مستقبل الصراع في أفغانستان (الحلقة السادسة): الدكتور فضل: التفاوض المباشر مع طالبان هو مفتاح الحل في أفغانستان

مؤلف دستور «القاعدة» وأستاذ الظواهري في كتاب جديد تنشر «الشرق الأوسط» حلقات منه

مطالب بأن تكون أميركا أكثر واقعية وهي تتعامل مع بلد تغلب عليه القبلية (أ.ف.ب)
TT

يبدو المشهد في أفغانستان ونحن في بداية العام الجديد 2010 أكثر ارتباكا، وتبدو الحلول الحاسمة أبعد ما تكون عن أجندة الرئيس الأميركي باراك أوباما وإدارته، ويحذر مراقبون من خطورة بقاء الوضع على ما هو عليه، خاصة مع ازدياد أعمال العنف اليومي ضد أميركا وحلفائها. وإذا كان الدكتور فضل قد حذر من الجغرافيا، فإن تحذيرات التاريخ أكثر وضوحا، وهذا هو الجزء الأهم من رسالة هذا الكتاب الذي يستند مؤلفه على كل تجارب الماضي لعل الراغبين في صنع المستقبل أن ينتبهوا.

ويكمل فضل حديثه عن توفر مقومات حرب العصابات الناجحة لصالح طالبان ضد أميركا، ويختتم بالنقطة الأخيرة وهي «دعم إيران» قائلا: «يأتي هذا في المرتبة الثانية بعد باكستان. فإيران لها أيضا عدة ملفات مع أميركا تريد حلها. وتسعى إيران لتكثير عدد أوراقها السياسية كما قلت في الفصل الثالث، وقد قدمت لها (القاعدة) هدايا ثمينة في هذا المجال. إيران تساعد عدوها اللدود (طالبان) لإنهاك عدوها الآخر (أميركا) وذلك بإطالة أمد الحرب في أفغانستان. فإيران لا تريد لطالبان أن تموت ولا أن تنتصر لتبقى ورقة تلعب بها، ولهذا فإيران تعارض أي تقارب بين أميركا وطالبان يحل النزاع في أفغانستان ليكون لها دور في الحل ونصيب من المكاسب. وقد صرح الساسة الإيرانيون بذلك، فقد (اعتبر نائب الرئيس الإيراني رضا أغا زادة أن بدء مفاوضات مع المجتمع الدولي بشأن الملف النووي الإيراني قد تؤدي إلى حل الكثير من المشكلات مثل العراق ولبنان وأفغانستان أو أسعار النفط) من («الشرق الأوسط») 25/7/2008 ص3. أما الملفات التي تريد إيران حلها؛ فمنها على المدى القريب: ألا يتدخل أحد أو يعترض على برنامجها النووي، ورفع أي عقوبات دولية عنها، ورفعها من الدول الراعية للإرهاب، وأن يكون لها دور إقليمي خاصة في العراق ومنطقة الخليج، وعلى المدى البعيد: دور عالمي.

وكل من باكستان وإيران تدعم طالبان وحلفاءها: بالإيواء والسلاح وتسهيل الحركة والاتصالات والإمداد بالمعلومات عن العدو، وغير ذلك من صور الدعم، حتى تصمد طالبان، ولإطالة أمد الحرب لعل أميركا تفهم وترضخ وتقدم تنازلات لهما. ولكن من الذي يدفع ثمن إطالة زمن الحرب؟ إنه الشعب الأفغاني البائس الذي تنزف دماؤه كل يوم.

كانت تلك هي العوامل التي في صالح طالبان وترجح كفتها في صراعها مع أميركا في أفغانستان.

فما الأوراق التي مع أميركا في هذا الصراع؟ منها:

1 - التسليح والتكنولوجيا المتقدمة.

2 - التحالف الدولي الذي يقلل الخسائر الأميركية، بجعل الحلفاء يتحملون شيئا من الخسائر البشرية والمادية.

3 - تعاون بعض الأفغان مع المحتلين (أميركا وحلفاؤها).

4 - إرهاب أميركا للدول المجاورة كي لا تتدخل في الصراع، ولهذا فإن هذه الدول مثل باكستان وإيران لها سقف في التدخل وأحيانا من وراء ستار».

ينتقل المؤلف إلى الجزء الثاني من فصله الرابع، ويتحدث فيه عن المخرج من هذا الصراع الدائر في أفغانستان: «يتضح مما سبق أن الشعب الأفغاني والتاريخ والجغرافيا كلها تعمل في صالح طالبان بالإضافة إلى دعم باكستان وإيران. وقد أدى ذلك إلى قدرة طالبان على الصمود، بل وعلى إحراز تقدم على الأرض على مدى سنوات القتال.

ومن المعلوم أن حرب العصابات الناجحة تمر بثلاث مراحل:

الأولى: مرحلة (اضرب واهرب): وفيها لا تحتفظ العصابات بالأرض وإنما تضرب العدو ثم تهرب إلى قواعد آمنة، وهي مرحلة إنهاك العدو (حرب البرغوث والكلب).

والثانية: (مرحلة التوازن): وفيها تحتفظ العصابات بالأراضي التي تطرد منها العدو، حتى تسيطر على الأطراف والريف، ويبقى العدو مسيطرا على العاصمة والمدن الهامة، وهي مرحلة الندّية للعدو.

والثالثة: (مرحلة الانتصار): وفيها تستولي العصابات على العاصمة والمدن الهامة؛ إما بالقضاء على العدو أو بالتفاوض معه.

والمراقب لما يجري على الأرض في أفغانستان اليوم يجد أن طالبان قد قطعت شوطا كبيرا من المرحلة الثانية (التوازن) واقتربت من مرحلة (الانتصار)، فهي تسيطر - حسب التقارير - على ما يقرب من 70% من أراضي أفغانستان واقتربت من العاصمة كابل، بل وتنفذ عمليات قتالية بداخلها أحيانا.

وينبغي أن تكون أميركا واقعية وتفكر بعقلها لا بعضلاتها فتتخلى عن حميد كرزاي لصالح طالبان، كما كانت باكستان واقعية من قبل عندما تخلت عن حكمتيار (رجلها الأول) لصالح طالبان الأقدر على ضبط أمور أفغانستان، خاصة أن طالبان إنما هي ضحية حماقات ومغامرات أسامة بن لادن، كما لم تكن طالبان معادية لأميركا، بل قد نهى الملا محمد عمر، بن لادن عن الصدام مع أميركا عدة مرات، ولكن بن لادن خدعه، وقد كانت أميركا تدعم طالبان عند نشأتها من أجل استقرار أفغانستان، فقد قال الأخ أبو عبد الرحمن الكندي (أحمد سعيد خضر، وابنه عمر خضر يحاكم الآن في غوانتانامو) رحمه الله، وكان مسؤولا عن (هيئة الإغاثة الكندية) أيام الجهاد الأفغاني الأول وحتى 2001؛ قال الكندي إن (السفير الأميركي في إسلام آباد عقد اجتماعا لهيئات الإغاثة العاملة في أفغانستان وطلب منهم توجيه أنشطتهم إلى الأماكن التي تسيطر عليها طالبان) وكان ذلك عام 1995 قبل استيلاء طالبان على كابل. واستمرت علاقة أميركا بطالبان حتى عام 2000.

كما ينبغي أن تحترم أميركا خصوصيات الشعوب ودياناتها، فأفغانستان ليست هي البلد الذي يتقبل النموذج الغربي ولو على ظهر دبابة كما حدث مع اليابان وكوريا الجنوبية، أفغانستان بلد القبيلة والمولوية، وهذه أمور لا تزيدها الحروب إلا شدة. أما أن تظن أميركا أنها ستفرض الديمقراطية على أفغانستان بالدبابة - كما فرضتها على اليابان بالقنبلة الذرية - أو أن المرأة الأفغانية ستخلع التشادور، فهذه حماقة.

وما صرح به الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما من عزمه على إرسال مزيد من القوات إلى أفغانستان، فهذا يعني أن أميركا لم تتعلم الدرس بعد، وأنها ما زالت تفكر بعضلاتها لا بعقلها، وليست كل الأمور تحسم بالعضلات. إرسال مزيد من القوات معناه: مزيد من الخسائر البشرية لأميركا وحلفائها ومزيد من النفقات، ومعناه: مزيد من قتل المدنيين الأفغان، وهذا يزيد سخط الأفغان على حكومة كابل (حميد كرزاي) وحلفائها المحتلين، ويزيد من دعم الشعب لطالبان، مما يعجل بانتصارها وسقوط حكومة كرزاي.

ومعظم الحروب - مهما طالت - تنتهي بمفاوضات واتفاقيات، إلا إذا رغبت أميركا في خوض حرب فناء في أفغانستان، ستنتهي بها إلى انسحاب مهين كما انسحبت من سايجون (فيتنام) عام 1975، وهذا ما يتمناه كثير من الدول.

وهناك دول لها مصالح في أفغانستان غير باكستان وإيران، منها:

* الهند: التي لا ترحب بانتصار طالبان ولا بتأمين مصالح باكستان في أفغانستان، فقد كانت طالبان هي مركز التدريب الأساسي للحركات الكشميرية المقاتلة التي كان منها ما يعمل تحت إشراف المخابرات الباكستانية العسكرية، ومنها ما كانت صلته بابن لادن مباشرة وهم الذين كانوا لا يثقون بالمخابرات الباكستانية.

* والصين: لا ترحب بالوجود الأميركي على حدودها الغربية في أفغانستان، وهي حليف تقليدي لباكستان.

* وروسيا: لا ترغب أيضا في الوجود الأميركي في أفغانستان، وهي حليف للهند وإيران. خاصة أن روسيا ترى حلف الأطلنطي يحاصرها من كل جهة ويقترب من حدودها.

ومفتاح الحل في أفغانستان هو في التفاوض المباشر مع طالبان، لتفويت الفرصة على الدول المحيطة ذات المصالح، وإلا فمع ضمان مصالح هذه الدول».

يطرح الدكتور فضل سؤالا حرجا: «لماذا يدمر الرب أفغانستان؟» ويجتهد بحثا عن إجابة قائلا: «الإيمان بالقدر هو الركن السادس من أركان الإيمان كما ورد في حديث جبريل عليه السلام (ما الإسلام... ما الإيمان... ما الإحسان؟).

والقدر: هو أفعال الله سبحانه في ملكه وفق علمه القديم، فكل شيء يقع في الكون قد علم الله به منذ الأزل وكتبه في اللوح المحفوظ، فإذا أراد الله وقوعه في وقته المعلوم أوجده الله وخلقه. قال تعالى: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ. وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» (القمر49 ـ 50)، وقال تعالى: «اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ..» (الزمر62)، وقال تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ» (الصافات96). فكل ما يقع في الكون من الميلاد والخلق إلى الموت وما بينهما من الرزق والنصر والخذلان والمصائب والحروب وكل شيء هو من خلق الله، قال تعالى: «مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا..» (الحديد22). والعباد فاعلون لأفعالهم حقيقة ولهذا سيحاسبهم الله عليها كما قال سبحانه: «فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (الحجر 92 - 93)، ولكنهم لا يفعلون شيئا إلا بإذن الله ومشيئته وتمكينه لهم من الفعل، قال تعالى: «وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ...» (الإنسان30)، وقال تعالى: «..كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ» (آل عمران40)، وقال تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ» (الصافات96). فلا يرفع إنسان يده ولا ينقل قدمه ولا ينطق بكلمة إلا بإذن الله وبتمكين الله له بالقوة التي يمنحه إياها، وهذا معنى (لا حول ولا قوة إلا بالله) قال ابن القيم رحمه الله، في هذه العبارة: (وقد أجمع المسلمون على هذه الكلمة وتلقيها بالقبول، وهي شافية كافية في إثبات القدر) من كتابه (شفاء العليل) ص262، ط (دار الحديث) 1997.

والله سبحانه يخلق ويفعل كل شيء بالكلام، بكلمة (كُن)، ولهذا فقد كان الله ولا يزال متكلما حكيما، قال تعالى: «قُل لَّوْ كَانَ البَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا» (الكهف109)، ومثلها آية سورة لقمان27. فإذا قال الله لشيء (كُن) كذا، يكون كما قال في لمح البصر.

وفي هذه المسألة؛ موضوع الحرب والصراع:

*فإن الله سبحانه هو الذي يأتي بالأعداء، كما قال سبحانه: «..وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ..» (النساء90).

*وهو سبحانه الذي يصرف الأعداء ويكف أذاهم، كما قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ..» (المائدة11).

*وهو سبحانه الذي يقتل العدو في الحرب، قال تعالى: «فَلَمْ تَقْتُلُوَهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى..» (الأنفال17).

*وهو سبحانه الذي يأتي بالنصر على الأعداء، قال تعالى: «..وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ» (آل عمران126)، وقال تعالى: «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّة..ٌ» (آل عمران123). ومعنى (أذلة) أي: قليلو العدد والعدة.

وقد جعل الله للنصر أسبابا إن وجدت تنزل النصر، وهي الإيمان: وهو ليس مجرد كلمة تنطق (الشهادتان) وإنما هو مركب من واجبات كثيرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (الإيمان بضع وستون شعبة) الحديث رواه البخاري، وبقدر نصيب العبد من الإيمان يكون نصيبه من وعد الله بالنصر، كما قال سبحانه: «..وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ» (الروم47)، وقال سبحانه: «إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ» (غافر51).

فإذا نقص حظ العبد من شعب الإيمان - بترك واجب أو فعل محرّم - نقص نصيبه من الوعد بالنصر، وقد يعقبه الخذلان والدمار عقوبة من الله على التقصير، وهو سبحانه الذي يفعل هذا كله إذا وجدت أسبابه التي أخبرنا بها.

فإذا نزل الدمار والخراب ببلد أو بقوم دلّ ذلك على ذنوب عظيمة، قال تعالى: «..وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ» (القصص59)، وقال تعالى: «..فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا» (الإسراء16).

وهـذا هـو الحـال في أفغانسـتان منـذ ثلاثـين سنة منذ بدء الاحتلال السوفياتي وإلى الآن (1979 - 2008) دمار وهلاك وخراب وقتلى بمئات الآلاف وجرحى وأرامل ويتامى ومهجرين بالملايين، والله خالق كل شيء وفاعله، وقد أنزل الله بهم هذا لذنوب عظيمة ومعاص هم يعلمونها ولا يسعون في تغييرها، قال تعالى: «وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ..» (الشورى30)، وقال تعالى: «..وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ..» (النساء79)، وقال سبحانه: «أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ..» (آل عمران165)، فالمصائب بسبب النفس لا بسبب روسيا أو أميركا وإسرائيل كما يروج له بن لادن لمصلحته. هذه أسباب ظاهرة، أما السبب الحقيقي الذي جعل الله يسلط العدو الظاهر فهو سبب داخلي، ولن يتغير الحال إلا بإصلاح الداخل والنفس، كما قال سبحانه: «..إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ..» (الرعد11).

أيام الجهاد الأفغاني الأول ضد الشيوعية كثر الكلام عن المنكرات المتفشية بين الأفغان، وكان معظم الأفغان والعرب متفقين على السكوت عن إنكارها بحجة عدم تنفير الناس وعدم تعطيل الجهاد، وما نزل بهم العدو إلا بسبب المنكرات ولا يرتفع العدو إلا بتغييرها، وقد كانت لي محاولات معهم في الإصلاح، فلما لم أجد سامعا ولا مجيبا كتبت ما أريد في باب (الإعداد الإيماني للجهاد) بكتابي (العمدة). وقدِم بعض المشايخ واطلعوا على أحوال الأفغان، وقد اشتد إنكار أحد المشايخ عليهم حتى قال لهم (والله لا ينصركم الله أبدا إلا كما ينصر المظلوم على الظالم أحيانا)، وكان هذا عام 1986م (1406هـ).

فبماذا انتهى الجهاد الأفغاني الأول - الذي جعلوه قميصا للسكوت عن المنكرات - ؟ انتهى بحرب أهلية طاحنة بين رباني وحكمتيار (1992 - 1996)، ثم حرب أهلية بين طالبان وتحالف الشمال (1996 - 2001)، فقتلوا بعضهم بعضا.

وجاءت طالبان فغيرت بعض المنكرات وتركت ما هو أعظم، فأزال الله دولتها على يد بن لادن وأميركا. وما زالت الدماء تنزف في أفغانستان ومنذ ثلاثين سنة، ولم نسمع دعوات من داخل الأفغان تعزو ما حدث إلى ذنوبهم وتدعو إلى إصلاح حالهم، في حين سمعنا هذا من نصارى أميركا، فمنهم من قال (إن أحداث 11/9/2001 كانت درسا من الله لأميركا تستحقه بسبب غضبه عليها) وقائل هذا هو القس جيري فلولويل رئيس جامعة فرجينيا، ومثله القس بوب جونز، وهؤلاء يستنكرون تفشي الزنا والشذوذ والإجهاض والخمور والقمار والتعري والإباحية وفصل الدين عن الدولة، ويرون أن هذا كله من أعمال الشيطان، وأن هذا سوف يدمر أميركا، وهؤلاء لهم أتباع في أميركا بالملايين. فاعتبر النصارى بما نزل بهم من الكوارث ولم يعتبر المسلمون، لا الأفغان ولا بن لادن ولا غيرهم، بل قد اعتبر بن لادن كل ما ارتكبه أصحابه من إجرام بالعراق (مجرد سقطات لا ينكرها إلا من في قلبه مرض) («الشرق الأوسط») 23/10/2007.

وإذا انتهى الصراع الدائر في أفغانستان اليوم بخروج أميركا وحلفائها، فستتكرر الدائرة نفسها: حروب أهلية ودمار وخراب، ما لم يغير الأفغان من حالهم. وهذا الكلام ليس خاصا بالأفغان دون غيرهم، بل هو عام لجميع البشر، فأحكام الله القدرية عامة ولا تحابي أحدا، وإذا تأملت في أحوال البلاد والعباد وما هم فيه من النعمة أو البلاء تجد ذلك صحيحا. قال تعالى: «إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا..» (الإسراء7)، وقال تعالى: «..إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ» (الرعد11)، وقال سبحانه: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ..» (الأنفال53).

قال ابن تيمية رحمه الله (ت728هـ): (وإذا كان في المسلمين ضعف وكان عدوهم مستظهرا عليهم كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم، إما لتفريطهم في أداء الواجبات باطنا وظاهرا، وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطنا وظاهرا) وذكر الآيات السابقة (مجموع الفتاوى) 11/645.

وقال تلميذه ابن القيم رحمه الله: (والله سبحانه إنما ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه القائمين بدينه علما وعملا، ولم يضمن نصر الباطل ولو اعتقد صاحبه أنه محق، وكذلك العزة والعلو إنما هما لأهل الإيمان الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، وهو علم وعمل وحال، قال تعالى: «..وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ» (آل عمران139). فللعبد من العلوّ بحسب ما معه من الإيمان - إلى قوله - وكذلك النصر والتأييد الكامل: إنما هو لأهل الإيمان الكامل، قال تعالى: «إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ» (غافر51)، وقال تعالى: «..فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ» (الصف14). فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد، ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله أو بإدالة عدوه عليه فإنما هي بذنوبه؛ إما بترك واجب، أو فعل محرّم، وهو من نقص إيمانه) من (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان).

ومن قبل ابن القيم وشيخه بقرنين من الزمان؛ لما استولى نصارى أوروبا (الصليبيون) على ساحل الشام وبيت المقدس (القدس) وقتلوا خلقا كثيرا من المسلمين وخربوا البلاد، تصدى لجهادهم بعض أمراء المسلمين ومنهم صلاح الدين الأيوبي، الذي كان لا يفعل شيئا إلا بمشورة القاضي الفاضل، فكتب إليه القاضي فيما نقله ابن كثير، رحمهم الله، قال: (وكان القاضي الفاضل بمصر يدبر الممالك بها ويجهز للسلطان ما يحتاج إليه من الأموال وعمل الأسطول والكتب السلطانية، فمنها كتاب ذكر فيه أن «سبب هذا التطويل في الحصار: كثرة الذنوب وارتكاب المحارم بين الناس، فإن الله لا يُنال ما عنده إلا بطاعته، ولا يفرج الشدائد إلا بالرجوع إليه وامتثال أمره، فكيف لا يطول الحصار والمعاصي في كل مكان فاشية وقد صعد إلى الله منها ما يُتوقع بعده الاستعاذة منه»، وفيه أنه قد بلغه أن «بيت المقدس قد ظهرت فيه المنكرات والفواحش والظلم في بلاده ما لا يمكن تلافيه إلا بكلفة كثيرة»، ومنها كتاب يقول فيه «إنما أُتينا من قِبل أنفسنا ولو صدقنا لعجل الله لنا عواقب صدقنا، ولو أطعناه لما عاقبنا بعدونا، ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره لفعل لنا ما لا نقدر عليه إلا به، فلا يختصم أحد إلا نفسه وعمله، ولا يرجُ إلا ربه، ولا يغتر بكثرة العساكر والأعوان ولا فلان الذي يُعتمد عليه أن يقاتل وفلان، فكل هذه مشاغل عن الله ليس النصر بها، وإنما النصر من عند الله، ولا تأمن أن يكلنا الله إليها، والنصر به واللطف منه، ونستغفر الله من ذنوبنا، فلولا أنها تسد طريق دعائنا لكان جواب دعائنا قد نزل وفيض دموع الخاشعين قد غسل، ولكن في الطريق عائق») من (البداية والنهاية) ط (دار التقوى) 1999. وكلام القاضي الفاضل هذا ينبغي أن يكتب بماء الذهب، وقد كان هذا هو حال السلف الصالح؛ إذا وقعت المصائب أو نزل العدو تذكروا الذنوب وبادروا بالاستغفار مع دفع العدو قدر الطاقة.

قال الله عز وجل: «ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (الروم41)، وقال تعالى: «وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا» (الجن16)».

* الحلقة السابعة: عملية مومباي.. ورسالة بن لادن لأميركا والغرب للتفاوض معه