مستقبل الصراع في أفغانستان (الحلقة السابعة) : الدكتور فضل: عملية مومباي ورسالة بن لادن لأميركا والغرب للتفاوض معه

مؤلف دستور «القاعدة» وأستاذ الظواهري في كتاب جديد تنشر «الشرق الأوسط» حلقات منه

عملية مومباي حلقة من سلسلة رسائل بن لادن التي يطلب فيها الهدنة (إ.ب.أ)
TT

أدرك أسامة بن لادن المأزق متأخرا وحاول الخروج منه بتلميحات متعددة، أطلقها بنفسه صراحة ورددها مرات معاونه أيمن الظواهري، كلاهما عرض الهدنة على أوربا وأميركا، وجاء الرد الغربي رافضا على الطريقة العربية «سبق السيفُ العذَل». بينما جاء رد فعل الرفض من قبل بن لادن والظواهري على طريقة الأطفال في غضبهم ورغبتهم في لفت أنظار الكبار بتحطيمهم لكل ما تطوله أيديهم، فجاءت تفجيراتهم اليائسة التي نفذها عملاؤهم ضد مدنيين وعلى طريقتهم الاستعراضية بحسب الدكتور فضل، لتعكس حالة الإفلاس الفكري الواضحة التي يعانيها هذا التنظيم وغياب المنهج الشرعي الذي ينتهجه أعضائه. ويلخص الدكتور فضل في فصله الخامس وجهة نظره في «ورطة بن لادن» قائلا: «إنه يريد الآن أن يتراجع عما قرره منذ خمس عشرة سنة وأعلنه للعالم منذ عشر سنين: وهو أن قتال أميركا فرض عين على كل مسلم، كما أعلنه عندما أسس جبهته المشؤومة عام 1998. فهو يريد الآن أن يتراجع عن هذا بطلب الهدنة من أميركا، وهي لا تجيبه، وهذه هي ورطته».

يقارن الكاتب بين «القاعدة» وحزب الله قائلا: «بإمكان أي إنسان أن يبدأ معركة مع الآخرين، ولكن ليس بإمكان أي إنسان أن ينهي المعركة وقتما يريد. فحزب الله دخل في حرب مع إسرائيل في يوليو 2006 بسبب حساباته الخاطئة، بعدما أسَرَ جنودا إسرائيليين ولم يتوقع أن يتسبب ذلك في حرب، وقد أدت تلك الحرب إلى دمار في جنوب لبنان حتى بيروت، اعتذر عنه حزب الله، إلا أنه قد نجح في أمور فشل بن لادن في مثلها.

وبغضّ النظر عن المذهب الديني والتوجه السياسي لحزب الله، فقد أثبت نجاحا على المستوى العسكري، وهذه أول مرة منذ نشأة إسرائيل في 1948م تنجح ميلشيات غير نظامية في ما فشلت فيه بعض الجيوش النظامية. وعلى الرغم من نجاح حزب الله في كل ما فشلت فيه (القاعدة) فقد حمل عليه زعيمها حملة شعواء كما نقلت الأخبار: (وعن لبنان: شن بن لادن هجوما عنيفا على الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله متهما إياه بإدخال قوات الأمم المتحدة التي وصفها بأنها قوات [للتحالف الأميركي - الصهيوني] إلى أرض جنوب لبنان لحماية إسرائيل من تسلل المجاهدين) (من صحيفة [الحياة] 31/12/2007 ص3). وكأن بن لادن يخاطب مغفلين بُلْهًا، فشتّان ما بينه وبين حزب الله عسكريا، نسي بن لادن أنه أدخل أميركا إلى كل أرض أفغانستان والعراق فسقط مئات آلاف القتلى في حين لم تقتل قوات الأمم المتحدة الناس، ما زال بن لادن يلعب بقميص فلسطين التي لم يقدم لها إلا الشعارات حتى أرادوا سرقة هذه القضية من أصحابها الأصليين. ونسي بن لادن أنه فشل في ما نجح فيه حزب الله ألا وهو وقف الحرب التي بدأها وهذه هي ورطته».

يسلط فضل الضوء على عروض «القاعدة» من خلال بن لادن والظواهري للهدنة مع أميركا ويفضح ردود أفعالهم على الرفض قائلا: «في عام 2003 عرض بن لادن الهدنة على الأوروبيين، ليدق إسفينا بينهم وبين أميركا وليفكك تحالفهم ويخفف من بطشهم. فلم يستجيبوا لطلبه.

فقام حلفاؤه في أوروبا بتفجيرات دامية، أهمها: في إسبانيا: سـلسـلة تفجـيرات في 4 قطـارات في مدريد وضواحيها أوقعت 191 قتيلا و1800 جريح في 11 مارس (آذار) 2004. وفي بريطانيا: تفجيرات القطارات أوقعت 53 قتيلا غير الجرحى في 7 يوليو (تموز) 2005. وتتابعت المحاولات بعد ذلك خصوصا في بريطانيا. ولم يستجب الأوروبيون لطلب بن لادن الهدنة رغم التفجيرات والقتلى.

فعرض الهدنة على أميركا مطلع عام 2006 فقال: (ولا مانع لدينا من إجابتكم إلى هدنة طويلة الأمد بشروط عادلة، نفي بها، فنحن أمة حرّم الله علينا الغدر والكذب، لينعم في هذه الهدنة الطرفان بالأمن والاستقرار، ولنبني العراق وأفغانستان اللذين دمرتهما الحرب). وهو غير صادق في كلامه هذا، فما سبّب الدمار الذي يتحدث عنه إلا غدره بأميركا.

ثم عرض تابعه الظواهري التفاوض على أميركا بنهاية نفس العام 2006 فقال: (إنكم لا تتفاوضون مع القوى الحقيقية في العالم الإسلامي، ويبدو أنكم ستخوضون رحلة مؤلمة من المفاوضات الفاشلة ثم ستعودون بإذن الله مكرهين للتفاوض مع القوى الحقيقية، [في إشارة إلى تنظيم القاعدة]). (من صحيفة [الحياة] 21/12/2006). والمشكلة أنهم لا يستحيون: هربوا من أمام أميركا وتخصصوا في قتل المدنيين الضعفاء حتى قتلوا آلاف المسلمين، وتجرأوا على تحريف دين الإسلام نفسه ليبرروا إجرامهم، ويسموا أنفسهم (القوى الحقيقية في العالم الإسلامي).

فلم تستجب لا أميركا ولا أوروبا لطلب بن لادن والظواهري الهدنة، فقام فرع (القاعدة) في الجزائر بعملية انتحارية في أواخر 2007 ضد مصالح أجنبية سقط فيها 62 قتيلا وأكثر من 200 جريح معظمهم من الجزائريين ومن طلاب المدارس، وكان هدفهم من ذلك إرغام الغرب على الرضوخ لمطالب زعيم (القاعدة)، فقد أعلن هذا الفرع أن من أهداف التفجير تذكير الغرب بوجوب (الإصغاء جيدا لمطالب وخطابات شيخنا وأميرنا أسامة بن لادن)، وقد وقع هذا التفجير في 11/12/2007، أي أن دماء الشعب الجزائري المثقل بالجراح أصبحت مجرد رسالة من بن لادن للدول الغربية. ومع ذلك يقول بن لادن: (أريد أن أقول للمسلمين إننا نحاول حماية الأمة من أعدائها ومكافحتهم في كل مكان) (صحيفة [الحياة] 31/12/2007).

وعلى الرغم من عملية الجزائر ضد مصالح غربية لم تستجب أميركا ولا أوروبا لمطالب بن لادن، ونظرا إلى تعرضهم لنقد شديد بسبب سقوط قتلى مسلمين في عملية الجزائر يبدو أنهم خططوا للعملية التالية في بلد غير إسلامي، وهي عملية مومباي».

يرصد الكاتب هذه العملية بمزيد من التفاصيل قائلا: «تعرضت مدينة مومباي (بومباي) عاصمة المال والأعمال في الهند لعدة هجمات على مدى ثلاثة أيام 26 - 29/11/2008، شملت فنادق ومحطة قطارات ومقهى ومستشفى، وسقط فيها نحو 200 قتيل و300 جريح، ربعهم (25%) تقريبا من المسلمين، قام بها مجموعة من المسلحين قُتلوا جميعا إلا واحدا.

وعلى الرغم من أن الأمر قيد التحقيق وقت كتابتي هذه، فإنني ومنذ اللحظات الأولى للعملية أدركت أنها من صنع تنظيم القاعدة، وذلك بنسبة 99%. وأن هذه العملية - بما فيها من القتلى والجرحى والخراب الواسع - ما هي إلا مجرد رسالة على طريقة بن لادن للضغط على أميركا والدول الغربية من أجل التفاوض معه بعد تجاهلهم لعروضه السابقة. فعملية مومباي هي حلقة من سلسلة الضغط من أجل التفاوض، ولهذا فيمكن أن تتكرر إذا جاءت الفرصة في أي مكان.

أما لماذا قلت إن عملية مومباي هي من صنع (القاعدة)، فلأسباب، منها:

1- أنها حلقة في سلسلة الضغط من أجل التفاوض، خصوصا أن المهاجمين لم يكونوا جادّين في التفاوض أو عرض مطالب لإطلاق الرهائن ([الشرق الأوسط] 1/12/2008 ص3). وإنما كان غرضهم القتل، وهذه هي رسالة بن لادن، ومعناها أن التفاوض يكون معه لا مع الجنود.

2- إن عملية مومباي هي من نوع العمليات القتالية الخاصة، وقد ذكرت أن هذا هو نمط عمليات (القاعدة).

3- كما ذكرت في الفصل الأول: إن (القاعدة) في سعيها لسد الفجوة الضخمة بين أطماعها وقدراتها الذاتية المحدودة تلجأ إلى تضخيم نفسها عسكريا أمام الآخرين بوسائل من أهمها: القيام بعمليات استعراضية ضخمة وسهلة (أي ضد أهداف ضعيفة أو عديمة التأمين والحماية) إذا وجدت الفرصة لذلك. وهكذا كانت عملية مومباي.

4- كما ذكرت في كتابي هذا من قبل فإن (القاعدة) تخصصت في قتل المدنيين الضعفاء، وهكذا كانت عملية مومباي. أما أن (القاعدة) في الجزائر تهاجم قوات الأمن فهذا شيء آخر، لأن هذا فرع مستقل يعمل وحده منذ 1992 ضد الحكومة الجزائرية وله أجندته الخاصة، وإنما التحق بـ(القاعدة) عام 2006 من باب زواج المصلحة وتبادل المنافع، ومن وقتها كثر قتله للمدنيين.

5- أن عملية مومباي كانت قتلا عشوائيا بالجملة دون تمييز، وهذه من خصائص (القاعدة).

6- أن عملية مومباي كانت ضرب أهداف متعددة في نفس الفترة، وهذه من خصائص (القاعدة) كما فعلتها في نيروبي ودار السلام 1998، وفي نيويورك وواشنطن 11/9/2001، وكذلك تفجيرات (بالي) في إندونيسيا 2002، والرياض في السعودية 2003 ومدريد 2004، ولندن 2005، كلها كانت تفجيرات متعددة في نفس الوقت، وهذه من خصائص (القاعدة) في الاستعراض لتضخيم الذات كما أكد عليه صاحبهم مؤلف (إدارة التوحش).

7- أن عملية مومباي كان من أهدافها قتل أجانب (قُتل فيها نحو عشرين من أميركا وإسرائيل وبريطانيا وغيرها)، وهذا القسم من القتلى هو الرسالة الموجهة إلى الغرب من أجل التفاوض مع (القاعدة).

8- أن عملية مومباي وقعت في عاصمة المال والأعمال الهندية، كما كانت عملية 11/9 في عاصمة المال والأعمال الأميركية (نيويورك)، ليكون لها صدى عالمي، ولإيقاع أكبر قدر من الخسائر المالية. ومعروف عن بن لادن أنه مولع بالشؤون المالية لدرجة أنه كان يظن أنه يمكن أن يصنع كل شيء بالمال، ولقد ظل يحسب خسائر أميركا المالية المباشرة وغير المباشرة بسبب 11/9 فبلغ بها إلى تريليون دولار.

9- أن عملية مومباي كانت انتحارية بصورة أخرى - غير تفجير النفس - إنما كان الانتحار فيها بالقتل والقتال حتى الموت، وهذه العمليات الانتحارية من خصائص (القاعدة). ونجا أحد المهاجمين بسبب إصابته المبكرة.

10- أن عملية مومباي كانت من تنفيذ باكستانيين من منظمة (عسكر طيبة) المحسوبة ضمن المنظمات الكشميرية المقاتلة للهند. وهذه المنظمة وإن لم تكن تابعة لـ(القاعدة) فهي على صلة وثيقة بها، ولا يلزم أن يعلم المهاجمون بذلك بل يكفي منسّق واحد بينهم وبين (القاعدة) لتنفيذ المطلوب، كما كان هو دور حمبلي في تفجيرات بالي. وفي هذه الحالة تكون (عسكر طيبة) تقوم بحرب وكالة بالنيابة عن (القاعدة). وقد كان لابن لادن دور مهم في دعم حافظ محمد سعيد (مؤسس عسكر طيبة) منذ 1990، وقد حضرت ذلك، إلا أن حافظ سعيد اضطر إلى الابتعاد عن بن لادن وهاجم تفجيرات 11/9 ليحافظ على الدعم المالي الذي يأتيه من السعودية.

هذه عشرة أسباب كلها ترجح أن عملية مومباي هي من صنع (القاعدة)، أما تبنّي بعض المنظمات الوهمية (مجاهدي ديكان) للعملية فهذا يذكّرنا بالإعلان الذي صدر عقب تفجيرات 11/9 ونسبها إلى منظمة تنتقم لضحايا القنبلة الذرية الأميركية في هيروشيما ونغازاكي باليابان عام 1945، هذه بيانات للتضليل والتقاط الأنفاس. ولا ننسَ أن بن لادن لم يعلن مسؤوليته الصريحة عن 11/9 إلا بعدها بسنوات، ولكن الرسالة كانت قد بلغت أميركا من أول يوم، وكذلك في عملية مومباي ينبغي أن تكون الرسالة قد وصلت فالعملية تحمل جميع بصمات (القاعدة)، بل هي علامة مسجلة لـ(القاعدة)».

ويلخص فضل أهداف القاعدة من عملية مومباي في النقاط الخمسة التالية: 1- عملية مومباي هي رسالة من بن لادن لأميركا والغرب للتفاوض معه، وهي حلقة من سلسلة رسائله القولية والعملية التي طلب فيها الهدنة من قبل. وهذا يعني - باختصار - أن العالم كله من المسلمين وغير المسلمين عليهم أن يدفعوا ثمن تحقيق رغبات بن لادن الشخصية، لأنه - وكما أعلن - يعمل لتحقيق مصالح المسلمين، في حين أنه يقتل المسلمين في كل مكان ويعتبرها مجرد سقطات.

2- وعملية مومباي وما رافقها من دعاية أنها ثأر لما تفعله الهند بكشمير تؤدي لأن يكسب بن لادن المزيد من الأتباع من الباكستانيين الذين يعتبرون كشمير قضيتهم الدينية والقومية الأولى. على الرغم من أن هذه العملية تعود بالضرر على مسلمي الهند وكشمير، لكن هذا لا يهم بن لادن. وكسب مزيد من الأتباع في باكستان مهم جدا لابن لادن في هذه المرحلة نظرا إلى تقلص قدرته على تحريك قوته الأساسية (السعوديين).

3- وعملية مومباي مهمة لتمويل (القاعدة). وقد ذكرت في الفصل الأول أن المال أصبح هو سيد القرار في كثير من الجماعات الإسلامية، وكثير من الممولين (المتبرعين) لا يدفعون إلا للعمليات الساخنة، ولهذا فبعض الجماعات تنفذ عمليات فقط بغرض جمع المال. في حين أن فاقد النفقة لا يجب عليه الجهاد - كما ذكرت في (وثيقة ترشيد العمل الجهادي) - إن كان ما يفعلون جهادا.

4- وعملية مومباي بما تسببه من التوتر بين الهند وباكستان يمكن أن تؤدي إلى سحب القوات الباكستانية الموجودة قرب منطقة القبائل الغربية (وزيرستان: وهي مأوى [القاعدة] وطالبان) نحو الحدود الشرقية لباكستان مع الهند، وهذا يخفف الضغط على (القاعدة) ويسمح لها بحرية الحركة.

5- كما ترفع علمية مومباي من أسهم بن لادن لدى حلفائه في المخابرات الباكستانية.

فهذه كلها فوائد مهمة لـ(القاعدة) تستحق تنفيذ عملية مومباي: فهي رسالة استعراضية للتفاوض، وتجلب مزيد من الأتباع للتجنيد ومزيد من الأموال، ويمكن أن تخفف الضغط عنها في وزيرستان.

ويطرح الدكتور فضل سؤالا هاما: هل يمكن أن تتكرر عملية مومباي؟ ويجيب قائلا: «لا شك أنها قابلة للتكرار وبسهولة لأسباب:

- أن الهدف الأساسي منها - وهو التفاوض بين بن لادن والغرب - لم يتحقق بعد، وليست لدى (القاعدة) قدرة على الدخول في حرب مواجهة مكشوفة مع أعدائها، بل كانت تهرب منها دائما وتكمن، ثم تختار الأهداف الضعيفة التأمين لضربها، وتكرر ذلك، ليضطر الغرب إلى التفاوض معها، لأن الأهداف المدنية لا حصر لها في العالم، و(القاعدة) جعلت العالم كله ساحة للمعركة، حتى إنه لم يرحم أهل بلده (السعودية) من هذه المعركة، وتأمين كل الأهداف المدنية في العالم يحتاج إلى تكلفة مالية خيالية، وابن لادن يحسب كل شيء بالمال، وتقديره أن الغرب سيُضطرّ إلى إجابته للهدنة والتفاوض تحت وطأة التكلفة المالية الباهظة.

- أن الأهداف المدنية السهلة الضخمة التي عادة ما تقصدها (القاعدة) في عملياتها كثيرة ومنتشرة في كل مكان، فقط يحتاج الأمر إلى تصوير واستطلاع بدأ التدرب عليه في نيروبي عام 1993. ولدى (القاعدة) الآن في أرشيفها الكثير والكثير من الأهداف المرصودة والجاهزة للضرب إذا جاءت الفرصة.

- أن التكلفة المالية لتنفيذ هذه العمليات الاستعراضية تافهة زهيدة مقارنة بالخسائر البشرية والمادية التي تسببها، فالتمويل ليس مشكلة، كما أن (القاعدة) لا تنقل الأموال بالقنوات المعروفة وإنما تعتمد أساسا على النقل الشخصي (التسليم باليد نقدا).

- أن السلاح الأساسي الذي تعتمد عليه (القاعدة) موجود ومتوفر وبلا تكلفة، وينتقل هذا السلاح بنفسه إلى الهدف دون توجيه من الأقمار الصناعية ولا غيرها. وهذا السلاح هو الشباب المستعدون للموت والانتحار والذين قامت (القاعدة) بعملية (غسل مخ) لهم، فينفذون التعليمات دون معرفة هل هي حلال أم حرام! هؤلاء الشباب هم وقود معركة بن لادن والورقة الرابحة التي يلعب بها، فهو قد أقنعهم بأنه وحده المؤهل للفتوى في شؤون الجهاد رغم جهله بالدين. ولكن أتباعه - وكما ذكرت من قبل - إما جاهل بدينه وإما منتفع بدنياه، وكان بن لادن يطرد على الدوام من يراجعه في أمور الدين أو حتى في أفكاره. ولهذا قال صاحبهم محمد خليل الحكايمة: (وإننا في هذا الصدد لنؤكد أن منظّرَي القاعدة ومفكّرَيها الأساسيَّين هما الشيخ أسامة بن لادن والدكتور أيمن الظواهري ولا أحد سواهما، وأن ما يصدر منهما من إصدارات وتوجيهات يمثل فكر القاعدة ومنهجها) من (مركز الفجر للإعلام) في 10/6/2007، وهو بهذا جعل (القاعدة) بلا غطاء شرعي وحمّلهما مسؤولية كل جرائم (القاعدة)، ولم ينضم الحكايمة إلى (القاعدة) إلا عام 2006، فهو لا يعرفها جيدا، كما لم ينضم الظواهري إليها إلا في شـهر 6/2001، أمـا مؤسـس (القاعـدة) الذي يعـرفها من الألف إلى الياء وهو أبو حفص المصري فقد قال: (لا رجال حول بن لادن، والقاعدة هي بن لادن فقط)، فما الظواهري إلا مجرد تابع. والحاصل أن بن لادن سيطر على عقول أتباعه لينفذوا ما يريده مقابل دخول الجنة ومنحهم رتبة (الشهيد) وهي أمور لا يملكها، ثم جعلوا من يخالفونهم خوَنة فَسَقة، فجعلوا الجنة مختصة بهم.

ومع تعذر تحريك أتباعه الأساسيين في السعودية واليمن لجأ بن لادن إلى تحريك الباكستانيين ومعظمهم عوام لا علم لهم بالدين وتغلب عليهم الحماسة والعاطفة - يكفي أنهم هتفوا لصدام حسين لما احتل الكويت لمجرد أنه قال إنه سيضرب إسرائيل بالسلاح الكيماوي المزدوج، وهل يهتف لصدام مسلم يعرف دينه - وتحريك الباكستانيين ضد أهداف هندية لنصرة كشمير شيء سهل، وهم لا يدرون أن سبب موتهم وقتلهم للآخرين ليست كشمير وإنما إرسال رسالة إلى الغرب للتفاوض مع بن لادن، تماما كما فعل فرعهم في الجزائر.

وبناء على ما سبق يمكن القول إن عملية مومباي قابلة للتكرار، خصوصا في البلاد التي لابن لادن فيها أتباع أو حلفاء، أو من السهل وصولهم إليها. بل إذا سمحت الفرصة - وسياسة (القاعدة) هي انتهاز الفرص - سيتكرر ما هو أشد من مومباي بسبب طول مدة الحرب وضيق الحصار على بن لادن، وحاجته إلى الخروج من هذه الورطة بالتفاوض المباشر مع أميركا ليحصل على شيء ولو سلامته الشخصية بعد كل الكوارث التي سّببتها جبهته المشؤومة منذ 1998.

وأي عملية ضد أهداف غربية (أوروبية أو أميركية) ترى (القاعدة) أنها تصب في مصلحتها وإن لم تنفذها بنفسها، لأنها تصب في الضغط من أجل التفاوض، ولهذا فقد حرصت (القاعدة) على نشر هذه الفكرة على أوسع مدى، ومن هذا: بث موقع أصولي على الإنترنت إرشادات عن كيفية الانضمام إلى (القاعدة) وتكوين خلايا سرية، وشرح موقع (الثابتون على العهد) الذي يديره محمد خليل الحكايمة... يوم 26 أغسطس (آب) الماضي (2007) كيفية تحديد الأهداف وإجراء الاستطلاع. وقال الموقع: (إن دورنا هو التحريض والدعوة إلى الجهاد، ودور المسلمين هو اختيار الهدف... لا حاجة بك إلى لقاء جهادي آخر لتصبح أنت الآخر مثله... تخيل أن [القاعدة] غير موجودة وتريد الانضمام إلى حركة الجهاد العالمي فما عليك إلا أن تتخير الشباب الصغير السن... لتكوين خلية صغيرة العدد... وأن يعتبر أمير الخلية نفسه أسامة بن لادن بالنسبة إلى بقية الأعضاء من جهة وضع الأهداف)... واستعمل الحكايمة لغة التحريض وهو يحث زوار موقعه على العنف وتساءل: (ما الفرق بينكم وبين محمد عطا زعيم الانتحاريين في هجمات سبتمبر [أيلول]؟) ([الشرق الأوسط] 2/9/2007 ص11). وهذا الكلام هو نفس ما ذكرته في (رابعا) بالفصل الأول من أن (القاعدة) من أجل حل معادلتها الصعبة (أطماع ضخمة وقدرات محدودة) تحاول تحريك الجماهير لتخوض المعارك بالنيابة عنها منذ إعلان جبهتهم المشؤومة في 1998 وهنا الحكايمة يحاول نشر الخلايا الصغيرة لإزعاج الغرب ليتفاوض مع بن لادن فيأمر هذه الخلايا بالسكوت. ومعظم ضحاياهم من المسلمين، حتى إنهم لما قتلوا فرنسيين في السعودية عام 2007، اتضح أنهم مسلمون فرنسيون جاءوا للعمرة. ولهذا فقد قلت في (وثيقة ترشيد العمل الجهادي) إن الجنسية ليست دليل كفر أو إيمان أو استحلال دم ومال، وإنما هي للتعريف بخلاف ما يقوله الجهال أمثال بن لادن والظواهري.

إلا أن هذه الخلايا التي حرّض الحكايمة على تكوينها لا تستطيع تنفيذ عمليات ضخمة مثل مومباي، وإنما غايتها تنفيذ فرقعات للإزعاج. أما عملية مومباي فهي - مثل عملية 11/9 - تحتاج عددا كبيرا نحو ثلاثين فردا ويستغرق الإعداد لها من سنة إلى سنتين، ابتداء من:

- اختيار الهدف المناسب (ضخم، ضعيف الحماية، به أجانب غربيون...).

- إلى الاستطلاع والتصوير.

- إلى التخطيط للعملية.

- إلى اختيار المنفذين المناسبين (من ناحية السن ومعرفتهم باللغة والمكان).

- إلى تدريب المنفذين المهاجمين.

- إلى تجهيز مسرح العمليات.

- إلى التمويه والتنفيذ، وغالبا لا يوجد انسحاب (عملية انتحارية).

هذا يحتاج من سنة إلى سنتين، ولهذا يمكن القول بأن عملية مومباي بدأت كفكرة في النصف الأول من 2007م. ويلاحظ أيضا أن مومباي 2008 هي تكرار موسع لعمليات قديمة سبقت في مومباي، ومن العمليات القديمة تستخلص الدروس المستفادة لتحقق العملية الجديدة أهدافها، وهذا هو نفس ما حدث في تفجير أبراج مركز التجارة العالمي في نيويورك في 11/9/2001، فهو تكرار لما قام به نفس الشخص (خالد شيخ محمد) عام 1993 ولكن بصورة محدودة استفاد منها في تضخيم 11/9 لإيقاع أكبر عدد من القتلى.

و(القاعدة) لديها في أرشيفها أهداف غربية كثيرة في بلدان متعددة جرى استطلاعها من قبل، ابتداء من نيروبي في 1993، ولهذا قلت إن عملية مومباي يمكن أن تتكرر - إذا جاءت الفرصة - في أي مكان بالعالم؛ ألم يقل بن لادن عندما أعلن جبهته المشؤومة في 1998: (قتل الأميركان وحلفائهم مدنيين وعسكريين فرض عين على كل مسلم أمكنه ذلك في كل بلد تيسر فيه)؟ (من صحيفة [القدس العربي] 23/2/1998م). فهو قد جعل كل البلاد ساحة لقتل الأميركان وحلفائهم ولا يفرق بين مدني وعسكري».