي يصفه للناس (وهو القوة مع العدو ولا غيرها) فقد دفع إخوانه للصدام في مصر عام 1993م بأموال المخابرات السودانية، ثم هرب هو من السودان عام 1995م، ولم يقبل أن ينزل مصر كما فعل بإخوانه بعدما وعدهم بأنه سيقاتل في مصر إلى آخر رجل فيهم وإلى آخر دولار. والظواهري يأمر الناس اليوم بقتال أميركا وشيخه ابن لادن عرض الهدنة على أميركا، والظواهري عرض التفاوض عليها. إذن هناك خيارات أخرى مشروعة غير الصدام، ولكل منها موضعه، وهذا ما في (الوثيقة)، هل عندما انسحب خالد بن الوليد رضي الله عنه بالجيش في (مؤتة) ومَدَحه النبي صلى الله عليه وسلم هل كان هذا برعاية أميركية؟ وهل عندما قال عُمر بن الخطاب رضي الله عنه (رحم الله أبا عبيد لو كان تحيّز لي لكنت له فئة)، هل كان هذا برعاية أميركية؟ يا معشر المسلمين هذه كلها خيارات مشروعة، والاختيار منها بحسب العلم والقدرة، وابن لادن والظواهري ليسا من أهل العلم والفتوى ولا من أهل التقوى، الذي يتقي الله لا يتسلق الجدران كاللصوص كي يصل إلى هدفه فيخون أميره ويغدر بعدوه ويجلب الكوارث على المسلمين، من فعل ذلك ـ كهؤلاء ـ لا يكون من أهل البر والتقوى، وهذا حكم ربنا فيهم لمن كان مؤمنًا به. وأنا أعرفهم من عشرات السنين، فلا تغتروا بكلامهم وشبهاتهم. هل يفهمان في الفقه والجهاد مثل عُمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضي الله عنهما؟ لا تدعوهم يستخفون بعقولكم. إنهم جُهال يستغلون العاطفة الإسلامية لدى الشباب مع قلة إلمامهم بالعلوم الشرعية، ولهذا تجد الظواهري من أشد الناس كراهية للكلام في الشروط والموانع وإظهارها للناس، مع أنها من أركان الحكم الشرعي كما في قاعدة (يترتب الحكم على السبب إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع)، إلا أن الظواهري لا يريد أن يعرف الشباب هذه العلوم الشرعية ليسهل عليه اصطيادهم وتحريضهم بخطبه الحماسية.

والنظر في الشروط والموانع هو الفرق بين العالم وبين الجاهل، كما أنه الفرق بين الفقيه وبين المغامر. وعهدي بالظواهري أنه من كبار المغامرين الذين لا ينظرون في عواقب الأمور، ولكنه مغامر غير عادي، فالمغامر عادة ما يغامر بما يملكه: إما بنفسه أو بماله وما يقدر عليه، أما الظواهري فإنه يغامر بما لا يملكه: فقد غامر في مصر بالمئات من إخوانه دفع بهم إلى القبور والسجون فقط بخطبه الحماسية، ثم هرب هو ولم ينفذ ما وعدهم به من أنه سيقاتل في مصر إلى آخر رجل، ثم غامر بدولة طالبان وبالشعب الأفغاني، ثم غامر بالشعب العراقي. فالظواهري دائمًا يغامر بما لا يملكه ثم يهرب ويترك غيره يدفع ثمن مغامراته، وكل هذا بدون إنجاز حقيقي على أرض الواقع، بل خسائر بالجملة، ولهذا فهو لا يريد أن يعرف الشباب المسلم أن هناك شروطًا وموانع للجهاد، وبالنظر فيها والعمل بها يؤتي الجهاد ثماره بأقل الخسائر الممكنة، بخلاف حصيلة المغامرين: خسائر جسيمة وبدون مصلحة. ومن يدقق في أسباب فشل الحركات الإسلامية في التمكين في الأرض، بل في تحقيق نتائج سلبية ـ كضياع طالبان ـ سيجد أن هذا يرجع إلى إهمالها النظر في شروط الجهاد وموانعه.

والركن الثالث «بدعة.. محلية الإمارة»، فلقد بدأ الإعداد لتفجيرات 11/9 قبل سنتين من وقوعها، ولما اكتملت التجهيزات أعلن ابن لادن في يونيو 2001 أن هناك عملية كبرى ستقع ضد أميركا بدون تحديد لمكانها أو تفاصيلها. فاعترض عليه بعض أتباعه خاصة من لجنته الشرعية بأن أميرهم الملا محمد عُمر نهاهم عن الصدام مع أميركا وأنه لا طاقة له ولا لدولته بذلك، فاخترع ابن لادن هذه البدعة (محلية الإمارة) للرد على منتقديه من أتباعه، وقال لهم إن محمد عُمر أميرهم داخل أفغانستان ولا دخل له بما يفعلونه خارجها. والرد على ذلك من وجوه: أن الأمر الشرعي بطاعة الأمير لم يقيد ذلك بمكان (داخل أو خارج) كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني) متفق عليه. وكذلك نصوص الوعيد لمن عصى أميره غير مقيدة بمكان، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من خلع يدًا من طاعة لقى الله يوم القيامة ولا حُجة له) رواه مسلم، فمن أين لابن لادن هذا القيد الذي حصر به طاعة أميره في داخل البلد فقط؟ إنه من وسوسة الشيطان له. يقيد نصوص الكتاب والسنة برأيه وهواه، ويغلّف هواه بهذه البدعة (محلية الإمارة) لخداع الجهال، وبهذا يضيع الدين والدول.

انه لا خلاف بين العلماء أن طاعة الأمير واجبة في أمور الجهاد، والجهاد لا يقع بدار الإسلام وإنما خارج حدودها، فابن لادن يستخف بعقول الناس، قال ابن قدامة الحنبلي (وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك) وهذا كلام أبي القاسم الخِرقي الذي شرحه ابن قدامة في (المغني). وبهذا تعلم أن بدعة (محلية الإمارة) هي حيلة احتال بها ابن لادن لإسقاط إذن الأمير (محمد عُمر)، وهي خدعة خدع بها ابن لادن أتباعه. وكيف يقول ذلك وقد ظل يخطط لتفجيرات 11/9 لمدة سنتين من أرض إمارة محمد عُمر، وانطلق المنفذون من نفس الأرض، وظل محتميًا بنفس الأرض (أفغانستان) بعد التفجيرات؟ ابن لادن يستخف عقول الناس. وقد نكث بيعة أميره وخانه ودَمَر دولته، وهذه كلها من كبائر الذنوب. وهذا كله لا يعفى الملا محمد عُمر من المشاركة في مسؤولية تدمير أفغانستان فقد كان بإمكانه تدارك ذلك إذا تصرف بحزم وحكمة عند بوادر الخطر، وبدون أن يقع في محظورات شرعية، ولكنه تراخي فصدق فيه قول الشاعر: أُوتيت مُلكًا ولم تُحسن سياسته .. كذلك من لا يُحسن المُلك يُسْلَبَهُ.

وكانت طالبان ـ وقت حكمها أفغانستان ـ تعاقب المرأة إذا خرجت من بيتها كاشفة وجهها أو بدون محرم، واليوم طالبان في محنتها تقتل الجنود الأفغان المتعاونين مع قوات الاحتلال من أميركا وحلفائها، ومع ذلك فإن طالبان لم تحاسب لا ابن لادن ولا أحدًا من أتباعه، رغم أنهم هم المتسبب المباشر في الاحتلال الأميركي لبلادهم وما أعقبه من ضياع دولتهم وتشريد حركتهم وقتل آلاف الأبرياء من الشعب الأفغاني، فهل هناك غفلة أعظم من هذا؟

كان ابن لادن طوال إقامته في أفغانستان (من 1996 وحتى احتلالها في أكتوبر 2001) يستخف بحكومة طالبان وبأميرها محمد عُمر، وكان ـ رغم مبايعته لهم بالإمارة ـ يعتبرهم مجرد وسيلة لتحقيق مشروعه الشخصي (مناطحة أميركا) ولو بالتضحية بأفغانستان وحكومتها، فكان ابن لادن يعقد الاتفاقات مع ـ الحليف القديم والدائم وهو ـ المخابرات العسكرية الباكستانية (مع الجنرال محمود أحمد) من أرض طالبان وكأنه دولة داخل الدولة.

* الحلقة الرابعة: أصل الفساد في استدلال «القاعدة»