إيران: 30 عاما على الثورة ـ الحلقة (1): سهولة الطريق للثورة.. ووعورة الطريق للدولة

إيران تدخل العقد الثالث من ثورتها.. وتتذكر «الأيام الأولى» التي صاغت شكل الدولة الإيرانية

TT

لا يقيس الإيرانيون الزمن.. بالساعات والأيام والشهور والسنين، بل بالعقود والقرون.. ففي بلد يعود تاريخه إلى ألفي عام أو أكثر، لا يعني مرور 30 عاما شيئا من الناحية التاريخية. وبالتالي يشعر بعض الإيرانيين بعدم الإنصاف حيال محاولات تقييم الثورة الإيرانية في ذكرى مرور 30 عاما على قيامها، ففي رأيهم «الثورة ما زالت في أيامها الأولى» وما سيترتب عليها للإيرانيين والمنطقة والعالم لم يتبلور كليا بعد. لكن الوقوف أمام الثورة الإيرانية حتمي، فالثورة غيرت الكثير في إيران. يكفي اليوم أن الإيرانيين لا يحتفلون إلا بنوعين من الأعياد. الأعياد الوطنية، والدينية الإيرانية التي يعود تاريخها لنحو ألف عام أو أكثر (مثل الاحتفالات برأس السنة الفارسية أو عيد النوروز، وعيدي الفطر والأضحى، والتاسع والعاشر من محرم ذكري مقتل الإمام الحسين بن على، أو عاشوراء)، والأعياد المرتبطة بقيام الثورة الإيرانية (مثل ذكرى انتصار الثورة الإيرانية، وذكرى اختيار النظام الجمهوري الإسلامي).. وما بين ذلك كأنه لم يوجد. غير أن تأثيرات الثورة الإيرانية تتجاوز «رمزية» الأعياد التي يتم الاحتفال بها إلى كل شيء تقريبا؛ من طبيعة النظام السياسي وشكل الدولة، إلى الحريات في الشارع.. من علاقة طهران بحوزة قم إلى علاقة البازار بصناعة القرار السياسي والنخبة الإيرانية الجديدة. وفي هذه الحلقات تقدم «الشرق الأوسط»، من خلال مقابلات مع مسؤولين حاليين وسابقين، ومفكرين وشهود عيان من إيران ولبنان والعراق وأميركا، شهادات حول الظروف التي قادت للثورة، والخلافات التي نشبت بين أطيافها المختلفة، وكيف أثرت هذه «الولادة المتعثرة» لدولة الثورة على طبيعة الدولة الإيرانية اليوم.. ومستقبلها. توفي آية الله الخميني يوم السبت 3 يونيو عام 1989 عن 87 عاما وتسعة أشهر. وفي مبني البرلمان الإيراني لم يقرأ أحمد الخميني وصية والده، بل قرأها «الولي الفقيه الجديد» آية الله علي خامنئي، الذي كان حجة الإسلام، وتم رفعه لمرتبة آية الله لشغل منصب المرشد الأعلى وقائد الدولة بعد الخميني. كانت هناك صورة كبيرة للخميني موضوعة على المنصة التي كان خامنئي يقرأ منها، وفوق الصورة شريط حداد أسود كبير، ولافتة سوداء مكتوب عليها «إنا لله وإنا إليه راجعون» باللغة العربية، فيما تناثرت الأزهار الملونة حول الصورة. قرأ خامنئي وصية الخميني الأخيرة وهى: «بفؤاد هادئ، وقلب مطمئن، وروح مسرورة، وضمير أمل بفضل الله، أستأذن الأخوات والأخوة وأسافر نحو المقر الأبدي، وإني في حاجة مبرمة إلى دعائكم بالخير. وأسأل الله الرحمن الرحيم أن يقبل عذري في نقص الخدمة، والقصور، والتقصير. وآمل من الشعب أن يتقبل عذري في النقائص والقصور والتقصيرات. وأن يمضوا قدما بقوة وتصميم وإرادة ليعلموا أن ذهاب خادمهم لا يجب أن يؤدي إلى خلل في مناعة الشعب الحديدية، فإن خداما أفضل يخدمون الآن. والله حافظ هذا الشعب ومظلومي العالم. والسلام عليكم عباد الله الصالحين». خلال قراءة خامنئي للوصية توقف 3 مرات باكيا غير قادر على مواصلة القراءة، أما هاشمي رفسنجاني فكان وجهه مغطي بكفى يديه ومنديل. لم يكن من السهل رؤية ملامح وجهه. جاءت وفاة الخميني بعد نحو 10 أعوام من الثورة الإيرانية عام 1979، التي وصفت بأنها ثالث أبرز الثورات في التاريخ الحديث بعد الثورة الفرنسية عام 1789 (أول ثورة ليبرالية) والثورة البلشفية في روسيا عام 1917 (أول ثورة شيوعية في القرن العشرين)، ثم الثورة الإيرانية11 فبراير 1979. فوجئت قيادات الثورة الإيرانية من التيارات الإسلامية والوطنية واليسارية والقومية بـ«سلاسة الطريق» للثورة، مع تحرك الشارع الإيراني بالملايين لدعمها، إلا أنهم فوجئوا أيضا بـ«وعورة الطريق» للدولة. ففي الأيام والأشهر الأولى بعد نجاح الثورة الإيرانية شهدت إيران حربا تشبه «حرب الشوارع» بين أنصار التيار الديني من الشباب المعممين وأنصار التيارين الليبرالي واليساري من الشباب الذين يضعون في غرفهم صور شي جيفارا وشعار الاتحاد السوفياتي السابق «المطرقة والسندان». قتل خلال «حرب الشوارع» هذه عدد كبير جدا من عناصر الثورة، ونحو 70% من قيادات الحلقة الضيقة التي كانت تحيط بالخميني من تلاميذه ومرافقيه عندما كان منفيا في تركيا أو العراق أو فرنسا. «مرارة» تلك الأيام لا تزال حاضرة حتى اليوم، و«الشكوك» التي زرعتها بين أطياف الثورة الإيرانية ما زالت أيضا حاضرة وماثلة. ويقول إبراهيم يزدي وزير الخارجية الإيراني في حكومة مهدي بازوكان رئيس وزراء أول حكومة بعد نجاح الثورة لـ«الشرق الأوسط» إن المشكلة كانت أن كل القوى كانت متفقة على هدف التخلص من الشاه، لكنها كانت مختلفة على كل شيء بعد ذلك، على نوع الدولة وعلى دستورها وعلى قوانينها الحاكمة وعلاقاتها الخارجية. ويوضح يزدي لـ«الشرق الأوسط»: «أثناء الثورة، كانت جميع الأحزاب والفصائل السياسية، اليمينية أو اليسارية، الدينية أو غير الدينية، متفقة على ما لا تريده، وهو: أن الشاه يجب أن يغادر، وأنه تجب الإطاحة بنظام حكم الشاه الاستبدادي.. ولكن لم يكن هناك مثل هذا الإجماع في مواقفهم المتعلقة بالبديل الذي سيحل مكان نظام الشاه. ولهذا، بدأ الخلاف على الفور بعد الثورة.. كان رئيس الوزراء بازركان وزملاؤه في مجلس الوزراء يعتقدون أن المرحلة المدمرة أو السلبية في الثورة انتهت، وأنه يجب البدء في مرحلة البناء أو المرحلة الإيجابية. ولكن في المرحلة الثانية من الثورة، كانت أهدافها الإيجابية أصعب في تحقيقها. وكانت تحتاج إلى الكثير من التخطيط، ولم يكن ممكنا تحقيقها بسرعة، وكان تنفيذها يحتاج إلى نظام. ولكن كان المناخ السياسي فيما بعد الثورة مشتعلا بشدة، وكان صوت العقل والمنطق غائبا». هذه الاختلافات بين الجناح الديني من الثورة الإيرانية والجناح الليبرالي واليساري، والتي تحولت إلى مواجهات ثم إلى صراعات، وأدت إلى تهميش التيار الليبرالي والوطني الذي كان قطبا فاعلا في الثورة، أثرت على الطريقة التي تكونت بها «دولة الثورة» منذ ذلك الحين وحتى اليوم. ورمزيا فقط تكفي الإشارة إلى أنه حتى اليوم لا يوجد في إيران شارع باسم «محمد مصدق» زعيم الجبهة الوطنية الإيرانية، والأب الروحي للتيار الليبرالي الوطني في إيران، الذي ما زالت صوره معلقة في منازل كثير من الإيرانيين حتى اليوم بوصفه رئيس الوزراء المنتخب، بين أعوام 1951 و1953، الذي أمم صناعة النفط الإيرانية، حتى قامت الاستخبارات الأميركية بالإطاحة به في انقلاب أعاد الشاه للحكم. هذه الخصومة «الرمزية» بين التيار الديني من ناحية، والتيار الوطني الليبرالي من ناحية أخرى، بدأت بعد نجاح الثورة الإيرانية مباشرة، فبعدما سمى «شارع بهلوى» بـ«شارع محمد مصدق» بعد نجاح الثورة عام 1979، تم تغيير اسم الشارع من «محمد مصدق» إلى «ولي عصر»، أي ولي الزمان أو الإمام الغائب. وفي طهران، التي تحمل غالبية شوارعها أسماء شهداء، مثل شارع «الشهيد قرني» (أحد قادة ساباه باسداران خلال الحرب الإيرانية - العراقية)، وشارع «الشهيد همت» (أحد أبرز قادة الحرب مع العراق)، وشارع «الشهيد مفتح» (رمز العلاقة بين الجامعة والحوزة العلمية والثورة)، والذي باسمه أيضا محطة للمترو في طهران وهي «ايستكاه مترو شهيد مفتح»، ومكتبة هي «كتابخانة شهيد مفتح» في طهران، وشارع «الشهيد مطهري» (أحد تلاميذ الخميني وأحد منظري الثورة)، وشارع طالقاني (أحد أبرز منظري الثورة الإيرانية) وشارع الملا الصدر (موسى الصدر). وشارع «هفتي تير» (الذي سمي لإحياء ذكري مقتل آية الله بهشتي، تلميذ الخميني وصديقه، في 28 يونيو 1981)، ليس هناك شارع «محمد مصدق».. على الرغم من أنه خلال الأيام الأخيرة من حكم الشاه، كان المتظاهرون يخرجون مرددين «نصر من الله.. مردم شاه» أى الموت للشاه، وهم يحملون صور الخميني ومصدق جنبا إلى جنب. لكن هذه «الخصومة الرمزية» لم تكن إلا انعكاسا لخصومة حقيقة كانت قد بدأت تظهر على الأرض بين التيارات الفكرية والسياسية للثورة حتى قبل فترة طويلة من نجاحها عام 1979. وما بين ليلة شديدة البرودة في 1 فبراير عام 1979، عندما خرج نحو 3 ملايين شخص لاستقبال الخميني، وبين ظهيرة شديدة السخونة في يونيو 1989 عندما خرج نفس العدد تقريبا لوداعه، شهدت إيران تعرجات عديدة مرت بها دولة الثورة من دستور ليبرالي إلى ولاية الفقيه، ومن حوار مع أميركا بدأ منذ أن كان الخميني في باريس، إلى قطيعة مع أميركا بوصفها «الشيطان الأكبر». يتذكر محمد على مهتدي يوم عودة الخميني لطهران يوم 1 فبراير 1979، فهو كان صحافيا في التلفزيون الإيراني (اليوم مسؤول الأخبار الدولية في صحيفة اطلاعات الإيرانية). كان مهتدي مؤيدا للثورة، ومتحفزا لنجاحها. كانت أجواء ترقب متفائل، وشعور جماعي بالقدرة على التغيير، تحرك الناس في مسيرات جماعية حاشدة جعلت شاه إيران وكبار المسؤولين السياسيين والعسكريين غير قادرين على مواجهة المد. ويقول مهتدي لـ«الشرق الأوسط»: «كانت الشوارع لا تخلو من المظاهرات، من شوارع طهران إلى أصفهان إلى شيراز ومشهد. لكن الثورة كانت مفاجئة مع ذلك. لم يتوقع أحد نجاحها بهذه السرعة». ويتابع مهتدي: «بعض الناس ربما كانوا يتوقعون أن نصل إلى مرحلة عمليات عسكرية وثورة مسلحة. ربما هذه الثورة المسلحة تأخذ أشهرا أو سنين. كانت هناك خطط لعمليات حرب عصابات. وحده الخميني كان متأكدا أن هذه الثورة ستنتصر من خلال حركة شعبية، وليس من خلال حرب عصابات أو عمليات عسكرية». صبيحة يوم الجمعة 8 سبتمبر 1978 خرج الآلاف في مظاهرة بطهران، وأمر حاكم طهران العسكري بإطلاق النار على المتظاهرين فقتل 4 آلاف (وسمى «الجمعة السوداء» في أدبيات الحركة الإسلامية في إيران)، فخرج الناس يرددون: «سنقتل سنقتل من قتل إخوتنا»، وزاد وضع الشاه حرجا وهشاشة. ثم كانت استراتيجية الخميني، من منفاه في باريس، بتحييد الجيش الإيراني. وكان شعار الخميني: "«لا تهاجموا الجيش في صدره، بل هاجموه في قلبه»، أى خاطبوا قلوب جنوده وقادته. فخرجت مظاهرات بأزهار وورود لتوضع في فوهات الرشاشات، مع شعارات: «أخى في الجيش لماذا تقوم بقتل أخيك». وبالتالي لما دعا الخميني الجنود والقادة لترك الجيش والتخلي عن أسلحتهم وثكناتهم، كانت الاستجابة التي غيرت مسار إيران، فالجيش كان القاعدة الوحيدة التي بقيت للشاه بعدما فقد البازار والطبقة الوسطى والطلاب والحوزة الدينية والفقراء. دعا الخميني البازار إلى الإضراب، فأضرب الجميع بسبب العلاقة التقليدية الوثيقة بين البازار والحوزة في قم. وأصاب إيران الشلل التام. ثم دعا عمال النفط لوقف التصدير، والإنتاج فقط بما يكفي لسد حاجة الإيرانيين اليومية. فقال الشاه لعمال النفط: سنطردكم ونأتي بعمال أجانب بدلا منكم. فرد الخميني بفتوى تبيح هدر دم العمال الأجانب، وأمر بدفع رواتب عمال النفط من الأموال الشرعية، أى الخمس لمرجع التقليد. قام الطلبة بإحراق المصالح الأجنبية في إيران، كالبنوك وشركات الطيران والشركات. وأخيرا أعلن الخميني تنظيم إضراب كبير في ذكرى عاشوراء يكون بمثابة رسالة أخيرة للشاه. فأعلن رئيس الحكومة العسكرية الإيرانية أزهري، إلغاء الاحتفال بذكرى عاشوراء حتى في المساجد، وحظر التجول. فرد الخميني بدعوة الإيرانيين للتظاهر من على أسطح المنازل. وعندما ألغت الحكومة العسكرية حظر التجول خرج الإيرانيون بعشرات الآلاف وهم يرددون «أيها الشاه الخائن. نحن جاهزون للقتال.. لقد دمرت هذا البلد. وقتلت شباب هذا البلد». فرد الشاه بخطاب متلفز قال فيه إنه لن يكرر أخطاء الماضي، وسيعين حكومة وطنية في أسرع وقت تقوم بتحقيق الحريات الأساسية، وإجراء انتخابات حرة. حل الشاه الحكومة العسكرية وعين حكومة من الجبهة الوطنية المعارضة التي اختارت شاهبور باختيار، أحد قادتها لرئاستها، لكن كانت المفارقة أن الإعلان عن حكومة بختيار تم في واشنطن وعلى لسان الرئيس الأميركي جيمي كارتر، وليس من طهران أو على لسان الشاه. وكان أول قرار لحكومة بختيار هو أن يغادر الشاه إيران، ومن مطار مهر أباد قبل مغادرته طهران، قال الشاه آخر عبارة له في إيران: «قلت إنني محتاج إلى راحة. وكنت في انتظار أن تستقر أحوال البلاد». غادر الشاه إيران، وكان يعتقد أنه سيعود عندما تهدأ الأوضاع على يد بختيار. إلا أن الخميني دعا الإيرانيين إلى مواصلة حركتهم وإسقاط بختيار نفسه. فخرج الناس في الشوارع تردد «الموت لبختيار» لينقلب الخميني على الحركة الوطنية. ويعلن أنه سيعود إلى إيران لتشكيل حكومة أخرى مختلفة. قرار عودة الخميني باغت بختيار، وكان يعرف أن الهوة كبيرة بينه وبين الخميني وآيات الله، فقرر أن يغلق مطارات طهران لمنع الخميني من العودة، قائلا قبل أيام من الإطاحة به: «أن تكون هذه الدولة جمهورية أو إسلامية أو ديمقراطية أو سلطنة أو ديكتاتورية أو فاشية، فهذا أمر، والذي يحصل في الشارع أمر آخر. عندما يأتي آية الله الخميني إذا كان لديه برنامج يطرحه أو آراء يدلى بها، فسنصغي إليه بكل احترام، لكن إذا أراد أن يصبح رئيسا للوزراء أو ما شابه، فإني مرتاح للغاية في مكاني هذا». خرج الناس في الشوارع يرددون «بختيار بختيار بختيار.. الفرار الفرار الفرار»، ففي نظر الكثيرين كان بختيار معينا من قبل الشاه وهذا لا يكفي لشرعيته. عندما حاول الخميني العودة مجددا لطهران، كانت كل مطارات إيران أغلقت، إلا أن الفرنسيين سمحوا له باستخدام مطار «شارل ديغول» وباستئجار طائرة إيرباص بعدما دفع له أحد الإيرانيين تأمينها. أقلعت الطائرة وعلى متنها أعضاء مكتب الخميني وعائلته وصحافيين من المقربين منه في باريس، وهم غير واثقين تماما من قدرتهم على الهبوط في إيران، لكن السلطات الجوية الإيرانية سمحت للطائرة بالهبوط في مطار «مهر أباد». عاد الخميني وقال إن السلطة من حق «الفقيه» الذي تتوافر فيه الشروط. وفي خطابه وبعد دقائق من عودته لإيران قال: «أنا سأعين الحكومة.. سأعين الحكومة بدعم هذا الشعب لي. إن الشعب يريدني. بختيار يقول إنه لا يمكن أن تكون هناك حكومتان في بلد واحد. وهذا أمر واضح. أنا أقول إنه لا يمكن أن تكون هناك حكومتان في بلد واحد. لكن يجب أن تذهب الحكومة غير الشرعية. إنك (بختيار) غير قانوني. الحكومة القانونية هي التي تعتمد على آراء الناس، القائمة على حكم الله. عليك أن تعين من قبل الله أو من قبل الشعب». ذهب بختيار، لكن الحكومات المدنية اللاحقة لم تكن أسعد حظا. فـ«دولة الثورة» لم تكن «مثالية» كما كان يتصور صانعوها، سواء من قيادات التيارات الليبرالية والدينية واليسارية، أو صانعوها من الإيرانيين العاديين.. فنجاح الثورة كان أمرا سهلا مقارنة ببناء دولتها، خاصة أن منظريها من التيار الديني لم يكن لديهم تصور محدد حول شكل الدولة. ويقول هاني فحص، الذي كان قريبا من الخميني ومن الثورة الإيرانية قبل وبعد نجاحها، حيث عمل مع هاني الحسن، الذي كان سفيرا لفتح لدى إيران، كحلقة وصل بين الثورة الإيرانية والثورة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، إن الخميني في البداية «لم يكن لديه مشروع سياسي محدد»، كان في الأساس رجل دين يعارض سياسـات الشاه.

ويوضح فحص لـ«الشرق الأوسط»: «كان يرى أنه معني بالجانب القيمي من الدين وحياة الناس ومن دون أن يكون بالضرورة حاملا لمشروع سياسي بديل.. لو قرأنا الرسالة العملية، أي المدونة الفقهية التي حررها الخميني لتكون دليلا عمليا لأتباعه ومقلديه إلى فتاواه في المعاملات (تحرير الوسيلة) وقارنا كثيرا من مضامينها وفتاواها الصريحة بما حدث بعد ذلك في الثورة والدولة تحت نظره لأصابنا العجب، فالرسالة غير ثورية وتقليدية جدا في أمور حساسة وكثيرة، من صلاة الجمعة إلى مسألة الاحتكار. ومسلك الخميني بعد الثورة مختلف عن نهجه فيها، وهو لا يعدو أن يكون في هذه الرسالة محرضا فقهيا على المعارضة ومقاومة الجور والظلم، قدم مجموعة من الأدبيات الفقهية السياسية التعبوية ليس إلا، بينما نجده في خطبه اللاحقة والمحررة مباشرة للثورة وقد انتقل إلى ملامسة مختلفة للقضايا والتحديات المطروحة». ويتابع فحص: «أعتقد أن الخميني كان على شيء من الحيرة عندما انتقل من الثورة إلى الدولة، لأن الأســئلة تغيرت والقوى تمايزت والوقائع ألحت والمشاكل تفاقمت. لقد تحول الإمام من حالته الثورية التي تقوم على التركيز على حرية الاجتماع مع الدولة، إلى القول والعمل على شمولية الدولة.. إلى حد إمكان تعطيل الأحكام لصالح ضرورات الدولة. في قناعتي أن الخميني كرجل دين وكثوري كان أجمل، ولكن كرجل دولة كان أشد تــركيبا، لأنه أصبح أشد تعقيدا. وأذكر وأتذكر أن الخميني كان من أول يوم للبدء في بناء الدولة حتى آخر يوم في حياته مختلفا في قناعته ورؤيته وطموحاته عن المتحقق، كما يختلف المثال عن الواقع، من دون أن يفصل الواقع أو يتنكر له». عندما يتجمع الآلاف في شوارع طهران اليوم إحياء لذكرى الثورة، سيكون هناك إحساس بأن مجرد «صمودها» إنجاز في حد ذاته، كما يعتقد محمد على مهتدي، لكن آخرين، حتى من المؤيدين للثورة، لا يرون هذا، فالكثيرون يعتقدون أن دولة الثورة «قاصرة» أمام الشارع.

* غدا: الخميني.. الهندي