منظر الجهاديين: لماذا لم تقم «القاعدة» بتنفيذ عمليات في فلسطين؟ الحلقة الثامنة

الدكتور فضل في كتاب حصلت «الشرق الأوسط» على حقوق نشره يتهم الظواهري بالمتاجرة بالقضايا وبأتباعه

عناصر من جيش الأمة خلال تدريباته في غزة وهو منظمة فلسطينية أعلنت أنها تتبنى فكر تنظيم «القاعدة» (رويترز)
TT

يواصل السيد إمام عبد العزيز أو الدكتور فضل، منظر الجهاديين، ردوده على الرجل الثاني في تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري، ويتناول بالنقد الفقهي موقف «القاعدة» من قضية فلسطين، متحدثا عما وصفه بالأمور الملتبسة حول هذه العلاقة، التي اختزلها في ثالوث البرغوث والكلب والفيل. كما يتناول «منظر الجهاديين» في حلقة اليوم من كتابه «مذكرة التعرية لكتاب التبرئة» الذي حصلت «الشرق الأوسط» على حقوق نشره كحلقات، ما اعتبره تقرير الذمة المالية للرجل الثاني في تنظيم «القاعدة»، وكيف استخدم الظواهري أموال التبرعات والهبات التي كانت تصله، وما هي أولويات صرفه لهذه الأموال؟

وفي تناوله لاستخدام الظواهري لقضية فلسطين يقول الدكتور فضل في كتابه:

من المعلوم من التاريخ المعاصر أن أسرع الطرق إلى كسب الشعبية لدى الجماهير العربية والإسلامية، هي مناطحة أميركا وإسرائيل والإكثار من الكلام عن القضية الفلسطينية، فعل هذا جمال عبد الناصر وصدام حسين ومحمود أحمدي نجاد رئيس إيران الحالي وغيرهم، إلا أن هؤلاء قدموا شيئًا لفلسطين، وأهلها خاصة جمال عبد الناصر.

أما ابن لادن والظواهري فقد سارا على نفس الدرب لكسب الشعبية التي تكلم عنها الظواهري، إلا أنهما لم يقدما لفلسطين إلا الكلام، وقد أفصح الظواهري عن حقيقتهما هنا غاية الإفصاح وأن اهتمامهما بفلسطين لا يتعدى المتاجرة بالشعارات لكسب الجماهيرية ولتقلد زعامة الأمة الإسلامية، فقال «والشعار الذي تفهم جماهير الأمة المسلمة جيدًا وتتجاوب معه ـ منذ خمسين سنة ـ هو شعار الدعوة إلى جهاد إسرائيل، وفي هذا العقد أصبحت الأمة معبأة ـ بالإضافة إليه ـ ضد الوجود الأميركي في قلب العالم الإسلامي». وقال الظواهري أيضًا «إن الحقيقة التي يجب التسليم بها هي أن قضية فلسطين هي القضية التي تلهب مشاعر الأمة المسلمة»، وقال أيضًا «إن هذه القضية سلاح ماض في يد الحركة الإسلامية المجاهدة ـ إلى قوله ـ لذا يجب على الحركة الإسلامية المجاهدة، أن ترفع شعار تحرير المقدسات الإسلامية الثلاثة: الكعبة المشرفة والمسجد النبوي الشريف والمسجد الأقصى، بهذا تجتمع لها أزمّة قيادة الأمة المسلمة، وتلتف حولها قلوب المسلمين في بقاع الأرض» من كتابه «فرسان تحت راية النبي». هذا هو ما يسعى إليه هؤلاء الخونة الغادرون المدمرون: زعامة الأمة الإسلامية بحفنة من الشعارات.

وليظهر الظواهري اهتمامه البالغ بفلسطين طرح عشرات الأسئلة عنها في كتابه «التبرئة»: ففي كتابه طرح ما يعبر عن اهتمامه بقضية فلسطين كقوله ما رأيكم وما حكم الشرع في: السفارتين الإسرائيلية والأميركية في القاهرة، والملحق العسكري في السفارة الإسرائيلية، والسلام والتطبيع مع إسرائيل، وشرعية دولة إسرائيل، واتفاقيات أوسلو ووادي عربة، والمبادرة العربية، ومؤتمر أنابوليس، ومقاتلة دولة إسرائيل. وفي موضع آخر ذكر الظواهري أن ابن لادن اصدر بيانًا بعنوان «تحريض الأمة على الجهاد لتحرير الكعبة والمسجد الأقصى»، فلا بد من مغازلة الأقصى. وتحدث الظواهري عن ««القاعدة»» وكيف أنها كسبت «محبة وتأييد وتعاطف جماهير واسعة من الأمة المسلمة، وأصبحت هي رمز المقاومة الشعبية للحملة الصليبية الصهيونية على الأمة المسلمة» وسمى ««القاعدة»» في كلامه السابق بالحركة الجهادية، وخلص إلى أن الهدف هو كسب الشعبية لدى الجماهير، فالمسألة كلام ودعاية من دون إنجاز حقيقي على أرض الواقع بل خسائر ودمار بالجملة كما سبق، وبالطبع مع كسب الشعبية تأتي التبرعات والأموال، وهذا بخلاف حال عبد الناصر وصدام ونجاد الذين قدموا الأموال وأحيانا الدماء لفلسطين. أما الظواهري فلم يجد ما يقدمه لفلسطين إلا تحريض بدو سيناء على الجهاد في فلسطين. وقد سبق أن قلت للقارئ الكريم: إن كل من يحرضك على الجهاد في مكانٍ ما قل له «إن كنت صادقًا وإن كنت إمامي فكن أمامي»، وتقدم للقتال أمامي كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة، امتثالاً لأمر ربه بأن يقاتل بنفسه قبل أن يحرض غيره.

ومن أجل كسب الشعبية أيضًا كرر ابن لادن كلامه عن أطفال فلسطين وأمنهم، وماذا عن أطفال أفغانستان الذين جلب إليهم الأميركان والدمار واليتم والتشريد؟ أليس كلهم مسلمين؟ وبالطبع لا يتكلم الظواهري عن مأساة طالبان ومأساة الشعب الأفغاني، الذي تسيل دماؤه يوميًا، لأن هذا يفتح عليهم باب المساءلة عن ذلك، ولهذا تجدهم يتجاهلون هذه الكارثة دائمًا، وكأن شيئًا لم يحدث في أفغانستان، إلا أن هذا لا ينفي أن ابن لادن والظواهري وأتباعهم مسؤولون مسؤولية شرعية وتاريخية مباشرة عن تدمير دولة طالبان الإسلامية وعن الاحتلال الأميركي، وما جلبه من الكوارث على أفغانستان، ولا بد أن يحاسبوا على ذلك حتى لا يتكرر هذا العبث، وحتى لا يرتكب كل مغامر جريمته ويهرب ليتحمل غيره تبعاتها.

لماذا لم تتمكن «القاعدة» من تنفيذ عمليات ضد اليهود في فلسطين؟

يرجع ذلك إلى سببين: السبب الأول: أن قتال اليهود ليس من أولويات ابن لادن، الذي مشروعه الصدام مع أميركا، أما الكلام عن فلسطين فلأغراض دعائية.

والسبب الثاني: هو أن ««القاعدة»» تنظيم بلا دولة، فهو أينما نزل في بلد هو جسم غريب عنها، ولا يستطيع تنفيذ عمليات في بلد إلا بتعاون بعض أهل هذا البلد، وهذا ما حدث في بعض البلاد، ولم يتمكنوا من فعله في فلسطين بسبب فشل «القاعدة» في التحالف مع أيٍ من المنظمات الفلسطينية. ويرجع ذلك إلى أمور أذكر منها أربعة هنا: الأول: المنظمات الفلسطينية لا تثق بابن لادن لأسباب ليس هذا محل شرحها، وهذا أمر قديم من أيام الجهاد الأفغاني ضد الروس، والثاني: أن المنظمات الفلسطينية متطورة من ناحية التقنية العسكرية أكثر من «القاعدة» بمراحل، فمن المعلوم أن تنظيم «القاعدة» نشأ وظل عالة على كوادر جماعة الجهاد وحتى 11/9، في حين أن جماعة الجهاد اكتسبت مهاراتها العسكرية المتقدمة بالتدرب عن طريق بعض المنظمات الفلسطينية وتحديدًا في لبنان في الفترة من 1990 إلى 1992، بما في ذلك طرق التفجير المختلفة والتدريب على تفخيخ السيارات والأفراد وغيرها بالمتفجرات، وهذا هو أساس معظم العمليات التي تنفذ هذه الأيام في أفغانستان والعراق وغيرها. حصلت جماعة الجهاد على هذه الخبرات من الفلسطينيين، ثم نقلت هذا لـ«القاعدة»، والخلاصة أنه لا يوجد لدى ابن لادن أو الظواهري شيء يقدمه للفلسطينيين من الناحية العسكرية. والثالث: هو اختلاف أساليب التكتيك العسكري لدى الجانبين من ناحية أسلوب استعمال القوة: فابن لادن يستعمل أسلوب القوة العمياء لقتل أكبر عدد ممكن من العدو ولو أدى ذلك إلى دمار تنظيمه «الانتحار التنظيمي». أما المنظمات الفلسطينية فتستعمل أسلوب القوة المحدودة لتحقيق مكاسب على حساب العدو مع ضمان بقاء التنظيم واستمراره، فهذه المنظمات تتبع القواعد التقليدية لحرب العصابات «حرب البرغوث والكلب»، أما ابن لادن فله طريقة جديدة هي «حرب الفيل» التي تجعل القتل بالجملة هدفًا.

والرابع: أن المنظمات الفلسطينية ليست بحاجة لأموال ابن لادن فلها مواردها الخاصة بها، كما أنها متطورة سياسيًا أكثر من ابن لادن بكثير.

لهذه الأسباب ولغيرها فشلت «القاعدة» في التحالف مع أهل فلسطين، وبالتالي فشلت في إيجاد موطئ قدم لها فيها، حتى لجأ الظواهري في بياناته الأخيرة إلى تحريض بدو سيناء على الجهاد في فلسطين، مجرد دعاية. ولما لم تتجاوب المنظمات الفلسطينية مع «القاعدة» ـ رغم تكرار مغازلتها للمسجد الأقصى والقدس وأطفال فلسطين ـ لجأ الظواهري إلى الهجوم والنقد المتكرر للمنظمات الفلسطينية، فلا يفوّت فرصة إلا ويدس أنفه في الشأن الفلسطيني ويوزع اتهاماته وتخوينه على الفلسطينيين.

اتهم الظواهري حماس بأن صواريخها تقتل أطفال اليهود، فهل هذا إنسان عاقل؟ وماذا عن تسبب «القاعدة» في قتل أطفال المسلمين في أفغانستان والعراق والجزائر وغيرها؟ أم أن هذا حلال لـ«القاعدة» حرام على حماس؟ الظواهري حزين على أطفال اليهود، وهو يقتل أطفال المسلمين، سأل رجل من أهل العراق عن حكم دم البرغوث إذا أصاب الثياب أَنَجسٌ هو؟ فقال له عبد الله بن عمر «تسألون عن دم البرغوث، وقد قتلتم الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم» رواه الترمذي وصححه، وروى البخاري قريبًا منه.

واتهم الظواهري حماس بأنها اشتركت في الانتخابات على أساس دستور علماني، ولماذا حماس فقط؟ ولماذا لا ينتقد الظواهري شيخه ـ المقدس ـ ابن لادن؟ لقد كان ابن لادن ينفق أموالاً طائلة لدعم نواز شريف في الانتخابات البرلمانية في باكستان ضد بي نظير بوتو، وذلك من أموال الجهاد التي يدفعها له سعوديون، ولما علمتُ بذلك عام 1992 قلت لأبي حفص المصري ـ وهو الذي سلمَّ الأموال لنواز شريف ـ «يا أبا حفص، والله إن ابن لادن يقودكم إلى جهنم». أما من وجهة نظري فإن فلسطين ليست قضية «القاعدة» ولا فتح ولا حماس وحدها، وإنما هي قضية الأمة الإسلامية كلها، ولم تحتل فلسطين إلا بعد زوال الخلافة العثمانية، وأظن أنها لن تعود إلا بذلك، والجهاد في فلسطين واجب على القادر، ولكنه لن يقيم دولة إسلامية ولا غير إسلامية فقط سيؤدي الجهاد إلى مجرد النكاية في العدو وإلى تأخير الأسوأ الذي هو قادم. إذا تمكّن اليهود في مكان وتملكوه فلن يسمحوا لغيرهم بمزاحمتهم فيه، وبالتالي فلن يسمحوا للفلسطينيين لا بدولة ولا أقل طواعية.

كما أظن أن قضية فلسطين ليست هي القضية المحورية أو الأولى لدى العرب والمسلمين، هذا فيه «تغييب للعقل المسلم» يروج له بعض الخبثاء، قضية المسلمين الأولى هي إقامة دولة الخلافة الإسلامية، التي تجمع شملهم وتعيد مجدهم، وإنها لقائمة كما أخبرنا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرت الأدلة على ذلك في أول البند الخامس عشر بالوثيقة.

توضيح: بخصوص الاعتراف بإسرائيل والصلح معها:

عقب هزيمة العرب أمام إسرائيل في يونيو 1967، رفع جمال عبد الناصر شعار «لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض» مع إسرائيل، وانعقد مؤتمر القمة العربي في الخرطوم في أواخر 1967م وتبنى هذا الشعار «اللاءات»، ولم يمت عبد الناصر «1970» إلا وكان قد شرع في التفاوض «مبادرة روجرز» ثم جاء الاعتراف والصلح بعد ذلك. ثم جاء ابن لادن والظواهري ورفعا نفس الشعارات ضمن حملتهما في المتاجرة بقضية فلسطين ورفع قميص فلسطين والتخوين به. فكرر الظواهري في كتابه «التبرئة» استنكاره للاعتراف بإسرائيل والصلح معها، وأن هذا مما يصل إلى الإخلال بالعقيدة. أما ابن لادن فقد أصدر في 30/12/1994 «رسالة مفتوحة إلى ابن باز ببطلان فتواه بالصلح مع اليهود»، وذكر ابن لادن أن إسرائيل ليست من دول الكفر المستقرة التي يجوز الصلح معها، إنما هي عدو صائل، أي محتل لبلاد المسلمين. وقد أردت هنا توضيح ما يلي للمسلمين:

أولاً: أما مسألة الاعتراف بالآخر أو عدمه: فهذه بدعة أميركية أول من قال بها هو الرئيس الأميركي الأسبق مونرو عام 1821، وكان هذا بعد استقلال أميركا عن بريطانيا في 1776، وأرادت أميركا نهج السلوك الاستعماري كأمها بريطانيا بالتدخل في شؤوون الدول الأخرى، فاخترعوا بدعة الاعتراف لمعاقبة من لا يرضون عنه، انظر «التاريخ السياسي الحديث» د. فايز أبو جابر، (طباعة دار البشير بالأردن). فابن لادن والظواهري متبعان للبدعة الأميركية، أما في دين الإسلام، فلا وجود لهذه البدعة في كتب الفقه بأجمعها. هل عندما صالح النبي صلى الله عليه وسلم كفار مكة في الحديبية، أو عندما أراد ذلك مع كفار غطفان المحاصرين للمدينة في غزوة الأحزاب هل كان هذا اعترافا منه بكفرهم أو بشرعيتهم؟ الإسلام يتعامل مع الأمر الواقع أما بدعة الاعتراف والشرعية، فهي من جهالات ابن لادن والظواهري، بل قد ورد في الشريعة عكس ما يظنون، وهي مسألة «استيلاء الكفار» واختلف الفقهاء فيها: هل يتملك الكفار ما استولوا عليه من المسلمين أم لا؟ وفي المسألة قول النبي صلى الله عليه وسلم «وهل ترك لنا عقيل من دار».

ثانيًا: أما الصلح فجائز مع كل كافر أو مرتد كما نقلته عن محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله في «الوثيقة»، بحسب مصلحة المسلمين، ولا يوجد في الشريعة ما يبيح ذلك مع الكافر في بلده ويمنعه مع الكافر المحتل لبلد المسلمين. فنصوص الصلح مطلقة. ألم يطلب ابن لادن الهدنة من أميركا وهي محتلة لأفغانستان والعراق؟ وألم يعرض الظواهري التفاوض معها؟ فلماذا يبيحان لأنفسهما ما يفتيان ببطلانه؟ لا يوجد في الشريعة ما يمنع الصلح مع أي كافر أو مرتد بحسب حاجة المسلمين، والعبرة بشرعية من يتفاوض معهم. لقد ظل نصارى أوروبا محتلين لفلسطين وكل ساحل الشام نحو مائتي سنة، وكان صلاح الدين الأيوبي يحاربهم تارة ويصالحهم أخرى، ولم يسترد صلاح الدين بيت المقدس منهم إلا صلحًا، بعدما احتلوه لمدة 92 سنة، وذلك عام 583هـ بعد انتصاره عليهم في موقعة حطين، وسمح لهم صلاح الدين أن يخرجوا من القدس إلى مأمنهم في مدينة صور بساحل الشام، وعقد معهم صلحًا في أعوام 571 و576 و582هـ، ذكر هذا ابن كثير، الذي قال «إن صلاح الدين كان لا يقطع أمرًا إلا بعد استشارته للقاضي الفاضل» (البداية والنهاية). وقد أردت توضيح هذه الأمور لقطع الطريق على المتاجرين بقميص فلسطين. قال الشاعر: «وكلٌ يدعى وَصْلاً بليلى.. وليلى لا تُقر لهم بذاكا»، وليست فلسطين هي «أم القضايا الإسلامية» كما زعم ابن لادن، فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم مكة ومسجدها وهاجر منها من أجل الدين، وهي خير من فلسطين آلاف المرات، بحسب ثواب الصلاة في مسجديهما.

ومن مشاغبات الظواهري تباكيه على إخوانه المسجونين بمصر:

من باب تشويه «الوثيقة» وكاتبها تباكي الظواهري على بعض إخوانه المسجونين بمصر من المعترضين على «الوثيقة» ووصفهم بأنهم «الأغلبية المسحوقة داخل السجون» وأنهم «الفئة الثابتة الصامدة القابضة على الجمر» وكرر هذا الكلام في كتابه.

وهنا أوضح بعض الحقائق للقارئ الذي يريد الظواهري أن يستخف عقله: هل هؤلاء المعترضون كانوا بالسجن قبل «الوثيقة» أم سُجنوا بعدها؟ بل قبلها. من الذي تسبب في سجن هؤلاء؟ إنه أيمن الظواهري، فقد نهيتهم عن الصدام بمصر منذ 1992، وهو الذي أصر لمجرد تقليد الجماعة الإسلامية وليس جهادًا في سبيل الله، بل لمجرد السمعة والرياء والدعاية أي للشرك بالله، ففي الأثر «إن يسير الرياء من الشرك». وقد سمعتها منهم «إن الناس يعيروننا أن الجماعة الإسلامية تشتغل في مصر ونحن لا». ولجأ الظواهري إلى أن يكون مرتزقًا للمخابرات السودانية، التي باع لها إخوانه ودماءهم، ففي الوقت الذي كان فيه ستة رجال في طريقهم إلى المشنقة في مصرـ بسبب محاولة اغتيال رئيس الوزراء عاطف صدقي آخر 1993م ـ كان الظواهري في نفس الوقت يحكي نكات «أبو لمعة» المضحكة لأصحابه في الأمن السوداني. فلماذا يتباكى على إخوانه اليوم بعد «الوثيقة» وقد نسيهم ونفض يده منهم منذ أن صار تابعًا لابن لادن، ومُبررًا لأفكاره منذ 1998م؟

ثم إن الظواهري يحرض هؤلاء على البقاء في السجون بخلاف أمر النبي صلى الله عليه وسلم «فكوا العاني» رواه البخاري، أي اسعوا في إطلاق الأسرى، ولكن الظواهري كعادته في معاندة الكتاب والسنة ـ كما سبقت الأمثلة ـ يرفض «فكوا العاني» ويقول لهم «ليصبر العاني»، كما أمر الله بالبدء بقتال العدو القريب، والظواهري يقول: لا، بل العدو البعيد أولاً.

ثم إن الظواهري لم يطبق الأمر بالصبر على السجن على نفسه، ففي عام 1996 كان يتحرك في منطقة داغستان جنوب روسيا، واعتقل هناك، فأرسل يطلب من إخوانه مبلغًا، فأرسلوا له آلاف الدولارات دفعها رشوة فأطلقوه، وهذا المبلغ كان يكفي لإعاشة العشرات من عائلات إخوانه المسجونين في مصر، ولكنه لم يهتم بهم لا من قبل ولا من بعد، ولم يرسل إليهم دولارًا واحدًا ولم يصبر على السجن في داغستان، بل سارع في فك نفسه.

وكذلك كان يفعل عندما كنا في باكستان أيام الجهاد الأفغاني ضد الشيوعية، كان الظواهري ينفق أموالاً طائلة من أموال الجهاد على تأمين نفسه، فينتقل من بيت إلى آخر، ومن حي إلى آخر ومن مدينة إلى أخرى، ويدفع أموالاً طائلة مقدمات إيجار ويتركها، وبدون وجود خطر حقيقي أو مطاردة، وكان كثير من الإخوة يحملون جوازات سفر مزورة لخوفهم من الذهاب للسفارة المصرية في باكستان لتجديد الجواز، أما الظواهري فرفض أن يتحرك بجواز مزور، وعلم أن السفارة المصرية في أميركا تجدد الجوازات بالبريد، فسافر من باكستان لأميركا بأموال الجهاد لتجديد جوازه، تقريبًا عام 1990. وهكذا يتم إنفاق أموال الجهاد على تأمين سلامته الشخصية، وليصبر الإخوة في السجون.

وهذه الأيام أرسل الظواهري رسالة استغاثة لجمع التبرعات من السعودية، قال فيها «إن حامل هذه الرسالة من الإخوة الموثقين لدينا، فبرجاء تحميله ما تتبرعون به من أموال لمئات من أسر الأسرى فك الله أسرهم، والشهداء رحمهم الله في باكستان وأفغانستان». وماذا عن أسر إخوانه الأسرى والقتلى في مصر؟ وماذا عن ضحاياه في مصر؟

الظواهري متخصص في صنع الكوارث ثم استثمارها، دفع إخوانه إلى الصدام مع الحكومة في مصر ولم يقبل هذا على نفسه، بل هرب من السودان عام 1995 ولم يتوقف إلا في أفغانستان، ولا يريد أن يخرج إخوانه من السجون بل ما زال يحرض على العمليات في مصر لتبقى لديه مادة دعاية يستثمرها إعلاميًا وفي جمع التبرعات وربما لتكون لديه ورقة للتفاوض مع مصر مستقبلاً. فلماذا يتباكى على إخوانه الآن وهو الذي صنع مأساتهم ويريد أن يلصقها بالوثيقة؟

وبقدر ما أدخل الظواهري الناس إلى السجون والقبور، بقدر ما أسهمت «الوثيقة» في إخراج المئات من السجون، أما المعترضون فقد ذكرت أحوالهم، ومنهم من خرج من السجن، ومنهم من كان يجمع موافقات أصحابه على ذلك من قبل، ومنهم من كان الظواهري نفسه يرسل رسائل تحذير منهم إلى الإخوة المسؤوولين عنهم بمصر عند عودتهم من التدريب العسكري في باكستان، ومنهم من أبدى استعداده على الموافقة في السر. وهم ليسوا أغلبية بل نفر يسير، ولم يُضيق عليهم بل تمت التوسعة على الجميع، ومن ينقل إليه الأخبار فقد غشه، ولو كان صادقًا فليذكر أسماء الأغلبية المعترضة، وبكل أسف فإن بعض الإخوة يكذبون.

ثم إن هؤلاء الذي يتباكى عليهم الظواهري هم شركاؤه في خيانة الأمانة، وقد سكتوا عنه لما باعهم للمخابرات السودانية ودفعهم إلى المشانق والسجون في مصر من أجل شهرته، في الوقت الذي قتلوا فيه صبيًا اتهموه بالتعاون مع المخابرات المصرية ضدهم، ولم يوفروا له أدنى ضمانات المحاكمة الشرعية الصحيحة، ومنها حيادية القاضي، ومنها الوكيل الشرعي الذي يدافع عنه، لكون الصبي دون سن الرشد. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «إنما أهلك الذين من قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد» الحديث متفق عليه، هكذا كانوا يعملون بما يُسخط الله وهم مستضعفون لا يبالون بأحكام الشريعة التي ينادون بتطبيقها، فكيف سيفعلون إذا تمكنوا من حكم دولة؟

حقيقة الخلاف بيني وبين المعترضين «الموافقين في السر» هو الفرق بين التصرف من منطلق شرعي أو سياسي، فقد كانوا يسعون منذ عام 2003 فيما قمت به عام 2007، ففي عام 2003 قام كبيرهم بالمرور على الإخوة في السجون وجمع موافقاتهم على عدم الصدام مع الحكومة التي كان يريد أن يقدم لها هذه الموافقات ضمن صفقة سياسية «أعطوني كذا وأعطيكم كذا» وظل كبيرهم هذا يتلكأ، فقال له أحد إخوانه لماذا التأخير؟ فقال له «إنه منتظر أن ينفذ أيمن الظواهري عمليتين أو ثلاثة في مصر تحُسّن موقفه في التفاوض مع السلطات في مصر». حدث هذا قبل وصولي إلى مصر في 2004. ولم تحدث العمليات، وجئت إلى مصر، وكتبت «الوثيقة» من منطلق شرعي فقد وجدت جماعة الجهاد ثم «القاعدة» يستخدمون كتبي في تجنيد أتباعهم، في حين كنت معترضًا عليهم وانتقدتهم منذ 1993، فكتبت «الوثيقة» لأذكر رأيي في أعمالهم من باب المسؤوولية الشرعية بدون صفقات سياسية ولا شروط مع السلطات، والتقيت قادة من اعترضوا ولم أجد لديهم حجة شرعية تمنع من كتابة «الوثيقة» كما ذكرته في التنبيه الثالث بآخرها. ولما بدأت أعرض «الوثيقة» على الإخوة في السجون اعترضوا وشاغبوا لسببين:

الأول: أن الذي اعتمدوا على كتبه في تجنيد أتباعهم هو الذي ينتقد أعمالهم.

والثاني: أن ظهور «الوثيقة» أفقدهم الورقة السياسية التي كانوا يريدون أن يتفاوضوا بها مع الحكومة، فقد ظهرت الوثيقة بدون صفقة، فلم تبق لديهم ورقة مع السلطات إلا الرفض والاعتراض للمساومة بهما، وقالها لي أحدهم صراحة في 2/2007، قال لي «لم يبق معنا شيء مع السلطات إلا معاندتها»، وفي نفس الوقت قال لي أحد قدامي الإخوة عن المعارضين ـ وأمام شهود ـ «هؤلاء لا يهتمون بالأمور الشرعية، وإنما يفكرون بطريقة المساومات السياسية»، فهُم مازالوا يتصرفون بطريقة الصفقة السياسية واعتراضهم جزء منها.

* الحلقة التاسعة: دور الظواهري في تدمير دولة طالبان وجماعة الجهاد