شمس الواعظين لـ«الشرق الأوسط»: الحرس الثوري يسيطر على أي مشروع تتجاوز قيمته 10 ملايين دولار

مصطلح «الدولة العميقة» يشرح طبيعة الدولة الإيرانية.. ودول أخرى مثل باكستان وتركيا وإسرائيل

TT

* المفارقة بين تهميش دور آيات الله الكبار في صنع السياسة الإيرانية، مثل آية الله أردبيلي وآية الله منتظري وغيرهما، في قم، مقابل تعزيز دور النخبة العسكرية والمالية في طهران، تطرح السؤال التالي: كيف حدثت هذه النقلة؟ ولماذا ضعف رجال الدين أمام العسكر؟ ما شاء الله شمس الواعظين عالم الاجتماع والكاتب الإيراني يقول لـ«الشرق الأوسط»: إن الإجابة تكمن في «تغير الطبقة الحاملة لمشروع الدولة في إيران»، موضحا أن أي نظام يحتاج إلى طبقة تحمل مشروعه الآيدولوجي، وأنه بدون هذه الطبقة، فإن المشروع الآيدولوجي للدولة يكون معرَّضا للخطر. كان رجال الدين في إيران الحاملين الطبيعيين للمشروع الديني للدولة في السنوات الأولي بعد الثورة الإيرانية عام 1979، لكن هذا الوضع تغير لاحقا بسبب الحرب العراقية - الإيرانية وما تبعها من تطورات أمنية واستراتيجية دفعت برجال الدين إلى الصف الخلفي، ودفعت برجال الحرس الثوري والجيش إلى الصف الأول. ويقول شمس الواعظين إن دور رجال الدين تراجع «لأنهم، مثل كل رجال الدين في العالم، لم يتمكنوا من إيجاد علاقة بينهم وبين مصادر إنتاج الثروة.. فأفسحوا المجال للعسكر»، موضحا أن الدولة الإيرانية اليوم هي «دولة عميقة» أو Deep State. وهو نموذج يمكن أن ينطبق على دول أخرى بالمنطقة، من بينها تركيا وباكستان وإسرائيل. ولا يعني مصطلح «الدولة العميقة»، أن الدولة عميقة بالمفهوم الاجتماعي أو الثقافي، بل بالمفهوم الأمني، أي أن هناك جماعات داخلية قوية تعمل من تحت الأرض أو بسرية لتنفيذ مخططات تخدم مصالحها وتصوراتها لنوع الدولة. بعبارة أخرى هذه الجماعات بمثابة «دولة داخل الدولة». وهنا نص الحوار:

* هل مستقبل إيران هو التنافس بين «المحافظين المتشددين» و«المحافظين البراغماتيين»، مقابل تقلص تأثير الإصلاحيين؟

ـ أنا لا أنسى كلام أحد كبار المحافظين المنظّرين للتيار المحافظ: «إننا سنخلق نسخة طبق الأصل من الإصلاحيين داخل معسكر المحافظين». هذا الكلام ترجم على الأرض بالاصطفاف الذي نراه داخل التيار المحافظ، على شكل مجيء تيار بقيادة على لاريجاني المستشار السابق لمجلس الأمن القومي ورئيس البرلمان حاليا، والتكنوقراطيين الذين يقودهم محمد قاليباف رئيس بلدية طهران، والذين يبدو أنهم يعارضون الكثير من توجُّهات الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، ويظهرون في بعض النقاط أقرب إلى الإصلاحيين.

لكن مع ذلك أقول إن المشهد السياسي القادم في إيران لن ينحصر فقط في التنافس بين التيارين «المحافظ الإصلاحي» - إذا صحّ التعبير - بقيادة لاريجاني وقليباف، و«المحافظ الأصولي» - إذا صحّ التعبير أيضا - بقيادة أحمدي نجاد. بل أعتقد أن التيار الإصلاحي الحقيقي سيكون له أيضا حضور بسبب الإخفاقات العديدة التي نراها في سياسات أحمدي نجاد، سواء السياسة الداخلية أو ما يتعلق بالسياسة الخارجية.

* لكن هل تعوّل على دور المحافظين البراغماتيين؟ هل تعتقد أنهم يمكن أن يُحدِثوا تغييرا حقيقيا؟

ـ أنا متشائم إلى حد ما من هذه الناحية. أنا أعتقد أن التيار المحافظ (بسبب شعبية الإصلاحيين في المجتمع الإيراني والاستياء من أداء أحمدي نجاد في ما يتعلق بالكثير من الملفات وتحديدا الملف الاقتصادي الداخلي)، أعتقد أن التيار المحافظ يلعب لعبة سياسية عالية الذكاء، وذلك بتقسيم أو توزيع الأدوار بين تياراته، وإيجاد بعض الانشقاقات والانقسامات المصطنعة بينهم، مثل «محافظ متجدد» أو «محافظ إصلاحي» و«محافظ أصولي». لماذا يستخدم المحافظون كلمة «إصلاحي»؟ كلمة «إصلاحي» في إيران لها رصيد عالٍ جدا في المجتمع. هم يستخدمون هذا الخطاب الإصلاحي لكي يتمكنوا من الحفاظ على معسكرهم من ناحية، ومن ناحية أخري نقل الكرة إلى ملعب الإصلاحيين. لذلك فالمشهد السياسي المقبل في إيران سيكون متنوعا وموزاييكًا وخليطا، لأن هناك تحالفا غير معلن بين الإصلاحيين في البرلمان الحالي و«المحافظين الإصلاحيين» الذين يتزعمهم لاريجاني لمواجهة أحمدي نجاد داخل البرلمان للضغط عليه.

* هل يمكن قراءة هذا على أنه بداية نهاية رئاسة أحمدي نجاد؟

ـ أنا أعتقد أن الرئيس أحمدي نجاد قد انتهى في الرئاسة. انتهى منذ زمن لا الآن. لكن بسبب وجود مساندة قوية من المرشد الأعلى آية الله على خامنئي للرئيس أحمدي نجاد في ما يتعلق بمواجهته مع المجتمع الغربي، ما زال أحمدي نجاد حاضرا، لأن خامنئي يريد سياسة خارجية متشددة إزاء الغرب، حتى تنتزع إيران اعترافا رسميا من الولايات المتحدة الأميركية والمجتمع الغربي في ملفين: الملف الأول: الملف النووي وحق إيران في امتلاك تكنولوجيا نووية ذات أغراض سلمية مع دورة الوقود النووي وعملية التخصيب. والملف الثاني: الاعتراف بالموقع الجيواستراتيجي لإيران في العراق ومنطقة الشرق الأوسط. إذا ما تمكن النظام السياسي الإيراني - وأنا أتحدث هنا عن النظام السياسي ككل - من انتزاع هذا الاعتراف، فقد لا يعود لأحمدي نجاد أهمية. الإيرانيون عادة يفضلون الجلوس على طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة ومع الجميع من موقع القوة. إلى أن نصل إلى هذه المرحلة، أعتقد أن سياسة إيران ستكون متشددة ولن تكون هناك أي مرونة في ما يتعلق بالسياسة الخارجية. لكن في ما يتعلق بالسياسة الداخلية أعتقد أنه ستكون هناك مرونة واعتدال أكثر، وستكون هناك مراقبة ومساءلة من قِبل البرلمان حول سياسات الرئيس أحمدي نجاد في أدائه الاقتصادي السئ.

* موازين القوى في إيران معقدة. أنت تحدثت عن محافظين إصلاحيين مثل لاريجاني وقليباف، ومحافظين متشددين مثل أحمدي نجاد، وإصلاحيين مثل خاتمي، وهناك إصلاحيون برغماتيون مثل هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس الخبراء. فمن من هذه القوى الأكثر نفوذا؟

ـ المجتمعات في العالم كله لكي تتمكن من الحفاظ على ديمومة نظامها السياسي لا بد لها من وجود طبقة حاملة لمشروع الدولة. أي مشروع دولة، سواء مشروع إمبريالي أو مشروع اشتراكي أو مشروع رأسمالي أو مشروع إسلامي، لا بد له من وجود طبقة تحمي السلطة السياسية من وراء الفترينة. في الولايات المتحدة هناك «كارتل تراست» أو الرأسماليون.

في مجتمعات أخري توجد الطبقة المتوسطة. في المجتمعات الإسكندنافية توجد منظمات المجتمع المدني التي تحمي النظام من أي تحدٍّ خارجي أو تهديد. في إيران بعد الثورة عام 1979 كنا نتوقع، وكان يتوقع الكثير من المراقبين والباحثين، أن طبقة رجال الدين هي التي ستتبوأ مكانة الطبقة الحاملة لمشروع الدولة في إيران، لكن لأسباب موضوعية وبسيطة جدا، منها عدم وجود أي علاقة بين رجال الدين في إيران ومصادر إنتاج الثروة، فرجال الدين مستهلكون للثروة لا منتجون للثروة، وهذه ظاهرة عالمية، لا تقتصر على إيران فقط.

لذلك فرجال الدين في إيران لم يتمكنوا من إيجاد أي علاقة وطيدة بينهم وبين مصادر إنتاج الثروة. ولأن الطبقة الحاملة لمشروع أي نظام سياسي يجب عليها أن تكون ذات صلة وثيقة بمصادر الثروة وإنتاجها نجد أن دور طبقة رجال الدين يتراجع حاليا في إيران. نشاهد الآن في كل انتخابات إيرانية تتقلص أعداد رجال الدين في البرلمان. لماذا؟ لأنهم ينسحبون تدريجيا من الساحة السياسية بسبب عدم وجود أي علاقة بينهم وبين مصادر الثروة.

أما السبب الثاني فمتعلق بالولاء المطلق للطبقة الحاملة للمشروع السياسي للنظام الموجود. فكما تعرفون في المجتمعات الديمقراطية وشبه الديمقراطية لا يوجد هناك شيء اسمه ولاء. هناك مفاوضات وهناك مساومات وهناك تقاطعات في المصالح، وهى التي تتحكم في مصادر السلطة في أي مجتمع. النظام السياسي الإيراني كان يبحث عن ولاء مطلق لتركيبته ونظامه الفريد من نوعه في العالم، لكنه لم يتمكن من الحصول على هذا الولاء حتى في طبقة رجال الدين والأحزاب السياسية في إيران. بحث وفتّش عن هذه الطبقة، ورأى أن المؤسسة العسكرية، ولا أعنى هنا الجيش بل مؤسسة الحرس الثوري، هم أكثر ولاءً للنظام السياسي من أي قوى اجتماعية أخرى. ومن ناحية ثانية وخلال العقد الأخير أجاد الحرس الثوري إقامة علاقات وطيدة بينه وبين مصادر إنتاج الثروة. فكل المشاريع الاقتصادية في إيران تتحكم فيها المؤسسة العسكرية، لذلك شيئا فشيئا يتحول الحرس الثوري، وأعضاؤه بالملايين بين نظامين ومتطوعين، ليكون الطبقة الحاملة لمشروع الدولة الإيرانية في ثوبها الجديد، أو ما يسمى بالإنجليزية «الدولة العميقة» Deep State. نموذج «الدولة العميقة» يحكم الكثير من الدول في العالم، ومن بينها دول محاذية لإيران مثل النموذج الباكستاني والتركي، بل وحتى إذا كنت دقيقا في هذا المجال النموذج الإسرائيلي أيضا. فالجنرالات يأتون للأحزاب السياسية ويسيطرون على مقاليد السلطة السياسية.

لذلك فالسؤال: من يحكم إيران في هذه المرحلة؟ إجابته الدقيقة المستندة إلى علم الاجتماع السياسي هي: المؤسسة العسكرية بعد وصول الرئيس أحمدي نجاد هي التي تتحكم في مصادر السلطة في إيران، لا الأحزاب السياسية، يقودها مرشد الجمهورية آية الله على خامنئي. لذلك نشاهد في البرلمان الحالي 63% في البرلمانيين لهم خلفيات عسكرية في مؤسسة الباسدران. هذا معلن رسميا. في السلطة التنفيذية، أينما تقع عيناك على أي مؤسسة ترَ أن الحرس الثوري هو الذي يتحكم فيها. حتى في البلديات والكثير من مؤسسات الدولة. رئيس بلدية طهران محمد قاليباف هو من المؤسسة العسكرية، كل مؤسسات بلدية طهران مسؤولوها لهم خلفية عسكرية. الدكتور على لاريجاني، هو أيضا من أبناء المؤسسة العسكرية، من الباسدران. المجلس الأعلى للأمن القومي تديره المؤسسة العسكرية. الرئيس أحمدي نجاد من أبناء المؤسسة العسكرية. الكثير من الوزراء من المؤسسة العسكرية. المشاريع الاقتصادية التي تتجاوز 10 ملايين دولار وما فوق كلها تقريبا بشكل شبه مطلق بيد الحرس الثوري. الحرس الثوري والباسيدج هم من يحكمون إيران الآن، وحتى إشعار آخر فإن المؤسسة العسكرية هي التي تشكل الطبقة الحاملة لمشروع الدولة الإيرانية. من الناحية الاجتماعية قوات الباسيدج (التعبئة) تشكل القاعدة الشعبية لهذه الطبقة، وعندما نرتفع بالهرم السياسي إلى فوق قليلا سنرى أن هذه الطبقة تتبوأ القاعدة السياسية.

* هل تعتقد أن المشروع الإصلاحي كان جريئا جدا في بداياته الأولى مما سبب خوف المرشد الأعلى، فبدأ هو شخصيا في مواجهة المشروع الإصلاحي وقياداته، وسارت إيران نحو تقوية الحرس الثوري والباسيدج لحماية مشروع الدولة؟

ـ هذا تفسير صحيح لما جري. ولأوضح أكثر، أنا أري سببين رئيسيين لهذه النقلة النوعية في إيران، وهذه النقلة حدثت في الفترة الثانية من ولاية الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي، أي من عام 2000 وحتى الآن. السبب الأول أن الحركة الإصلاحية في غياب استراتيجية واضحة المعالم، وبسبب وجود مضايقات من قِبل السلطة والحرس الثوري وكل مؤسسات الدولة التابعة للمحافظين، غيرت مسار حركتها وقفزت فوق شعارات الرئيس خاتمي لكي تُعَلْمِن الدولة (من العلمنة أو العلمانية). أي أن المتشددين داخل الحركة الإصلاحية هم السبب الرئيسي في خلق هواجس استراتيجية في عقول رجال الدين وتحديدا خامنئي، لأن السؤال الذي كان في المحكّ هو: ما مصير الدولة الإسلامية والحكم الديني؟ اليوم خرج خاتمي من صناديق الاقتراع. غدا يخرج عبد الله نوري (أحد أهم الإصلاحيين في إيران وكان وزير داخلية في حكومة خاتمي وهو أكثر راديكالية منه)، وبعد غد يخرج رجل علماني مائة في المائة. هذه الهواجس توجد لدي العقول السياسية في أي نظام سياسي. أنا لم أنتقد المجتمع الإيراني فقط، هذه الهواجس توجد داخل كل المجتمعات.

إذاً السبب الأول لصعود المؤسسة العسكرية كان قفز الجناح الراديكالي في الحركة الإصلاحية فوق الشعارات والقيم التي كان يحملها خاتمي. والسبب الرئيسي الثاني والذي لعب دورا استراتيجيا كان الموقف الأميركي المتشدد حيال إيران في عهد الحركة الإصلاحية، وهذا ما لم يرَه الكثير من المراقبين. ففي عهد بيل كلينتون - محمد خاتمي وضعت الولايات المتحدة اسم إيران في لائحة محور الشر، وشدد كلينتون العقوبات في إطار قانون داماتو. هذا أدي إلى مزيد من التشدد لدي المحافظين في الداخل الإيراني. قال المحافظون للإصلاحيين: أين تذهبون؟ إذا ذهبتم إلى لغرب سيعاملكم هكذا.. هذا هو جواب الغرب على سياستكم المنفتحة تجاه الأسرة الدولية. لذلك مهدت الأرض لمجيء أحمدي نجاد كقوة متشددة لمواجهة المرحلة الصعبة، أي مرحلة جورج بوش. فالرئيس أحمدي نجاد ونموذجه هو حصيلة حركتين متطرفتين: الأولي من قِبل المجتمع الغربي تجاه إيران، والثانية التطرف داخل المنظومة الإصلاحية في الداخل الإيراني. هذا ما أدي إلى وصول أحمدي نجاد إلى سدة الحكم.

* ماذا عن وضع هاشمي رفسنجاني؟ هل ما زال رفسنجاني قويا في إيران؟ وهل يتم إضعافه لمصلحة جهة ما؟

ـ نحن نصف الرئيس رفسنجاني في إيران بـ«تنموي». هو رجل براغماتي تنموي، مؤسس حركة وحزب كوادر البناء التي أسهمت بفلسفتها في إعمار إيران بعد الحرب مع العراق.

لكن هذه المرحلة كانت تتطلب تشددا أكثر مع الخارج، وبالتالي لم يكن الرئيس رفسنجاني هو الأمثل لها، بسبب سجله المعروف في الانفتاح على المنطقة، وبالتالي أُقصى عن اللعبة السياسية ومن طرف صاحبه في انتخابات الرئاسة 2005. لماذا ضحّى خامنئي بالرئيس هاشمي رفسنجاني أمام أحمدي نجاد؟ لأنه كان يرى أن المرحلة المقبلة تتطلب تشددا لا سياسة براغماتية تساوم مع المجتمع الغربي، بسبب الضغوط التي كانت تمارسها الولايات المتحدة على إيران على الكثير من الجبهات والساحات. واللاعب الذكي، في اعتقادي، كان آية الله خامنئي، لأنه رأى أن المرحلة المقبلة لا تتطلب الانفتاح تجاه الغرب، بعد مجيء الرئيس جورج بوش تتطلب تشدد أكثر. فمن الأكثر تشددا في إيران؟ المؤسسة العسكرية. من رمز المؤسسة العسكرية في الانتخابات؟ أحمدي نجاد. لذلك ما إن وصل أحمدي نجاد حتى بات يطلق شعارات نارية ضد إسرائيل وأميركا والغرب. هذه هي الصورة لما حدث في إيران، ولما سيحدث في إيران.