الفرات ينحسر في جنوب العراق دافعا بالفلاحين نحو المدن وتاركا الصيادين بلا صيد

حتى المشايخ وأعضاء البرلمان الذين يهربون إلى مزارعهم بعد أسابيع من العمل في بغداد يعانون

امرأة تجمع الملح على ضفاف الفرات جنوب العراق («نيويورك تايمز»)
TT

يقف جامعو القصب بين المستنقعات حاليا على أرض كانوا قبل ذلك يطفون فوقها، وهم يحملون مناجلهم الصدئة وينادون على الزائرين في القوارب العابرة «لا توجد مياه!» وذلك لأن نهر الفرات قد يجف، متأثرا بسياسات الدول المجاورة للعراق ـ تركيا وسورية ـ المتعلقة بالمياه، وبالجفاف الذي عانى منه لمدة عامين، وبالسنين الطويلة التي أساء فيها المزارعون العراقيون استخدام النهر، حتى تقلص حجم نهر الفرات وأصبح أصغر بكثير مما كان عليه قبل عدة سنوات فقط؛ وهو ما جعل بعض المسؤولين يتخوفون من أن نهر الفرات سيصل سريعا إلى نصف ما هو عليه الآن.

وقد تسبب انحسار نهر الفرات ـ وهو نهر لعب دورا محوريا في ميلاد الحضارة، حتى إن سفر «رؤيا يوحنا» قد اعتبر جفافه من علامات القيامة ـ في إتلاف المزارع على طول ضفتيه وترك الصيادين في حال من الضيم واستنفاد المدن الواقعة على ضفافه نظرا لهجرة الفلاحين إلى المدن بحثا عن عمل.

وعلى الرغم من أن الفقراء هم أكثر من يعاني من ذلك التدهور، فإن كل فئات المجتمع قد تأثرت كذلك: المشايخ، الدبلوماسيون، وحتى أعضاء البرلمان الذين يهربون إلى مزارعهم بعد أسابيع من العمل في بغداد. وقد تحولت حقول الأرز والقمح على ضفتي النهر إلى تراب، بينما تحولت القنوات المائية إلى مستنقعات ضحلة، واستقرت مراكب الصيد على أرض جافة، وتدلت مضخات المياه التي يفترض أن تزود مصانع معالجة المياه بلا هدف على برك بنية. ويقول سيد ضياء، 34 عاما، صائد السمك في منطقة «الهندية» وهو جالس على مقهى على ضفة النهر يعج بزملائه العاطلين عن العمل: «إن العجائز هنا يقولون إنه أسوأ جفاف يستطيعون تذكره، ولكني أعتمد على بركة الله».

لقد امتد نطاق الجفاف في العراق حتى إن المنطقة المزروعة بالقمح والشعير في مناطق الشمال التي تروى بالأمطار قد تقلصت بنسبة 95% عن المعتاد، بينما تعاني المناطق الشرقية المزروعة بنخيل التمر وبساتين الموالح من العطش، وذلك حيث إن معدلات تساقط الأمطار قد انخفضت بشدة عن المعدلات المعتادة منذ نحو العامين، وهو ما قضى على المخزون الاحتياطي. ويتوقع المسؤولون الأميركيون أن يتجاوز محصول القمح والشعير بقليل نصف المحصول الذي كان يعطيه قبل عامين.

وتهدد تلك الكارثة جذور الهوية العراقية، ليس فقط باعتبار العراق أرضا تقع بين نهرين، ولكن كدولة كانت قبل ذلك من أكبر الدول المصدرة للتمور في العالم، وهي الدولة التي كانت تزود ألمانيا قبل ذلك بالشعير، التي تفتخر بأرز العنبر باهظ الثمن الذي تزرعه في أراضيها.

أما الآن، فقد أصبح العراق يستورد المزيد والمزيد من الحبوب، ويقول المزارعون على طول شاطئ النهر بغضب ويأس إنهم ربما يتخلون عن زراعة أرز العنبر ويزرعون أنواعا أرخص.

ولم يكن تعرض البلاد للجفاف أمرا نادرا في العراق، ولكن المسؤولون يؤكدون أنه أصبح أكثر تواترا في السنوات الأخيرة.

ولكن الجفاف هو واحد فقط من أسباب تقلص نهر الفرات وتوأمه الأكبر والأكثر صحة نهر دجلة؛ ويقع اللوم في تلك القضية على عاتق الحكومتين السورية والتركية، وذلك أنه على الرغم من أن للعراق حصة وفيرة من المياه، فإنه يقع باتجاه تيار المياه. ووفقا لمسؤولي المياه العراقيين، فإنه يوجد نحو سبعة سدود على الأقل على نهر الفرات في تركيا وسورية، كما أن حصة العراق من المياه قد تم تخفيضها من دون توقيع أية معاهدات أو اتفاقيات، حتى أصبح العراق يتسول المياه من جيرانه.

وكان المشاركون في مؤتمر يتناول أزمة المياه في بغداد يتحدثون حول الأزمة وهم يشربون زجاجات المياه المعبأة الآتية من السعودية التي لديها نسبة ضئيلة مما تمتلكه العراق من المياه العذبة. ويقول علي بابان وزير التخطيط: «لدينا عطش حقيقي في العراق، سوف تنتهي زراعتنا، وسوف تذبل مدننا، ولا يستطيع أي بلد أن يصمت حيال مثل ذلك الموقف». وقد أعلنت وزارة المياه مؤخرا أن تركيا قد ضاعفت تدفق المياه في نهر الفرات لإنقاذ موسم الأرز في بعض المناطق؛ وقد زادت تلك الخطوة تدفق المياه بنسبة تصل إلى 60% في المتوسط وهو ما يكفي فقط لتغطية نصف متطلبات عملية الري لموسم الأرز في الصيف.

وعلى الرغم من أن تركيا قد وافقت على الحفاظ على ذلك المعدل لتدفق المياه بل وحتى على زيادته،فإنه لا يوجد أي اتفاق يلزم الدولة بأن تفعل ذلك.

وعلى الرغم من أن هناك بعض العلامات المتزايدة على وجود بعض التحسن في نهر الفرات، فإن الغضب حول أزمة المياه في العراق يمكن أن يصبح مصدرا للتوتر لأشهر وربما لسنوات قادمة بين العراق والدول المجاورة له. ويقول كثير من المسؤولين الأميركيين والأتراك بل وحتى العراقيين ـ الذين لا يأبهون للاتهامات الموجهة لهم في ظل خطابهم قبل عام من الانتخابات ـ إن المشكلة الحقيقية تكمن في سياسات العراق المزرية لإدارة المياه.

ويقول عبد الرضا جودة، 40 عاما، وهو جالس في سقيفته بحقل القصب في بقعة أرض جافة وصخرية خارج كربلاء: «كان من المعتاد أن نجد مياه في كل مكان». لقد نشأ جودة الذي يصف الظروف السيئة التي يمر بها بابتسامة متعبة بالقرب من البصرة ولكنه هاجر إلى بغداد عندما قام صدام حسين بتجفيف الأهوار الكبرى جنوبي العراق ردا على انتفاضة الشيعة في عام 1991، وقد أتى إلى كربلاء في عام 2004 لاصطياد السمك ولتربية الجاموس في الأراضي الضحلة المورقة التي كانت تذكره بموطنه، ويضيف جودة: «لقد تحولت الأرض هذا العام إلى صحراء». وعلى طوال ضفتي النهر، توجد حالة من الغضب ضد الأتراك والسوريين، كما توجد كذلك حالة غضب من الأميركيين والأكراد والإيرانيين والحكومة العراقية الذين يقع عليهم جميعها اللوم؛ فالندرة تجعل من الجميع أعداء. ويقول جودة إنه قد لاحظ أن المناطق السنية الواقعة شمالا تتمتع على ما يبدو بما يكفيها من المياه، وهو تعليق محمل بالعديد من المعاني الضمنية.

ويقول المسؤولون إنه لا يوجد شيء يمكن أن يحسن وضع العراق ما لم يتعامل بجدية مع سياساته المتعلقة بالمياه، وإدارة تدفقها؛ وذلك حيث يتسبب تسريب القنوات للمياه، وممارسات الري الخاطئة في إهدار المياه، كما تترك المصارف السيئة الحقول شديدة الملوحة نظرا لتبخر المياه، حتى إن النساء والأطفال يستخرجون أكواما بيضاء هائلة من البرك الراكدة التي تتشكل من تساقط الأمطار.

وفي أحد الصباحات الساخنة في الديوانية، كانت سيدة تجمع الملح من أحد المصارف على مقربة من الطريق السريع الذي أصبح المصدر الوحيد لدخل عائلتها حاليا بعد أن أصيبت مزارع الأرز بالجفاف. ولكن جفاف المزرعة ليس هو الأزمة الحقيقية. قالت وهي تشير إلى قناة تتدفق من نهر الفرات: «لا توجد مياه في النهر الذي نشرب منه، لقد جف الآن تماما، وأصبح يحتوى على مياه البالوعات. وهم يحفرون في بعض الأحيان الآبار ولكن المياه تنضب، ويصبح علينا أن نشرب من مياه النهر، مما تسبب في أن يصاب معظم أطفالي بالأمراض».

وفي الجنوب الشرقي، حيث يقترب نهر الفرات من نهاية رحلته التي يبلغ طولها 1730 ميلا ويلتقي مع المياه الأقل ملوحة لنهر دجلة قبل أن يصب في الخليج العربي، فإن الموقف أكثر خطورة؛ حيث تتم إزالة الأهوار التي كانت قد أعيد غمرها بالمياه في عام 2003 عمدا لإنقاذ منطقة الأهوار العربية العتيقة، كما أصبحت الأغنام ترعى في مساحات من الأرض بوسط النهر. وما زال المزارعون وجامعو القصب ومربو الجاموس يعملون، إلا أنهم يقولون إنهم لن يستطيعوا الاستمرار إذا استمرت حال المياه كما هي عليه.

ويقول هاشم الشيحي، 73 عاما، المزارع الذي يعيش في قرية ترزح تحت وطأة الجفاف غربي الأهوار: «إن الشتاء القادم هو فرصتنا الأخيرة، فإذا لم نتمكن من الزراعة، فسوف ترحل جميع العائلات من هنا».

* خدمة: «نيويورك تايمز»