محكمة الحريري (الحلقة الأولى) : محكمة الحريري .. الزلزال السياسي القادم

بولتون لـ«الشرق الأوسط»: ليس لديّ أي شك بتورط سورية.. وأعتقد أن المحققين واثقون أيضاً من تورطها.. والحوار مع دمشق تهديد للمحكمة

متظاهرون من أنصار «ثورة الأرز» يرفعون الأعلام اللبنانية وخلفهم صورة عملاقة للحريري في بيروت («الشرق الأوسط»)
TT

كانت الساعة تشير إلى الواحدة إلا عشر دقائق من يوم الاثنين في الرابع عشر من شباط العام 2005، عندما دوّى انفجار هائل في بيروت تعدى صداه حدود العاصمة. تلك اللحظة، كان بإمكانها أن تكون عابرة وشبيهة بكل لحظات دوي انفجارات الاغتيالات التي سبقتها على مر العقود في لبنان... ولكنها لم تكن كذلك. طوال عقود مضت كانت الاغتيالات السياسية تضرب لبنان، وتحدث موجة من الغضب لدى أنصار المستهدف، أحياناً يخمد بسرعة وأحياناً أخرى يترجم إلى أعمال انتقام واشتباكات مسلحة. ولكن لا الاغتيالات السابقة وجدت من يفك لغزها، ولا ردود الفعل الغاضبة وجدت من يصغي إليها... باستثناء واحد. هذا الاستثناء كان اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، وغضب محبيه الذي نزلوا بمئات الآلاف إلى الشوارع مطالبين بـ«الحقيقة». فرد المجتمع الدولي على الاغتيال والتحركات التي تلته، بإرسال فريق دولي لتقصي الحقائق تحول إلى فريق تحقيق دولي. وذهب إلى أبعد من ذلك عندما تبنى مجلس الأمن مشروع إقامة محكمة خاصة بلبنان تبدأ عملها في الأول من مارس (آذار)، بعد أن فشلت الحكومة اللبنانية بإقرارها إثر انسحاب وزراء حزب الله وحركة أمل منها. أحداث كثيرة مفجرة تلت اغتيال الحريري، ليس أقلها اغتيال ومحاولة اغتيال ثمانية سياسيين وصحافيين معارضين لسورية بين العامين 2005 و2007. عبوات متنقلة راحت تُزرع بين الأحياء السكنية والمراكز التجارية ووسائل النقل في المناطق المسيحية والسنية، أرعبت السكان وفرضت حالة من الجمود والخوف من التنقل طوال أشهر، وحولت العاصمة وبعض المدن الأخرى إلى مدن أشباح. ولعل التطور الأهم الذي نتج عن اغتيال الحريري، كان انسحاب الجيوش السورية بعد 30 عاماً من وجودها في لبنان، وأعقب ذلك عودة الزعيمين المسيحيين إلى الساحة السياسية، ميشال عون من منفاه في باريس، وسمير جعجع من سجنه في وزارة الدفاع.

أربعة أعوام مضت منذ اغتيال الحريري، واليوم لم يعد يفصلنا عن افتتاح المحكمة الخاصة التي ستحاكم قتلة الحريري، إلا أيام قليلة. مع اقتراب انطلاق المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بعد أسبوع واحد، من لاهاي في هولندا، تبدأ «الشرق الأوسط» اعتبارا من اليوم نشر سلسلة تحقيقات وتحليلات، تستهلها اليوم بموضوع حول الأسباب التي أدت إلى نشوء المحكمة الخاصة بلبنان. وتتناول أسباب لجوء الحكومة اللبنانية إلى طلب مساعدة المجتمع الدولي، إضافة إلى التغيرات السياسية التي نتجت عن اغتيال الحريري، وانقسام الساحة اللبنانية بين حركتين أساسيتين: «14 آذار» المؤلفة من تيار المستقبل الذي يرأسه سعد الحريري، نجل رفيق الحريري، والحزب التقدمي الاشتراكي برئاسة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، والقوات اللبنانية برئاسة الزعيم المسيحي سمير جعجع من جهة، وحركة «8 آذار» المؤلفة بشكل أساسي من حزب الله وحركة أمل إضافة إلى التيار الوطني الحر بزعامة عون، وأحزاب صغيرة أخرى.

بعد ظهر ذلك اليوم، كان عشرات المنتحبين قد بدأوا يتوجهون إلى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت بعد أن بدأت وسائل الإعلام تردد أن جثة الرئيس رفيق الحريري قد نُقلت إلى هناك. الصراخ كان يملأ المكان. النساء كن يصفعن وجوههن. والرجال يصرخون بغضب مطالبين بالدخول إلى المستشفى للتأكد من أن القتيل هو رفيق الحريري. حتى الأطفال كانوا يركضون وهم يبكون ويرددون اسم «الشيخ رفيق». رفضت الحشود أن تصدق أن رفيق الحريري قد توفي. ظلوا متمسكين بخيط من الأمل وظلوا يكذبون الصحافيين... إلى أن خرج الأطباء من المستشفى وأبلغوهم بأنفسهم أن الحريري توفي. هستيريا جماعية أصابتهم. الدموع كانت تملأ المكان. والصراخ كان يصم الآذان. استداروا جميعاً وبدأوا بالمشي بخطى غاضبة، متوجهين صوب قريطم، حيث قصر الحريري. كانت الجموع تكبر كلما اقتربوا من القصر. هناك، كان يتجمع المئات، يصرخون غاضبين ويبكون... حل الليل ولم تنم بيروت في ذلك اليوم. في اليوم الثاني لم تخفّ الحشود... بل بدأت تكبر. كانت الحشود في كل مكان. في كل مأتم لضحية من الضحايا الـ 22 الذين قتلوا مع الحريري، كان هناك حشد. ظل اللبنانيون ينزلون إلى الشوارع كل يوم، حتى أصبح التظاهر بالنسبة إليهم نمط حياة يومياً. وبعد مرور شهر على اغتيال الحريري، كان قد تشكل الحشد الأكبر. في 14 آذار، نزل مئات الآلاف من المتظاهرين إلى وسط بيروت، يطالبون باستقالة الحكومة التي كان يرأسها عمر كرامي آنذاك، وباستقالة الضباط الأربعة الكبار المسؤولين عن الأجهزة الأمنية... والأهم، بانسحاب الجيش السوري من لبنان وكشف الحقيقة. في ذلك اليوم كانت الحشود قد بلغت ذروتها. البعض قدرها بمليون شخص، من أصل ثلاثة ملايين ونصف المليون يشكلون سكان لبنان. بعد خمسة أيام على التجمع المليوني، دوى انفجار في منطقة الجديدة، إحدى ضواحي بيروت الشرقية، أدى إلى جرح 11 شخصاً. وبعد ذلك بأربعة أيام دوى انفجار شبيه ثانٍ قتل ثلاثة أشخاص... وثالث ورابع... تفصل بينها بضعة أيام. ومع ذلك، استمرت الحشود بالتظاهر كل يوم في وسط بيروت، بالقرب من جثمان الحريري، تطالب بالحقيقة وخروج القوات السورية.

هذه الثورة السلمية التي بدأها اللبنانيون بشكل عفوي ليلة مقتل الحريري، والتي أطلقت عليها بولا دوبريانسكي، وكيلة وزارة الخارجية الأميركية للشؤون الخارجية، اسم «ثورة الأرز»، أسوة بـ«ثورة الورود» في جورجيا و«الثورة البرتقالية» في أوكرانيا، كانت السبب، يقول الأميركيون، بتوجيه أنظار العالم إلى لبنان. منذ استقلال لبنان عن فرنسا في العام 1943، ويشهد لبنان اغتيالات سياسية استهدفت زعماء كبار، لم يكشف عن أي واحدة منها، ولم تحظ أي منها بالاهتمام الدولي الذي حظي به اغتيال الحريري. ومن بين أبرز تلك الاغتيالات، اغتيال الزعيم الدرزي كمال جنبلاط، والد الزعيم الحالي وليد جنبلاط، في 17 مارس (آذار) من العام 1977. ساد حينها غضب عارم بين مؤيديه، واتهم حينها الحزب السوري القومي الاجتماعي باغتياله، ولكن الأمر انتهى هنا. وفي 14 سبتمبر (أيلول)، اغتيل الرئيس بشير الجميل بعد 21 يوماً على انتخابه، وقبل حتى أن يتسلم المنصب. أصاب اغتياله المسيحيين بإحباط، وأدخل البلاد في حالة من الفوضى. ألقت حينها القوات اللبنانية التي أسسها الجميل، القبض على قاتل الجميل، حبيب الشرتوني الذي كان ينتمي للحزب القومي السوري، وسلمته للجيش. سجن لمدة ثماني سنوات، ثم أطلق سراحه في العام 1990 عندما دخلت القوات السورية إلى لبنان وحررته. ولكن أيضاً، انتهى الأمر هنا. لم يجر تحقيق في من أعطى شرتوني أوامر القتل ولم تأخذ القضية أكثر من هذا البعد الشخصي.

الذي ميز اغتيال الحريري، يقول مسؤول في الخارجية الأميركية لـ«الشرق الأوسط»، كان رد الفعل الشعبي الذي تلاه. «رأينا الأعداد الضخمة في بيروت التي نزلت إلى الشارع بعد اغتيال الحريري، وكانت تطالب بخروج سورية... وعلى الرغم من أن أعمال العنف ومحاولات الاغتيال والاغتيال، استمرت بعد قتل الحريري، فقد بقيت ثورة الأرز مستمرة». ويضيف المسؤول الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، أن الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لم يكونا من بادر بإرسال فريق محققين دولي، ولا بإنشاء المحكمة الخاصة بالحريري، بل كانا «يدعمان الدعوات الآتية من لبنان». والهدف من المحكمة، يقول المسؤول، هو بعث رسالة إلى منفذي الاغتيالات السياسية في لبنان، «أن عهد الإفلات من العقاب قد انتهى... المحكمة ستظهر أنه ليس بالإمكان اغتيال أشخاص من دون أي يحصل شيء في المقابل». وإذا كانت معظم أصابع الاتهام قد وجهت إلى سورية منذ اغتيال الحريري، فإن المسؤول الأميركي يرفض الحديث بوضوح عن رسالة موجهة لدمشق ويكتفي باعتماد مبدأ أن كل متهم بريء حتى تثبت إدانته. ويقول: «المهم في هذه المحكمة، ليس فقط ما إذا كانت موجهة ضد سورية أم لا، لأننا في الواقع لسنا ندري بعد ما إذا كانت سورية فعلا متورطة، المهم أنها ستكون مؤشراً إلى نهاية عهد الإفلات من العقاب في الاغتيالات السياسية في لبنان».

لكن جون بولتون، السفير الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة، يبدو أكثر جزماً عند حديثه عن الرابط بين قرار واشنطن دعم المحكمة الدولية، وسورية. يقول بولتون في حديث لـ«الشرق الأوسط» إن ما جعل قضية اغتيال الحريري دولية، كان «الدليل الواضح على التورط السوري... لم يعد الأمر فقط مجرد شؤون داخلية في لبنان». ويضيف: «أعتقد أن الجميع وليس فقط في واشنطن، بل في أوروبا أيضاً وكل من كان يفهم بقضايا الشرق الأوسط، ظن أن سورية متورطة». السفير الأميركي الذي شغل منصبه كمندوب بلاده في الأمم المتحدة منذ أغسطس (آب) 2005 حتى ديسمبر (كانون الأول) 2006، وكان في قلب صناعة القرار في واشنطن، يقول إنه ليس لديه «أي شك بتورط سورية» باغتيال الحريري. وداخل إدارة الرئيس السابق جورج بوش، يقول بولتون: «لم أعرف بوجود أحد دافع عن السوريين» حينها. ويضيف: «لا أظن أن المحققين أيضاً يعتقدون أن هناك شكاً» بتورط سورية بعملية الاغتيال. وإلى جانب ما يقول بولتون إنه تورط واضح للسوريين في اغتيال الحريري، يقول إن ما دفع واشنطن لدعم تحقيق دولي هو «الاختراق السوري لأجهزة الأمن والقضاء في لبنان»، ويضيف: «اللبنانيون أنفسهم غير قادرين على إجراء تحقيق كامل ونزيه»، ولهذه الأسباب بحثت واشنطن عن طريقة «لتساعد فيها اللبنانيين، والحكومة اللبنانية المنتخبة ديمقراطياً، حكومة (فؤاد) السنيورة». وإذا كان المسؤول في الخارجية الأميركية يقول إن هدف المحكمة توجيه رسالة إلى منفذي الاغتيالات السياسية في لبنان، من دون أن يسميهم، فإن بولتون يؤكد أن الرسالة الأساسية من هذه المحكمة، موجهة بالأساس لإيران وسورية. ويقول السفير: «نحن نعرف ماذا كانوا يحاولون أن يفعلوا في لبنان، والمحكمة هي جهد لمنع ذلك من الحصول، لأنه إذا فهم الناس أن سورية كانت خلف اغتيال الحريري، فقد يعرقل هذا بالتأكيد جهود عودتهم إلى لبنان».

ويضيف بولتون أن «اغتيال الحريري كان تهديداً للأمن والسلام الدوليين، لأنه لم يكن مجرد عمل إجرامي داخل لبنان بل كانت له آثار دولية». ويشرح أن واشنطن استنتجت ذلك «من خلال النظر إلى تصرف السوريين في لبنان لفترة طويلة، إذ حاولوا القضاء على استقلال وسيادة لبنان، وأعتقد أننا كنا محقين بتفكيرنا أنه ليس فقط اغتيال الحريري، بل الكثير من الاغتيالات الأخرى حصلت بهذا الهدف». ويضيف أنه خلال فترة التحقيق الأولى التي أجراها المحققان اللذان تعاقبا على ترؤس فريق التحقيق، ديتليف ميليس وسيرج براميريتس، دعمت واشنطن وساعدت التحقيق على أن يتعدى جريمة اغتيال الحريري، ويشمل الاغتيالات الأخرى التي تلته، لان الأمر «بدا بالنسبة إلينا وكأنه نمط في القتل». وعلى الرغم من أن بولتون لم يكن مسؤولا مباشرة عن وضع السياسة في واشنطن تجاه سورية، ولكنه يعتقد أن هناك عناصر عدة أثرت على تفكير واضعي هذه السياسة وجعلتهم يخطون باتجاه الضغط على دمشق من خلال دعم التحقيق الدولي في قضية الحريري والاغتيالات الأخرى، ثم دعم تشكيل محكمة خاصة. يقول: «دمشق كانت تتصرف بشكل متزايد كأداة لإيران، من خلال تقديم الدعم لحزب الله داخل لبنان، وعلى الرغم من عدم معرفتنا بكل الوقائع هنا، إنما أعتقد أيضاً من خلال تورطها في نشاطات مرتبطة ببرنامج إيران النووي، وأعتقد أن هذا يفسر بناء كوريا الشمالية للمفاعل النووي على ضفاف نهر الفرات والذي دمرته إسرائيل في سبتمبر (أيلول) 2007». ويذكر بولتون أن وزير الخارجية آنذاك كولن باول توجه إلى دمشق، وقال للقادة السوريين: «عليكم أن تغلقوا المقرات الإرهابية في دمشق، وعليكم أن تتخلوا عن برنامجكم لأسلحة الدمار الشامل، وعليكم أن تتوقفوا عن السماح بإدخال الدعم المالي والسلاح للإرهابيين إلى العراق، وعليكم أن تبدوا جدية للتفاوض مع إسرائيل، وإذا فعلتم ذلك يمكنكم أن تحصلوا على علاقة مختلفة مع الولايات المتحدة. ولكن السوريين في البداية رفضوا كل مطالب باول».

وبين دعم «ثورة الأرز»، وهو الشرح الذي قدمه المسؤول في الخارجية الأميركية على أنه الأمر الذي دفع واشنطن لدعم تحقيق دولي في قضية الحريري، وتوجيه رسالة إلى سورية وإيران، بحسب ما يقول بولتون، يرى غرام بانرمان، الذي شغل سابقاً منصب كبير موظفي لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ ومطّلع على طريقة صنع القرار في واشنطن، أن السبب خليط من دعم «ثورة الأرز» وتوجيه رسالة لسورية.

يقول بانرمان لـ«الشرق الأوسط» إن «واشنطن عندما شاهدت قيام «ثورة الأرز» بعد اغتيال الحريري، رأت أن الوقت المناسب جاء لنشر الديمقراطية في المنطقة، ولبنان أخذ المبادرة، ورأت واشنطن أيضاً أن سورية كانت تشكل عائقاً أمام تحقيق ذلك». ويضيف: «لقد آمنت واشنطن بـ 14 آذار ورأت فيهم الأشخاص الذين يطبقون الديمقراطية الحقيقية في لبنان. وجاء الكثير من حركة 14 آذار إلى واشنطن، الكثير منهم يعيشون هنا، وكانوا مقنعين جداً. والولايات المتحدة لم تأخذ المبادرة بل قدمت الدعم للبنانيين». ويشير بانرمان أيضاً إلى أن «الحريري كان وجهاً دولياً حتى قبل أن يصبح رئيساً للوزراء، وتسبب اغتياله بغضب كبير»، ويضيف أن ما تريد واشنطن قوله من خلال المحكمة أن «شخصاً مؤثراً مثل الحريري يتم اغتياله، هو أمر لا يمكن الهروب منه». وإذا كان تيار المستقبل الذي أسسه الحريري، ويرأسه اليوم ابنه سعد، يعتبر أن تجاوب المجتمع الدولي مع طلب الحكومة اللبنانية كان بسبب «حجم الجريمة» وأنه أراد من خلالها «توجيه رسالة ضمنية لسورية»، كما يقول عضو التيار النائب محمد قباني لـ«الشرق الأوسط»، فإن سورية لا تزال تعتبر نفسها غير معنية باغتيال الحريري وتعتبره «شأناً لبنانياً داخلياً». إلا أن النائب السابق في مجلس الشعب السوري فيصل كلثوم، وهو عضو في اللجنة المركزية لحزب البعث، وبقي عضواً في مجلس الشعب من العام 2003 حتى العام 2007، يقول لـ«الشرق الأوسط» إن قضية الحريري «وظفت توظيفاً سياسياً بارعاً للضغط على سورية من قبل كل الأطراف الدوليين» الذين كان يدعمون التحقيق الدولي، ويعتبر أن «فرنسا في عهد (الرئيس السابق جاك) شيراك كانت أسرع حتى من واشنطن في هذا الموضوع». ويقول إن السبب الذي دفع المجتمع الدولي للضغط على سورية، أنها «رائدة دول الممانعة العربية التي يقف وراءها كل مواطن عربي ممانع». ولكنه يعود ويؤكد أن «سورية غير معنية بهذه المحكمة وبهذا الموضوع»، وأن قضية اغتيال الحريري «شأن لبناني داخلي».

ومع اقتراب افتتاح عمل المحكمة رسمياً في الأول من مارس (آذار) المقبل، يكثر الحديث في لبنان عن صفقات قد تعقد مع سورية حول المحكمة، خصوصاً في ظل مقاربة الإدارة الجديدة للتعاطي مع سورية، وحماستها لإيجاد حل لقضية الشرق الأوسط والعمل على التوصل إلى اتفاق سلام عربي – إسرائيلي. ولكن أوباما نفسه يبدو أنه تنبه لهذه المخاوف، إذ أصدر بياناً في الذكرى الرابعة لاغتيال الحريري في 14 شباط شدد فيه على دعمه للمحكمة وعلى إيجاد قتلة الحريري وتقديمهم للمحاكمة. وقد كرر المسؤول في الخارجية الأميركية لـ«الشرق الأوسط» تأكيد دعم الإدارة الجديدة للمحكمة، ونفى إمكانية عقد أي صفقة حولها. ويقول إن «الوقت الذي قد تأخذه المحكمة لإعداد لوائح الاتهام وبدء المحاكمة الفعلية، لا يجب أن يخيف أحداً، لأن هذه الأمور تأخذ وقتاً ليتم بناؤها، وإذا قارنا هذه المحكمة بمحاكم أخرى، نجد أنها لا تسير بطريقة أبطأ، بل على العكس، لأن هذه المحكمة تحظى بدعم دولي كبير.. علينا أن نترك المدعي العام والمحققين يقومون بعملهم». لكن إذا كانت إدارة بوش قد أرادت أن توجه رسالة إلى سورية وممارسة الضغط عليها من خلال المحكمة، كما يقول بولتون، فإن الإدارة الجديدة بمقاربتها الجديدة للتعامل مع سورية، تدفع بالبعض للتساؤل حول ما إذا كانت المحكمة التي تشكلت بهدف معين، قد تنحرف عن هدفها لتجاري سياسة الإدارة الجديدة. فبدل سياسة العزلة وممارسة الضغوط على النظام السوري، التي اعتمدتها إدارة بوش، يريد الرئيس الجديد باراك أوباما أن يجري محادثات مع دمشق قد تؤدي إلى إخراجها من عزلتها. وتقلق مقاربة الإدارة الجديدة بولتون، الذي يعتقد أن سياسة الحوار مع دمشق «تشكل تهديداً للمحكمة». ويقول: «للدرجة التي نعيد فيها شرعنة سورية، نجعل من الصعب على المدعي العام الذي إذا توصل إلى كشف تورط سوري مباشر على مستوى حكومي، أن يتابع في ادعائه أو أن يحصل على تعاون سوري في التحقيق».

إلا أن المسؤول في الخارجية الأميركية، يؤكد أن «السياسة الأميركية تجاه سورية لا تزال خاضعة للمراجعة. فالإدارة قالت بشكل واضح إنه من المهم استعمال كل الأدوات للتعامل مع القضايا المختلفة في العالم، ولكن رغم ذلك فإننا ما زلنا ننظر لسياستنا تجاه سورية». وعلى الرغم من مخاوفه، فإن بولتون يقول إن المحكمة هي «كل ما لدينا» في الوقت الحالي للضغط على سورية، ولا يرفض إمكانية أن يكون لها دور مؤثر في هذا الاتجاه. ويشير إلى أن «السوريين تفاجأوا للمدى الذي ذهب إليه التحقيق ولإقامة المحكمة»، ولكن مع ذلك يقول إنه لم يجد «أدلة لغاية الآن على أن سورية غيرت هدفها الاستراتيجي، وهو إعادة السيطرة على لبنان بأقرب ما يمكن».

ويستبعد أيضاً أن تشهد المحكمة تعاوناً سورياً كاملا، لأنه يقول إن هذا سيعني «التوقيع على مذكرة القبض على القيادة السورية الكبرى». ويضيف: «إذا كانت الأدلة التي يحتاجها المحققون لإثباث تورط سورية موجودة داخل سورية ولا يمكنهم الحصول عليها، فعندها سيكون لدى المحكمة مشكلة. ولكن يبدو لي أن مجلس الأمن رأى أن هناك فرصة أفضل على الأقل أن يتقدم بعض الأشخاص من خارج سورية للشهادة، أو أن نحصل على اعتراف من أشخاص داخل سورية عرفوا ماذا حصل، ويمكنهم أن يشهدوا إذا استطاعوا أن يخرجوا من سورية ويحصلوا على الحماية».

وعلى الرغم من أن بولتون يشكك بسياسة أوباما تجاه الشرق الأوسط، ويقول أن الرئيس الجديد قال امورا مختلفة حول المنطقة «لدرجة أن بامكانه أن يقوم بأي شيء»، إلا أنه يؤكد بأن واشنطن لم ولن تمارس ضغوطا على المحكمة، ويقول انها تعمل بشكل مستقل وان القضاة سيتوصلون إلى استنتاجاتهم الخاصة. لا احد يدري بعد إلى أي مدى ستذهب المحكمة ومن هم الاشخاص الذين سيقدمهم المدعي العام لقوس المحكمة، ولكن المؤكد أنه بعد أربع سنوات من مطالبة المتظاهرين في «ثورة الارز» بـ»الحقيقة»، فان المحكمة التي تهدف إلى كشف هذه الحقيقة، ستبدأ أعمالها بعد اسبوع. وما اذا كانت ستكشف الحقيقة أم لا، علينا حتى ذلك الحين أن نصدق ما قاله نيكولا ميشال، وكيل الامين العام للامم المتحدة للشؤون القانونية، من أن مسار المحكمة «لا يمكن عكسه».

* غدا: ورطة القضاء اللبناني