إيران: 30 عاما على الثورة ـ الحلقة (3): الخميني من شارع أتاتورك.. إلى حضرة النجف

ألقى الخميني في حوزة النجف 19 محاضرة كانت الأساس لكتاب «حاكمية الإسلام» الذي يعد شيعياً بمثابة كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب

إيرانيتان تسيران بجوار ملصق للخميني في طهران (أ.ف.ب)
TT

نُفِيَ آية الله الخميني 14 عاماً خارج إيران منذ عام 1964 إلى عام 1979.. وتوزع منفاه على 3 محطات، تركيا (11 شهراً) والعراق (13 عاماً) وفرنسا (4 أشهر)، كان لكل من هذه المحطات تأثير مختلف على مسار الثورة الإيرانية والخميني. ففي المنفى التركي ذهب الخميني، كما يقول هاني فحص لـ«الشرق الأوسط»: «كواحد من كبار العلماء والمناضلين غير الانقلابيين، وعكف على تحرير الرسالة العملية (تحرير الوسيلة) بذهنية المرجع التقليدي من دون أن يحمل مشروعاً ثورياً»، إلا أن المنفي العراقي كان تجربة مخالفة، ففي حوزة النجف أعطى الخميني 19 محاضرة في الفترة من 21 يناير (كانون الثاني) إلى 8 فبراير (شباط) عام 1970 حولها لاحقاً إلى كتاب «حاكمية الإسلام: ولاية الفقيه»، الذي كان الأساس للدستور الإيراني بعد الثورة، ويعد شيعياً بمثابة كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب. وقد خرجت المحاضرات في كتاب من 150 صفحة بعنوان «الحكومة الإسلامية: سلطة القاضي الشرعي وخطاب من الإمام موسوي كاشف» وذلك لخداع الاستخبارات الإيرانية. ثم سرب الكتاب إلى الحوزة العلمية في قم، وصُور بأعداد كبيرة لتوزيعه على تلاميذ الخميني في حوزة قم، مع تعمد عدم نشر الكتاب وسط الأوساط العلمانية والليبرالية واليسارية الإيرانية التي كانت معارضتها مؤكدة لمبدأ ولاية الفقيه. ويقول أبو الحسن بني صدر، أول رئيس جمهورية في إيران بعد نجاح الثورة، إن الخميني استفاد من عدم انتشار أفكاره حول حاكمية الولي الفقيه على نطاق واسع قبل نجاح الثورة، فالتيارات الليبرالية واليسارية وحتى رجال دين من داخل الحوزة، مثل آية الله منتظري، لم تكن راغبة في أن يحل محل الشاه، حكم من رجال الدين. لكن على مستوى آخر، كانت الأفكار الثورية واللغة الحماسية التي استخدمها الخميني من الأسباب الأساسية لتحريك الشارع الإيراني. وعندما نشبت الثورة كانت مفاجئة للجميع.. للشاه وحكومته وضباطه ولأميركا ومسؤوليها. «لم تكن لدينا معلومات كافية حول الخميني وفريقه.. نعم فوجئنا بالثورة»، يقول جاري سيك مساعد زبيجنيو برجينسكي رئيس مجلس الأمن القومي الأميركي خلال إدارة الرئيس الأميركي جيمي كارتر لـ«الشرق الأوسط»، موضحاً: «لكن حتى لو كانت معلوماتنا أفضل.. لم نكن لنستطيع وقفها». لم تتوقف انتقادات الخميني للشاه بعد إعلان الشاه عن «الثورة البيضاء» عام 1963، وقال الخميني إن الإصلاحات انتهاك للدستور لأنها تمنح الشاه كل هذه الصلاحيات، وقال لأنصاره إن الهدف الآن «لم يعد الحكومة» بل «الشاه شخصياً». وفي ظهيرة أحد أيام عاشوراء في 3 يونيو (حزيران) 1963 ومن قلب المدرسة الفيضية شبّه الخميني الشاه بـ «يزيد بن معاوية»، واصفاً الشاه بـ«البائس»، محذراً من أنه إذا لم يغير سياساته فإنه سيأتي اليوم الذي يرحّل فيه الشعب الشاه إلى خارج إيران. بعد ذلك بيومين وفي 15 يونيو (حزيران) ألقي القبض على الخميني، وظل قيد الإقامة الجبرية لمدة 8 أشهر، ثم أُطلق عام 1964. لكن وفي منتصف 1964 وقّع الشاه اتفاقية الحصانة القضائية التي تقضي بعدم محاكمة الأميركيين في إيران تحت أي دعوى، فاستغل الخميني ذكرى ولادة فاطمة الزهراء ليعلن معارضته للاتفاقية. بعد ذلك هاجمت القوات الخاصة الإيرانية منزل الخميني وأخذته، ليس إلى سجن آخر، بل إلى مطار طهران حيث أُبلغ في المطار نفيه إلى تركيا، بقرار موقّع في 3 نوفمبر عام 1964 من رئيس الوزراء الإيراني آنذاك حسن علي منصور، نصه: «وفقاً للمعلومات المؤكدة والشواهد والأدلة الكافية ثبت لدينا أن تصرفات السيد الخميني وإثارته للاضطرابات كانت ضد مصالح الشعب وأمن واستقلال ووحدة الوطن. لذلك تقرر إبعاده من إيران في تاريخ 3 نوفمبر 1964». (اغتال تنظيم «فدائيان إسلام»، الذي يدين بالولاء للخميني ونشط في قم، حسن علي منصور رداً على توقيعه قرار الإبعاد بعد أسبوعين). بات الخميني الليلة الأولى من منفاه التركي في فندق «بلوار بالاس». وفي اليوم التالي غادر وانتقل إلى شارع «أتاتورك» في أنقرة وظل به أسبوعاً واحداً، وكان في تركيا العلمانية مجبراً على خلع عمامته وردائه الديني، بموجب القوانين التي وضعها كمال أتاتورك والتي تمنع لبس العباءة أو العمامة. وفي هذه الفترة أُخذت للخميني صور بدون عمامة أو عباءة، بل بالطو طويل وكوفية حول الرقبة وبنطلون ورأس عارٍ. بعد فترة قصيرة انتقل الخميني من أنقرة إلى مدينة بورصة التركية، وفي يناير 1965 قررت السلطات الإيرانية نفي مصطفى الخميني، الابن الأكبر للخميني معه إلى تركيا. بدأ الخميني يتعلم اللغة التركية، ثم شرع في كتابه «تحرير الوسيلة» وفيه فقه سياسي وليس فقط معاملات، إلا أنه لم يتضمن رؤية سياسية ثورية. ويقول هاني فحص، الكاتب والمفكر اللبناني الذي عمل كحلقة وصل بين الثورة الإيرانية والثورة الفلسطينية، لـ«الشرق الأوسط»: «في تقديري وفي معلوماتي أن الخميني عندما نُفي إلى تركيا ذهب كواحد من كبار العلماء والمناضلين غير الانقلابيين.. أيْ معارض شديد ليس إلا.. وترافق ذلك مع فراغ نسبي في المرجعية الفقهية السياسية بعد وفاة البروجردي. وقد زاد النفي من تعلق الجمهور المتدين بالخميني وأخذ يتعاطى معه كمرجع تقليدي، متواصلا من خلال زائريه، حاملين معهم الاستفتاءات والحقوق الشرعية. وقد فاتحه كثير من المقربين منه بضرورة التصدي للمرجعية التي كان زاهداً فيها (ولكنها أصبحت أمراً واقعاً). وهنا عكف على تحرير الرسالة العملية (تحرير الوسيلة) بذهنية المرجع التقليدي من دون أن يحمل مشروعاً ثورياً وإن كان قد حمّلها رؤية سياسية معارضة تاركاً للجمهور وقواه الطليعية (خاصة الطبقة المتوسطة الناهضة) أن يتدبروا أمرهم في حركة سياسية في الوقت المناسب. ولكن ذلك لم يمنع المرجعية الفقهية الخمينية من أن تتحول جزئياً في سلوك القاعدة الشعبية وسلوك الإمام وطريق من الطلبة الدينيين والشخصيات المدنية ورجال البازار الذين يتوافدون على السوق التركية في حركة تبادلية.. لم يمنع من الدخول التدريجي في نشاطات وحركة اتصالات وفعاليات سياسية صريحة.. وشرع الفقهي يصبح سياسياً، مخالفاً بذلك الشروط التي اتفق عليها نظام الشاه مع السلطة التركية، فكان الحل الذي اتفق عليه هو إعادة النفي إلى العراق على أساس فواتير سياسية متبادلة بين النظام العراقي ونظام الشاه، تسمح بأن يقيم الخميني في النجف أستاذاً للشباب من رجال الدين الذين هم برفقته والذين قد ينضم إليهم عدد من الطلبة الإيرانيين في النجف، أو الهاربين من إيران ليندمجوا جميعاً في الحوزة في سياقها العلمي التقليدي والذي يخضع لرقابة عراقية أمنية صارمة تمنع عليهم أي حراك سياسي وفي أي اتجاه». أزعجت تحركات الخميني وذهابه للمساجد وخطبه وكتاباته وعلاقته ببعض الأتراك السلطات التركية، فطلبت أنقرة من الخميني أن يغادر بأقصى سرعة دون أن تبلغه إلى أين سيتجه. استقل الخميني الطائرة في 5 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1965، وبعد ساعات قليلة وجد نفسه في بغداد. كان العراق ساعتها تحت حكم عبد السلام عارف وفي مفترق طرق، فقد أسقط النظام الملكي تحت قيادة الملك فيصل عام 1958 وأعدم رئيس الوزراء نوري السعيد، إثر انقلاب عبد الكريم قاسم الذي ألغى الملكية، ثم انسحب العراق من حلف بغداد. هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى فقد كانت هناك تشابهات في تاريخ الحركة الإسلامية الشيعية بين البلدين، إذ يعود تاريخها إلى الفترة نفسها بين 1958 و1963، على يد محمد باقر الصدر في العراق، والخميني في إيران. في بغداد استقر الخميني في حي الكاظمية ليومين ثم توجه إلى كربلاء لأسبوع في ضيافة آية الله السيد محمد الشيرازي، ثم إلى النجف حيث بقي فيها 13 عاماً. وهناك لحقت به زوجته وابنه أحمد، فيما كان ابنه الأكبر مصطفى معه منذ المنفى التركي. لم تقلق السلطات في إيران كثيراً لنفي الخميني إلى العراق، فقد كانت الأصوات التي ترى أن حوزة النجف ستضعف زعامة الخميني ومكانته في إيران هي الأكثر غلبة، على أساس أن حوزة النجف بعيدة عن إيران، وحساسة جداً حيال التدخلات في السياسة. كما أن الخميني لم تكن له معرفة وثيقة بأمور حوزة النجف. أما آيات الله الكبار في حوزة النجف من أمثال آية الله محسن الحكيم، وآية الله أبو القاسم الخوئي، وآية الله باقر الصدر فقد كانوا من الأهمية والمكانة بما يمكنهم من تجاوز مكانة الخميني. كل هذه مبررات جعلت السلطات الإيرانية تأمل في أن تكون هذه بداية «نهاية تأثير الخميني في إيران». لكن في الواقع وفرت «الحلقة العراقية» والـ13 عاماً التي قضاها الخميني في منفاه العراقي أرضية خصبة لعمله المستقبلي، وعززت علاقاته خارج إيران من العراق وحتى لبنان مروراً بسورية. ففي حوزة النجف افتتح الخميني حوزته العلمية في جامع الشيخ الأنصاري وبدأ دروسه الدينية في الفقه، وبعد 4 سنوات بدأ بإلقاء دروسه عن الحكومة الإسلامية. وشكلت هذه المحاضرات «الأساس النظري» الذي بُني على أساسه دستور إيران بعد الثورة. وفي هذه المحاضرات يقول الخميني: «الدين الإسلامي ليس ديناً محدوداً يقتصر على العلاقة بين العبد وربه. فالإسلام هو دين سياسي». وساعد الخميني أن حوزة النجف نفسها كانت بدأت تدخل في مزاج سياسي. ففي السينيات بدأ آية الله محمد باقر الصدر الانشغال بالسياسة، وظهر «حزب الدعوة». لكن حركة الصدر لم تحظَ بإجماع واسع، خصوصاً أن آيات الله كبار لم يرحبوا كثيرا بانخراط حوزة النجف في الانشغال السياسي ومن بين هؤلاء آية الله محسن الحكيم الذي لم يفضل دخول غمار العمل السياسي والثوري بالرغم من إلحاح الخميني عليه. وفي النهاية قرر الخميني عدم التدخل كي لا تتزايد الشقوق بين آيات الله في النجف. فلم يقم الخميني بدفع المبالغ الشهرية للطلاب ولا بتوزيع رسالته العلمية، ونأى بنفسه عن أن يكون من مراجع التقليد في النجف، وبات شغله الأساسي ما يدور في إيران. ويقول هاني فحص حول تأثير هذه الخطوة على نشاط الخميني في إيران لـ«الشرق الأوسط»: «في النجف قام الخميني بحركته الذكية.. تجاوز الاحتفاء الجماهيري الواسع واندفاع الطلبة في النجف لاستقباله والإحاطة به، وبنى حوله سوراً أو سياجاً تتخلله فتحات محدودة قدم من خلالها بعض المساعدات للطلبة العرب الجادين والفقراء في النجف دون أن يحاول استقطابهم. وخرج من منافسات المرجعيات الدينية في النجف، فأصبح في منأى عن اعتراضاتها ومشاغلها المعتادة، ونظم فريق عمله وشق قنواته المرتبة نحو النجف وطهران والمنافي التي اختارها عدد من أنصاره على اختلاف اتصالاتهم وثقافاتهم.

وفي النجف تيسر، أو كان لابد، للبدايات السياسية المتدرجة من طهران إلى الأناضول، أن تتواصل مع معطيات وظروف عربية وعراقية ودولية تشجعها على التوغل في مسارها السياسي.. فقبل وصوله إلى النجف بسنوات كانت النجف أو حيز منها قد تلقفت أدبيات الإخوان المسلمين وأسس حزب الدعوة -الإخوان الشيعة- واحتدم الجدل داخل الحوزة بين المرجعيات التقليدية والمرجعية الحزبية المستجدة والتي انضم إليها عدد كبير من شباب العلماء المعروفين بالفضيلة العلمية والطموح إلى التغيير (كمحمد باقر الصدر مثلا). عاش الخميني في هذه الفضاءات وتأثر بها وظهر مختلفاً عن مراجع الذين لا يحبذون الانقلاب ويراهنون على مراكمة التغيرات ببطء وحذر مع نزوع دائم إلى التسويات المقبولة.. وحول دروسه ومحاضراته في فريق عمله، الذي اتسع نسبياً، إلى بحث فقهي سياسي أنتج من خلاله كتابه المعروف (الحكومة الإسلامية) والذي كان –شيعياً- بمثابة كتاب سيد قطب (معالم في الطريق). وإن كان سيد قطب وكتابه أقرب إلى مزاج الإسلام السياسي الحركي الشيعي المستجد في النجف والذي كان عموماً أقرب إلى القبول والرضا بالشاه ونظامه ومسلكه المتعارض مع مسلك الحركة القومية العربية خاصة في جانبها العارفي والناصري ثم البعثي لاحقاً». سنوات وجود الخميني في النجف لم تشهد انقطاعاً بينه وبين إيران، فقد كان الزوار يتوافدون بشكل شبه يومي بين النجف وقم، وواصل طلبة الخميني التنظيم في القرى والمدن وتنظيم الجماعات السياسية ومن ضمنهم آية الله مطهري وآية الله بهشتي وآية الله خامنئي وهاشمي رافسنجاني. كانت بيانات الخميني تطبع بشكل سري وترسل لإيران عن طريق سورية أو الكويت، يحملها غالباً تلاميذ للخميني خضعوا لدورة تدريبية في معسكرات فتح في لبنان ويحملون هوية منظمة «فتح». كما كان الخميني يرسل مع أقاربه خلال زيارتهم للنجف أشرطة كاسيت تفرّغ وتطبع وتوزع في قم، كما ساعد على انتشار أفكار الخميني داخل العراق وإيران سماح عبد السلام عارف بإقامة إذاعة خاصة للمعارضة الإيرانية في النجف بقيادة الخميني، مما منح الخميني هامشاً ملائماً للحركة. وفي عام 1968 حدث الانقلاب البعثي، فتدهورت علاقة الخميني بالنظام العراقي بسبب الضربات التي وجهها أحمد حسن البكر للمؤسسة الدينية في العراق والحركة الإسلامية. غير أن الأمور تغيرت لاحقاً، فبعد تصاعد الخلافات بين العراق وشاه إيران عام 1971، قام أحمد حسن البكر بطرد عدد كبير من الإيرانيين في حوزة النجف أو اعتقالهم رداً على تسليح الشاه للأكراد العراقيين المنتشرين على المنطقة الحدودية بين البلدين. واستمرت التوترات بين عراق البعث وشاه إيران حتى 1974، ووسط هذا حاول النظام البعثي التقرب إلى المعارضة الإيرانية في النجف وأرسل وفداً لمقابلة الخميني، لكن الخميني أعلن نيته مغادرة العراق، غير أن نظام البعث أبقاه قيد الإقامة الجبرية لاستغلاله كورقة في اللحظة المناسبة. أصبح بيت الخميني محاصراً في النجف تحت الحراسة الأمنية، فاعتصم احتجاجاً ولم يعد يخرج من البيت، إلى أن توفي ابنه الأكبر مصطفى في 23 يوليو 1978 بطريقة غامضة، قيل إنها تسمم، فقرر الخميني مغادرة العراق بأي شكل، توجه أولا إلى الكويت ومنها إلى سورية. على الحدود مع الكويت تركه تلاميذه وأخذ هو سيارة لدخول الكويت، لكن السلطات الكويتية رفضت السماح له بالدخول، فطلب أن يستقل الطائرة لبلد آخر فرفضوا. عاد الخميني إلى بغداد وهو يعرف أنه لن يسمح له بدخول العراق التي لم تكن تريد إفساد علاقتها بالشاه بعد اتفاق بين البلدين في الجزائر 1975 يقضي بتضييق هامش حركة الحركات المعارضة في كل بلد. من بغداد حجز الخميني تذكرة إلى فرنسا، التي استقبلته مشترطة عدم القيام بأي نشاط سياسي معادٍ للشاه، فردّ «لن أقوم بأي نشاط داخل فرنسا لكنني سأواصل العمل بالبيانات داخل إيران». بقي الخميني في فرنسا من أكتوبر 1978 حتى فبراير 1979 ومعه ابنه أحمد، فيما بقيت زوجته في العراق. وكان يجري 5 أحاديث صحافية في اليوم، وخلال نحو 4 أشهر كان قد أجرى 450 حديثاً صحافياً. في هذه الفترة، كما يقول محمد علي مهتدي الصحافي في صحيفة «إطلاعات» الإيرانية لـ«الشرق الأوسط»: كانت إيران تغلي من الداخل، وتم حل الحكومة المدنية وتم تشكيل حكومة عسكرية محلها، وانتشرت الاعتقالات والدبابات في الشارع. ثم بدأ الشاه يهين الخميني عبر مقالات في صحف رسمية مثل «اطلاعات»، في تناقض مع معادلة تاريخية وهى احترام الشاه الصفوي ولاحقاً الشاه القاغاري ثم البهلوي للمرجع الأكبر سواء كان هذا المرجع نجفياً أو قمياً. ويوضح مهتدي أن الشاه دفع ثمناً غالياً لاستخفافه بهذه المعادلة، إذ خرجت الناس في مظاهرات كبيرة جداً في قم وطهران ويزد وتبريز وعبدان، فيما بات يعرف بـ «الحركة الأربعينية». وقُتل المئات. في ظل هذه الأجواء الملتهبة في إيران، كان الرئيس الأميركي جيمي كارتر مشغولا بالسلام بين مصر وإسرائيل، وقلق قلقاً بسيطاً على تطورات إيران بعد تقارير مطمئنة من الاستخبارات الأميركية. لكن المشكلة أن الاستخبارات الأميركية في إيران كان لها وجود في كل مكان، وأعين وسط الحركة الوطنية والحركة الليبرالية والحركة اليسارية، إلا في قم ووسط رجال الدين.

ويقول جاري سيك الذي عمل في مجلس الأمن القومي الأميركي تحت إدارة 3 رؤساء أميركيين هم جيرالد فورد وجيمي كارتر ورونالد ريغان، وكان متابعاً لملف الثورة الإيرانية ثم أزمة الرهائن يوماً بيوم مع بيرجينسكي خلال إدارة كارتر لـ«الشرق الأوسط» حول مستوى ودرجة معرفة الاستخبارات الأميركية بما كان يدور في إيران قبل الثورة: «مستوى معرفتنا الاستخباراتية بما كان يدور داخل حركة الخميني كان محدوداً جداً.. لكن كانت لدينا اتصالات مع عدد مختلف من الناس المحيطين بمهدي بازوركان(زعيم الجبهة الوطنية الإيرانية) في طهران من بينهم إبراهيم يزدي الذي كان مع الخميني في باريس. لكن مع ذلك، وبالرغم من ذلك، لا يمكننا القول إنه بسبب نقص معرفتنا الاستخباراتية بما كان يدور داخل حركة الخميني، حدثت الثورة نتيجة ذلك. أو القول إنه لو كانت لدينا معرفة أكبر بما كان يدور داخل حركة الخميني لكان بإمكاننا منع الثورة. لأن الشاه فعلا لم يكن قادراً على التعامل مع التهديد الذي يواجه عرشه. وإذا كان هناك أي شخص كانت لديه معلومات مضللة حول ما الذي يستطع الملالي في إيران فعله، وكيف يمكن أن يفعلوه، فذلك الشخص هو الشاه نفسه. فهو فعلا فشل في فهم تطورات الموقف حتى النهاية. كان يعتقد أن الثورة في شوارع إيران سببها الروس، أو الاستخبارات المركزية الأميركية، وكان هذا تفسيره الوحيد لما كان يحدث في شوارع إيران لأنه لم يستطع أن يصدق أن الملالي ورجال الدين في إيران قادرون على أن يقودوا ثورة ضده بهذا الشكل. وكنتيجة لذلك لم يكن لديه أي فكرة عما ينبغي أن يفعل إزاء ثورة الإيرانيين في الشارع. نحن في إدارة كارتر لم نكن أيضاً لدينا معلومات كافية. هذا صحيح تماماً. لكن حتى إذا كانت لدينا كل المعلومات، فإنه ليس من المؤكد أننا كنا في وضع يمكّننا من وقف الثورة. كان هناك ملايين الإيرانيين يتظاهرون في الشوارع كل يوم. هذا مد من الصعب وقفه عندما يبدأ، والشاه جعل هذا المد يمتد إلى نقطة أنه بات من الصعب جداً جداً وقفه». ويتابع سيك: «نعم كانت لدينا معلومات محدودة حول الخميني وجماعته، نعم فوجئنا بدرجة وقدرة رجال الدين في إيران على تعبئة دعم الإيرانيين ضد الشاه. نعم حقيقة فوجئنا أن الشاه أثبت أنه غير قادر على تطوير استراتيجية متماسكة للتعامل مع الوضع. كرر دائماً أنه سيخرج باستراتيجية لمواجهة الوضع لكنه لم يفعل. حقيقة لقد فوجئنا بعدد من الأشياء. لكن في النهاية، القول إننا لو امتلكنا معلومات استخباراتية كافية لكان بإمكاننا وقف الثورة، هذا غير صحيح. فهؤلاء لم يكونوا مجموعة قليلة من الناس، توافر المعلومات عنهم تمكننا من وقف حركاتهم. في الحقيقة هذه كانت ثورة واسعة جداً. لم تكن الخميني وجماعته فقط في باريس، بل ضمت عدداً من مساعديه ومسؤولين عسكريين وتلاميذ عملوا معه لسنوات ويتحركون بشكل مستقل في إيران، وداخل المساجد، وهى منطقة لم ينجح الشاه في السيطرة عليها، وفشلت شرطته السرية في معرفة ماذا يدور داخلها. كان وضعاً معقداً ومتداخلا، وحتى إذا كانت لدينا معلومات، هل كنا قادرين على وقفها.. ردي: لا على الإطلاق».

فوجئت أميركا بمدى نفوذ التيارات السياسية المعارضة في الشارع الإيراني، وخطورة وضع الشاه لدرجة أن الوقت الذي بقي متاحاً للتفكير في بدائل كان قليلا جداً.. كان الوقت بدأ ينفد. ويؤكد سيك أن إدارة كارتر لم تناقش فكرة «تدخل عسكري أميركي من جانب واحد» لإنقاذ نظام الشاه، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «الشاه كان لديه جيش من 400 ألف جندي، يدينون له بالولاء. لم يدعُهم الشاه أبداً كي يتصدوا لما كان يحدث. وعندما جاءت اللحظة، وبات واضحاً أن الثورة في طريقها للانتصار ومنشآت تقع في يد الثوريين، انهار الجيش الإيراني. لم تكن قياداته قادرة على الاتفاق على استراتيجية حتى لمواجهة ما كان يحدث، على النقيض تخلوا عن سلاحهم وغادروا ثكناتهم. إذا كان لديك جيش من 400 ألف جندي يدينون بالولاء للشاه وفشلوا تماماً في الرد.. فما الذي يعنيه هذا بالنسبة لأي تدخل عسكري أميركي؟ فكرة أن أميركا كان يمكنها أن تأتي وتتدخل عسكرياً لإنقاذ الشاه في الوقت الذي يستطيع، أو لم يرد، جيش الشاه التدخل، يجعلنا أمام قرار من الصعب جداً اتخاذه. حقيقة فكرة تدخل عسكري أميركي أحادي الجانب للسيطرة على الأوضاع في إيران لم يتم بحثها خلال الأزمة». ويوضح سيك أن إدارة كارتر عندما باتت شبه متأكدة من أن الثورة ستنجح، قررت عقد لقاءات مع الخميني في باريس في محاولة لمعرفة توجهاته، موضحاً: «كما أتذكر أجرينا محادثتين في باريس مع مقربين من الخميني لمعرفة ما إذا كان هناك أي شيء يمكن الحديث حوله مع الخميني. وما حدث هو أن هذه المحادثات الأولية لم تؤدّ إلى أي نتيجة وبالتالي لم تتواصل. هذه كانت محادثات محدودة جداً. عموماً هناك من ينتقدون الولايات المتحدة لأنه لم يكن لديها اتصالات كافية مع الخميني وفريقه أو المعارضة، كما أن هناك من انتقدوا الولايات المتحدة لأنها أجرت اتصالات في رأيهم أكثر من اللازم مع المعارضة الإيرانية في ذلك الوقت». ويلاحظ محمد علي مهتدي أنه عندما بدأت أميركا تتحرك في محاولة للحوار مع التيارات الثورية ومنعاً لانهيار النظام بأكمله تحركت متأخرة جداً، وبعدما كانت علاقات التيارات الثورية مع أميركا قد تدهورت تماماً، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يكن هناك شيء بيد أميركا. لم يكن لأميركا أن تفعل أي شيء سوى ما فعلته وهو إخلاء القواعد العسكرية وإخلاء المستشارين العسكريين وترحيلهم من إيران لأنهم تأكدوا من انتصار الثورة، لم يكن هناك من طريق لمواجهة الثورة، كما لم يكن من الممكن قتل ملايين الناس في الشوارع، والجيش الإيراني كان على وشك الانهيار.. والأميركيون عرفوا أن الجيش منهار ولا يمكن الاعتماد عليه لأن جسد الجيش، بغض النظر عن الجنرالات الكبار الذين كانوا أوفياء للشاه، كان مع الشعب، وفي النهاية حدث تمرد وهرب الجنود من ثكناتهم ومعسكراتهم، وسلموا الأسلحة للشعب، فعرف الأميركيون أنه من المستحيل التدخل لإجهاض الثورة. وجاءت تلك الأحداث بعد أشهر معدودة فقط من قول الرئيس الأميركي جيمي كارتر إن إيران (جزيرة الاستقرار وسط منطقة مضطربة) وذلك خلال زيارة لإيران للاحتفال برأس السنة الميلادية. وهذا يدل كم أن الأميركيين كانوا بعيدين عن الواقع في إيران. لم يكن بإمكان أي طرف خارجي أو قوة عظمى أن تفعل شيئاً للنظام المنهار، الأميركيون حاولوا بمجرد أن عرفوا أن نظام الشاه سينهار؛ فتحوا قنوات حوار مع الإمام الخميني قبل نحو شهرين من نجاح الثورة وقبل مجيء الخميني إلى طهران، وذلك في نوفيل شاتو في فرنسا، من خلال بعض الصحافيين والمستشارين وبعض الشخصيات المعروفة، وفشلوا لأن الأمام الخميني كان لا يثق بالأميركيين». عاد الخميني إلى طهران يوم 1 فبراير 1979.. ثم خاض لأيام حرب شوارع، وتحولت طهران إلى أرض معركة بين الخميني وأنصاره ورئيس الوزراء الذي عينه الشاه شهبور بختيار وأنصاره واندلعت مواجهات عنيفة وأقيمت متاريس لتقسيم طهران. وظل القتال طوال الليل حتى احتل مؤيدو الخميني المباني الأساسية والثكنات ومبنى الإذاعة والتلفزيون وأصدروا البيان رقم واحد: لقد انتصرت الثورة. غداً: الخميني.. سياسياً