شارع «فليت ستريت» الأسطوري في لندن يطوي حقبة في ذاكرة الصحافة

بعد 300 سنة من اقترانه بالسلطة الرابعة يتحول إلى شارع يعج بالمؤسسات المالية والمقاهي

يحتوي الشارع هذه الأيام على عدة فروع لكل من المقاهي الشهيرة مثل «ستارباكس» و«كافيه نيرو» و«كافيه ريبابليك» و«إيت» وغيرها (أ. ف. ب)
TT

ما زال الكلام عن الصحافة البريطانية أو ما تقوم به السلطة الرابعة يُرمز إليه بشارع «فليت ستريت». وعند الإشارة إلى فضيحة نشرتها صحيفة ما، أو كانت هي محورها، يشار دائما في الكلام في بريطانيا إلى هذا الشارع الذي يرجع تاريخه إلى مئات السنين.

شهد شارع فليت ستريت اللندني الذائع الصيت الذي واكب ثلاثة قرون من تاريخ الصحافة رحيل آخر مكتب تحرير دولي، مع انتقال وكالة «فرانس برس» إلى مكاتبها الجديدة في وسط العاصمة البريطانية صباح أمس الأحد.

وقد وجد الصحافيون ضالتهم في هذا الشارع الذي كان يقدم لهم كل ما يحتاجون إليه لممارسة عملهم وتلقط الأخبار بعضهم من بعض. المكان لا يتعدى طوله نصف ميل، لكنه يبقى قريبا من المحاكم ومؤسسات المحاماة المنتشرة بيوتها على يساره ويمينه ومبنى البرلمان. كما أنه يحتوي على واحدة من أقدم حانات لندن، وكنيسة «سانت برايد» الشهيرة بدوائرها التي تمثل كعكة الزواج. وهذه شهدت على زواج وتأبين العديد من رجال الصحافة على مر السنين، وكان آخر من أقيم حفل تأبينه السير كلمنت فرويد، الصحافي عضو مجلس العموم من حزب الديمقراطيين الأحرار.

ويصل هذا الشارع شارع ستراند في وستمنستر سيتي بكاتدرائية سانت بول، وقد أصبح الشارع المفضل للمصارف ومكاتب المحاماة لكنه لم يعد يحوي اليوم سوى على مكتب ناشر إقليمي لصحف كورسيكية. وحتى ثلاثين عاما، كان الشارع يعج بمكاتب الصحف البريطانية ووكالة «رويترز» إلى جانب وكالة «فرانس برس»، بحيث لا يبعد بينها سوى بضع مئات أمتار تفصلها حانات شهيرة ارتادها رجال صحافة معروفون فباتت وكأنها ملحقة بمكاتب التحرير.

وبدأت حركة النزوح من الشارع حين قرر صاحب إمبراطورية النشر الشهير روبرت مردوخ في 1986 نقل أربع من الصحف الواسعة الانتشار التي يملكها (التايمز، الصن، صنداي تايمز، نيوز أوف ذي وورلد) خلال عطلة نهاية أسبوع إلى وابينغ شرق لندن بهدف تجاوز إضراب مديد لنقابة ناشري الكتب.

وفي المحصلة، أدى تطور تكنولوجيا النشر الصحافي إلى بعثرة مقار بعض الصحف ووسائل الإعلام من منطقة كناري وارف إلى الشرق في وابينغ حيث مقر رويترز»، وإلى حي فيكتوريا الرئيسي حيث مقر «ديلي تلغراف»، أو باتجاه الغرب إلى كينسنغتون هاي ستريت حيث مجموعة «ديلي مايل» و«إندبندنت». أما صحيفة «الغارديان» وشقيقتها «الأوبزرفر» فقد انتقلا أخيرا إلى بناية قريبا من سانت بانكرز في شمال لندن، حيث المحطة الرئيسية للقطارات السريعة المتجه إلى أوروبا. وقد صار اسم شارع فليت ستريت مرادفا للصحافة في اللغة الإنجليزية حيث أسس فيه رجل من منطقة الإلزاس مطبعة منذ عام 1500.

وتعود شهرة هذا الشارع أيضا إلى مبانيه ذات الطراز المعماري الجريء مثل مبنى «ديلي إكسبريس» «لوبيانكا نوار» ومقر «ديلي تلغراف» ذي التصميم الحديث «بيتر بورو كورت» الذي أصبح مقرا للمصرف التجاري «غولدمان ساكس». كما اتخذ المصرف النيويوركي «جي بي مورغان» من المطبعة القديمة لـ«ديلي ميرور» مقرا له.

وترتبط شهرة هذا الشارع أيضا في الذاكرة الجماعية بمرتاديه الليليين من الرجال الذين كانوا يتنقلون من حانة إلى أخرى فيه. وقال مرتاد سابق إن الشارع كان يتيح لمن يحث الخطى الإفلات من زخات المطر.

وكانت حانة «إل فينو» تمنع دخول النساء ما لم يرتدين «التنانير»، فيما لا تزال حانة «يي أولد شيشير تشيز» التي كان يرتادها الروائي ديكنز تعلق لافتة لم يمحُ الزمن حروفها تقول بأن الحانة لا تقدم الخمر سوى للرجال. ويقال إن اجتماعات تحرير كانت تُعقد داخلها. ويأسف أحد زبائن «إل فينو» القلائل من غير السياح على تلك الفترة، متذكرا أنه في ذلك الوقت لم يكن الصحافيون يمارسون رياضة الركض في ساعة الغداء.

وانتقل شارع فليت ستريت على مر الأعوام من إيقاع المطابع إلى روتين قاعات أسواق المال، ومن صراخ بائعي الجرائد إلى طوابير الانتظار الطويلة لشراء قهوة الإسبرسو أو الكابوتشينو.

وإذا زرت الشارع هذه الأيام تجده مزدحما بالمقاهي التي احتلت الدكاكين التقليدية والتي كانت تقدم خدمات مساعدة مرتبطة بالصحافة والإعلام. وحتى محلات الساندويتشات التقليدية، التي كانت تقدم للصحافيين وعمال المطابع وغيرهم الوجبات التقليدية من الفطور الإنجليزي، فقد اختفت من المكان هي الأخرى. وأصبح هناك المقاهي الحديثة مثل «ستاربك» الذي له عدد من الفروع في الشارع وكذلك الحال بالمقاهي المشابهة مثل «كافيه نيرو» و«كافيه ريبابليك» و«إيت» وغيرها وهذه افتتحت لنفسها أكثر من فرع في المكان، وكلها مقاهٍ حديثة تتماشى بديكورها وما تقدمه من مأكولات مع المؤسسات المالية التي احتلت الشارع. وتبقى كنيسة «سانت برايد» في شارع فليت ستريت الشاهد الأخير على هذه الحقبة الصحافية، لتتحول إلى رمز، لأنها تواصل رثاء شهداء الصحافة في العالم.

إلى شمال مذبح الكنيسة، أسماء 18 صحافيا هم ضحايا حرب العراق من الإعلاميين البريطانيين. ويضيء نور الشموع صور الصحافيين المفقودين حديثا أو المعتقلين منهم. وأصبحت الكنيسة مكانا مُهدًى «إلى كل الذين يعرضون أنفسهم للخطر والملاحقات والموت في أثناء بحثهم عن الحقيقة بواسطة الكلمة أو الصورة». واليوم الأحد، في السادس والعشرين من يوليو (تموز)، استقرت وكالة «فرانس برس» في قاعة تحرير متعددة الوسائط في الطبقة الخامسة والعشرين من «سنتر بوينت»، وهو برج أصبح وفق «فايننشال تايمز»، أحد مباني لندن الرمزية، عند تقاطع «سوهو» و««كوفنت غاردن» و«بلومسبوري».

ومع آخر خبر بثته وكالة «فرانس برس» إلى العالم من هذا الشريان الأسطوري ليل السبت ـ الأحد، طُويت حقبة من ذاكرة الصحافة في شارع فليت ستريت.