مستقبل الصراع في أفغانستان (الحلقة الثامنة) : الدكتور فضل: ورطة بن لادن في رفض أميركا طلبه الهدنة

مؤلف دستور «القاعدة» وأستاذ الظواهري في كتاب جديد تنشر «الشرق الأوسط» حلقات منه

طلب زعيم القاعدة للهدنة ينسف كل قراراته بشأن الجهاد منذ إعلان جبهته المشؤومة (رويترز)
TT

أدرك بن لادن أن حساباته كلها كانت خاطئة، وتوقعاته لم تحدث، وهو نفسه تحول إلى ورقة سياسية ومجرد فزّاعة، وقد طال عليه الحصار، خصوصا أن هناك تعليمات صريحة بقتله إذا أوشكت أميركا أن تأسره، ليموت وتموت معه أسرار اللعبة الخبيثة التي يلعبها، فأراد أن يخرج من الحصار والتهديد وينعم بالأمن والاستقرار الذي حَرَم منه الآخرين فعرض الهدنة على أميركا ليخرج من ورطته.

يستكمل الدكتور فضل حديثه عن ورطة بن لادن وعلاقة «القاعدة» بعملية مومباي، وبعد أن تحدث عن أهدافها من هذه العملية ومدى إمكانية تكرار مثل هذه العمليات، يختتم حديثه قائلا: «قام السودان بطرد الظواهري في 1995 وبن لادن في 1996 بسبب الضغوط عليه، فذهبا إلى أفغانستان وهناك مارسا نفس الدور وتحولا من أوراق في يد السودان إلى أوراق غير رسمية في يد باكستان (نَمرين) لتخويف أميركا والهند وغيرهما، ولتحقيق مصالحها الخاصة كما ذكرت في الفصل الرابع. ومعلوم العلاقة الوثيقة بين المخابرات الباكستانية وبين طالبان و(القاعدة) والجماعات الكشميرية. وقد عقد بن لادن مع هذه المخابرات اتفاقا قبل 11/9 وهو مقيم في أفغانستان. فهذه الأربعة تشكل أضلاع مربع، وبينها تداخل وثيق، ولكنها ليست شيئا واحدا.. فلكل منها أجندته الخاصة. ولأنها أوراق غير رسمية فمن الممكن أن تنفي باكستان صلتها بها، ومن الممكن أن تضيق عليها أو تضربها أحيانا، فقد سلمت باكستان لأميركا بعد 11/9 أكثر من خمسمائة شخص وشكرتها أميركا، ثم اكتشفت أميركا أن معظم هؤلاء ليست لهم صلة (بالقاعدة) وليسوا من المهمين. وأميركا اكتشفت أيضا أن باكستان تراوغها ولهذا لجأت إلى القيام بعمليات بمفردها داخل باكستان. مع العلم بأن المخابرات الباكستانية شيء وحكومة باكستان شيء آخر، فالمخابرات هي الحاكم الفعلي والحكومة واجهة دبلوماسية.

كان كثير من الشباب الباكستاني قد انضموا لـ(القاعدة) مباشرة، لا عن طريق الجماعات الباكستانية أو الكشميرية التي كانوا لا يثقون فيها لأنها تحت سلطة المخابرات (ISI). ولهذا فمن الجائز أن منفذي عملية مومباي لم تكن لهم أي صلة لا بحكومة باكستان ولا بالمخابرات الباكستانية، وإنما صلتهم بـ(القاعدة) إما مباشرة عن طريق أحد المهاجمين الذين قُتلوا، وإما عن طريق وسيط.

واستبعد أن تنفذها جماعة كشميرية لحساب نفسها لأنها ستحسب على المخابرات الباكستانية التي لا أظن أن تغامر بمثل عملية مومباي. في بيشاور عام 1991م.. ذهب أحد المجاهدين العرب لاستطلاع خط القتال في كشمير، بين باكستان والهند، وهو الأخ أبو فراس السوري (ضابط سابق في الجيش السوري) وبعدما عاد قال لي: (لا يمكن أن تطلق رصاصة واحدة هناك إلا بعلم وإذن المخابرات الباكستانية، وأن أحد الضباط الباكستانيين هناك قال إنهم يقدرون خطورة طلقة واحدة).

وبعد عملية مومباي أبدت حكومة باكستان استعدادها للتعاون مع الهند في التحقيقات، إلا أنها احتفظت بأهم ورقة وهي رفضها تسليم أحد من المشتبه فيهم للهند، وإن أدى ذلك إلى حرب بينهما، بل رفضت أن يستجوبهم محققون بريطانيون. فباكستان رفضت أي اتصال بين المشتبه فيهم والهنود أو البريطانيين، لأن ذلك قد يؤدي إلى كشف كل الأوراق وكل أضلاع المربع المتداخلة (مخابرات باكستان وتنظيمات كشمير وطالبان و[القاعدة]). قال وزير الخارجية الباكستاني شاه محمود قريشي: (حتى لو ثبتت التهم الهندية في حقهم لن نسلمهم للهند، سنحاكمهم بأنفسنا بموجب القانون الباكستاني... إننا لا نريد الحرب لكننا مستعدون تماما في حال فرضت علينا). (من [الشرق الأوسط] 10/12/2008 ص10)».

ويتساءل فضل لماذا طلب بن لادن الهدنة من أميركا؟ ويحاول أن يجيب قائلا: «خرج أسامة بن لادن عام 1992 من السعودية وهو عازم على معارضتها وأقام في السودان يصدر بيانات الهجوم والتحريض ضد السعودية، ولما قرر السودان إبعاده عام 1996 تراجع وأرسل رسالة اعتذار عما فعله للسلطات السعودية فلم تقبل اعتذاره ولم ترحب بعودته إليها، فذهب إلى أفغانستان.

وهذا هو نفس ما يفعله اليوم مع أميركا، تمادى في الصدام معها حتى حطم كثيرا من قواعد الدين نفسه ليستحل قتل أكبر عدد من الأميركان وغيرهم من المسلمين وغير المسلمين، ولما وصل إلى طريق مسدود واكتشف أن كل حساباته كانت خاطئة ولم يتحقق ما أراده من الصدام، أراد أن يتراجع فطلب هدنة من أميركا، هذا هو سبب طلبه الهدنة إجمالا، وبشيء من التفصيل:

1- توقع بن لادن أن تنهار أميركا وتهزم سريعا، وكان يردد دائما أن أميركا ضعيفة جدًا - كما كان يصف النظام السعودي بذلك أيضا - وكان تقديره أن أميركا لن تأخذ في يده (غَلْوَة)، وستركع أمامه وتنفذ مطالبه بعد عمليتين أو ثلاث، خصوصا بعد 11/9، ولم يحدث ما توقعه فما زالت أميركا تحارب في أكثر من جبهة لسبع سنين (2001 - 2008)، فكانت توقعاته خيالية وحساباته خاطئة، ودفع ثمنها المسلمون قبل غيرهم قتلا وخرابا.

2- لم يتوقع بن لادن أن تحتل أميركا أفغانستان عقب 11/9، ولكنها احتلتها، ولم يستطع منعها، ولم يتصدوا لها كما كانوا يتمنونه منذ أيام الصومال 1993، ولم يستطع حماية تنظيمه ولا الدفاع عنه ولا عن طالبان وأفغانستان التي آوته، بل هربوا جميعهم هروبا مهينا، وكان في هذا على النقيض تماما من حزب الله الذي ينتقده كما ذكرت في التمهيد في أول هذا الفصل، وفشل بن لادن و(القاعدة) في كل ما نجح فيه حزب الله.

3- توقع بن لادن أن تثور الأمة بعد أحداث 11/9، وتحقق أهداف بن لادن التي عجز عن تحقيقها بقدراته الذاتية، بحسب النظرية التي اخترعوها وذكرها الظواهري في ص193 من كتابه (فرسان)، قال: (إن الجماهير لكي تتحرك تحتاج إلى قيادة... وعدو واضح... وكسر قيد الخوف). فالقيادة: بن لادن، والعدو: أميركا وإسرائيل، وكسر قيد الخوف: بعمليات (القاعدة). وبعد ذلك يجب أن تتحرك الجماهير لتخوض حرب وكالة بالنيابة عن بن لادن، الذي قال لهم: (يا أمة الإسلام ثوري على الظلم والطغيان)، و(أصدر بن لادن بيانا لتحريض الأمة على الجهاد لتحرير الكعبة والمسجد الأقصى). وقال الظواهري في ص193 من كتابه (التبرئة) (تستعيد الأمة أملها في العزة وثقتها في نفسها وتبدأ في المشاركة في التصدي للظلم والظالمين، وكنا نتوقع وهو ما حدث اليوم بالضبط)، أي أن دورهم هو دور السمسار والمقاول الذي يريد أن يكسب من إمكانيات غيره. إلا أن الذي حدث كان عكس ما توقعوه تماما، فأرادوا التراجع بطلب الهدنة من أميركا. فالذي حدث أن الجماهير انقلبت عليهم وساعدت أميركا ضدهم:

* ففي أفغانستان: مع بدء الغزو الأميركي لها في 7/10/2001 بسبب أحداث 11/9، تعاون بعض الأفغان مع أميركا ضدهم، لأنهم رأوا أن (القاعدة) والعرب هم سبب الاحتلال، فوضعوا الشرائح التي ترشد الطائرات الأميركية إلى أماكن وجود العرب، وبهذا قتل أبو حفص المصري ومئات غيره، كما أسروا من أمكنهم أسره من العرب وباعوهم لأميركا الفرد بخمسة وعشرين ألف دولار أو أكثر، وقام عبد الرشيد دوستم (القائد الشمالي، حليف أحمد شاه مسعود) وحده بأسر مائة من العرب وسلمهم لأميركا ثأرا لقتلهم مسعود في 9/9/2001.

* وفي العراق: تعاون السنة مع (القاعدة) في التصدي لأميركا، ثم انقلبوا عليهم وقتلوهم وطردوهم لما رأوا بشاعة إجرامهم، وأنهم يقتلون أهل العراق لا أميركا.

* وفي السعودية: هلل الناس في البداية لابن لادن، فلما وصلتهم هداياه بدءا من تفجيرات الرياض 2003، انقلبوا عليه وأرشدوا السلطات عن أتباعه.

* وفي وزيرستان: لما حل الخراب فيها بسبب وجود (القاعدة) تعاون بعض السكان مع أميركا ضدهم، وبهذه الطريقة تصطادهم الطائرات الأميركية فردا فردا. وهم لا يجرؤون على الظهور في أفغانستان للجهاد، لأن مصيرهم البيع لأميركا بعدما يأسرهم الناقمون عليهم من الأفغان.

الشعوب والجماهير التي يريد بن لادن والظواهري أن يحركاها لتجاهد بالنيابة عنهما ليست غبية، وتميز بين من يعمل لمصلحتها ومن يؤذيها. لقد قتلت (القاعدة) من المسلمين إما مباشرة أو بالتسبب ما لم تقتلهم أميركا أو إسرائيل على مدى ستين سنة (1948 - 2008)، أو نصارى الصرب في البوسنة (1992 - 1995) مجتمعين. بدءا من تفجيرات نيروبي بعد إعلان جبهتهم المشؤومة في 1998 وإلى الآن (آخر 2008). أحد العراقيين قاتل مع (القاعدة) ضد أميركا ثم قاتل (القاعدة) واسمه (عمر ناصف - 32 سنة) تحدث عن سبب تحوله هذا فقال: (رأيت أحد عناصر [القاعدة] يقطع رأس طفلة تبلغ الثامنة من العمر بأم عيني، نريد الدعم الأميركي لأننا نقاتل التنظيم الأكثر شرا في العالم هنا). (من [الشرق الأوسط] 6/9/2007 ص12)، وهذا مجرد مثال. فتحركت الجماهير ضد (القاعدة) لا معها.

فلما خاب ظن بن لادن ولم تتحرك الجماهير، كما توقع، تراجع وأراد أن يحل مشكلته مع أميركا فطلب منها الهدنة الطويلة لينعم فيها بالأمن والاستقرار، كما سبق كلامه في (أولا) من هذا الفصل، بعدما ملأ العالم كله قتلا ودمارا وحرم شعوبا بأكملها من الأمن عاد بن لادن ليبحث لنفسه عن الأمن والاستقرار بعد أقل من عشر سنين من إعلانه جبهته المشؤومة.

1- وطلب بن لادن الهدنة أيضا: لأن عملياته الاستعراضية وتهديده باستعمال أسلحة الدمار الشامل لم تفلح في تضخيم صورته أمام العدو الذي اكتشف - هو والعالم كله - أن (القاعدة) ما هو إلا تنظيم إزعاج لا إنجاز. ولو حصل على أسلحة دمار شامل فلن يتردد في استعمالها والاستعراض بها، فقد حطم بن لادن كل قواعد الدين التي تمنع من ذلك.

2- وطلب بن لادن الهدنة: لأن تنظيمه قد تحطم بسبب مغامرة 11/9، فرأس التنظيم رهينة لدى باكستان، والجهاز العصبي للتنظيم (المدربون والإداريون) رهينة في يد إيران، وجسد التنظيم أصابه الشلل في السعودية.

3- وطلب بن لادن الهدنة: لأنه فقد الملاذ الآمن في أفغانستان عقب 11/9، والملاذ البديل في وزيرستان أصبح مهددا.

4- وتم ضرب المصدر البشري والمالي الأول لابن لادن في السعودية.

5- وتحول تنظيم القاعدة إلى ورقة سياسية تستغلها دول يكفرونها (مثل إيران وسورية كما سبق في الفصل الثالث) لتحقيق مصالحها الخاصة».

وعن دلالات طلب بن لادن الهدنة مع أميركا يقول فضل: «إن طلب بن لادن الهدنة ينسف كل ما قرره بشأن الجهاد منذ إعلانه جبهته المشؤومة التي سماها (الجبهة الإسلامية العالمية لجهاد اليهود والصليبيين) في 1998، فطلب الهدنة يعني:

1- أن تأسيس هذه الجبهة كان لمجرد الشهرة والاستعراض، فإنها لم تصمد ثمان سنين (1998 - 2006) حتى تبنى بن لادن الهدنة التي هي على النقيض تماما من أهداف جبهته التي لم ينجز منها شيئا (جهاد اليهود والصليبيين). فقد هربوا من أمام جنود الصليبيين وتخصصوا في قتل المدنيين الضعفاء للاستعراض ولصنع بطولات رخيصة من دماء الضعفاء. وقد اشتد شر اليهود وأميركا كثيرا عما كانوا عليه عام 1998، فاحتلت أميركا أفغانستان والعراق، وقتلت وأسرت الآلاف من تنظيمه (القاعدة) ومن الأفغان والعراقيين وغيرهم، وقتلت المدنيين بلا هوادة في تلك البلاد، وقامت بتجريم المقاومة في فلسطين، وأعلنت يهودية دولة إسرائيل. فابن لادن أعلن عليها الحرب عام 1998، فلما اشتد عدوانها على المسلمين طلب منها الهدنة، لماذا؟ لأن الأمر ليس أمر دين وجهاد - وإن رفعوا هذه الشعارات - وإنما هو أمر سياسة وشهرة وزعامة. وقد ذكرت في آخر الفصل الثالث أنه منذ أعلن بن لادن جبهته الاستعراضية عام 1998: قدم أعظم الخدمات لأميركا وإسرائيل وإيران وسورية، وسبب أعظم الضرر للمسلمين في كل أنحاء العالم.

2- وطلب الهدنة يعني أن بن لادن أخطأ عندما أفتى بأن جهادهم فرض عين وقتما أسس جبهته. إذ كيف يتراجع عن فرض العين ويطلب الهدنة بعدما ازداد عدوان اليهود والصليبيين على المسلمين. فعندما أعلن جبهته المشؤومة عام 1998 أفتى بأن (قتل الأميركان وحلفائهم، مدنيين وعسكريين، فرض عين على كل مسلم أمكنه ذلك في كل بلد تيسر فيه)، (دليل الحركات الإسلامية - ص85). فكيف يكون جهاد أميركا فرض عين عام 1998، ثم يطلب منها الهدنة بعدما تحتل بلدين من بلدان المسلمين (أفغانستان والعراق) وتقتل أهلهما؟

3- وإذا كان الجهاد فرض عين كما قرره بن لادن ثم أراد أن يتخلى عند بالهدنة فيلزمه حكم التفسيق الذي حكم به على تاركي الجهاد من المشايخ، ويلزم أيضا أن المشايخ كانوا أبعد منه نظرا، وأفقه في الدين، عندما تركوا ما لا طاقة لهم به ولم يخوضوا في بحار الدماء والخراب التي خاض فيها بن لادن بكل أوزارها. قال بن لادن: (كل من يقعد عن الجهاد بغير عذر وصفه في القرآن ظاهر بيّن إنه [الفسق]، الذين يرضون بالقعود مع الخوالف هم لا يفقهون.. وإن أخذوا أكبر الشهادات من أفضل الجامعات، وهم لا يعلمون وإن وجهت إليهم كل أسئلة الفتاوى). وقال بن لادن أيضا: (تجد شابا يأتيك مسرورا أنه التقى الشيخ الفلاني من أئمة الحرم، ما ينبغي أن تبتسم في وجه هذا الفاسق الذي يضل الأمة بأسرها، فإذا لم يحصل هذا الفهم في الصحوة لن نصل إلى مرادنا لإقامة الحق). (ص8 و13 من رسالة [توجيهات منهجية - 1] من موقع: [منبر التوحيد والجهاد]).

بمثل هذا الكلام قام بن لادن بغسل عقول الشباب، فعزلهم عن المشايخ وحصر الفتوى في نفسه، رغم جهله بالدين، (شيوخ الجهاد والجبال والثغور الذين هربوا من أمام جنود أميركا)، فتجرأ الشباب على المشايخ حتى قتلوا كثيرا من أئمة المساجد في العراق، وقتلوا أحد المشايخ في السعودية. ثم تراجع بن لادن عن الجهاد وطلب الهدنة من أميركا لينعم بالأمن والاستقرار.

4- ولماذا يطلب بن لادن الهدنة وهو الذي وصف من يلقي السلاح أمام أميركا بالجهل والنفاق؟ ألا يكون بطلبه الهدنة قد حكم على نفسه بالجهل والنفاق والفسق الذي رمى به المشايخ من قبل؟ قال بن لادن: (فيوم أن تتخذ الولايات المتحدة الأميركية قرارا صادقا بإلقاء الحروب في العالم فهي تعلم قبل غيرها أن ذلك اليوم هو بداية تفكك ولاياتها وانهيارها... فاحذروا كل دعوة لإلقاء السلاح تحت اسم الدعوة للسلام، لأنها في الحقيقة دعوة لتخذيلنا واستسلامنا، ولا يروج لمثل هذه الدعوات إلا جاهل أو منافق). (من كلمته في قناة [الجزيرة] في 4/1/2004)، وبعد عامين من كلامه هذا دعا إلى إلقاء السلاح لينعم بالأمن والاستقرار بطلبه الهدنة في 2006، أليس بهذا قد حكم على نفسه بالجهل والنفاق؟

5- ولماذا يطلب بن لادن الهدنة مع أميركا قبل أن يتحقق الأمن في فلسطين، بل بعدما ازداد شر إسرائيل في فلسطين؟ أليس هو القائل: (أقسم بالله العظيم الذي رفع السماء بلا عمد لن تحلم أميركا ولا من يعيش في أميركا بالأمن قبل أن نعيشه واقعا في فلسطين، وقبل أن تخرج جميع الجيوش الكافرة من أرض محمد صلى الله عليه وسلم). (من كلمته في قناة [الجزيرة] 7 و22/10/2001). هذا كلامه في 2001، فلماذا يعرض الهدنة على أميركا في 2006 ويطلب الأمن لنفسه قبل أن يتحقق الأمن في فلسطين؟ فقضية فلسطين هي مسألة شعارات عند بن لادن كما هو الحال عند بعض حكام الدول وبعض الجماعات الإسلامية التي تعيش وتأكل وتنمو على حساب فلسطين. وقال تابعه، الظواهري: (إن قضية فلسطين هي القضية التي تلهب مشاعر الأمة المسلمة منذ خمسين عاما). (ص182 من كتابه [فرسان])، ففلسطين ضحيتهم التي أكلوا بها، والمهم أمنهم بطلب الهدنة لا أمن فلسطين الجريحة.

أليس بن لادن هو القائل أيضا: (الذين يفرقون بين أميركا وإسرائيل هم أعداء حقيقيون للأمة، هم خونة خانوا الله ورسوله، خانوا أمتهم وخانوا أماناتهم، يخدرون الأمة). (من كلمته في 4/11/2001 نقلا عن [دليل الحركات الإسلامية]). وهو الذي فرق بين أميركا وإسرائيل وحكم على نفسه بأنه من الخونة عندما عرض الهدنة على أميركا بينما تعيث إسرائيل في فلسطين فسادا.

6- وإذا كانت الهدنة مع أميركا جائزة، فالذين انتقدوا أعمال بن لادن و(القاعدة) لم يكونوا خونة يخدمون أميركا ويضرون المجاهدين، كما زعم بن لادن، والظواهري في (التبرئة)، وصاحبهم مؤلف (إدارة التوحش) عندما اتهم من ينتقدهم بأنهم خونة و(أن ما يقومون به يصب في مصلحة أميركا ويضر إضرارا بليغا بالمجاهدين الذين يقفون في وجه عدوانها) (ص7 من كتابه [الخونة]). وهو كاذب في كلامه هذا، فقد هربوا من أمام جنود أميركا وتركوا مهمة جهادهم لطالبان، أما بن لادن و(القاعدة) فتخصصوا في قتل المدنيين الضعفاء للاستعراض وصنع البطولات الرخيصة من دماء الأبرياء، ثم عرضوا الهدنة على أميركا.

بن لادن والظواهري و(القاعدة) ومشجعوهم لديهم مجموعة من القمصان لإرهاب من ينتقدهم، فمنها قميص الجهاد، وفلسطين، ومحاربة أميركا وإسرائيل، وغيرها. وفي النهاية رفعوا الراية البيضاء (قميص الهدنة والتفاوض) أمام أميركا لينعموا بالأمن والاستقرار بعدما خابت توقعاتهم كلها.

7- وإذا كانت الهدنة جائزة لابن لادن مع أميركا، وهو في الملاذ الآمن يصول ويجول هو والظواهري في فضاء الإنترنت، فلماذا يحرمون الهدنة على غيرهم ممن هم في أتون الحرب ويصطلون بنارها يوميا ويتهمونهم بالخيانة؟ كأهل فلسطين مع اليهود، وأهل العراق مع أميركا. لماذا يحلون الهدنة لأنفسهم ويحرمونها على غيرهم؟ في أي دين هذا؟

8- وإذا كانت الهدنة جائزة مع أميركا بعدما اشتد عدوانها على المسلمين، فقد كانت تفجيرات 11/9 الاستعراضية خطأ ولم تكن ضرورة، خصوصا أنها لم تتم إلا بمخالفة أحكام الشريعة من عصيان الأمير (محمد عمر) وخيانته، والغدر بالعدو، مع ما جلبته من الكوارث على المسلمين. إذ كيف تكون أحداث 11/9 ضرورة وتتراجع عنها بالهدنة؟

9- وإذا كان استعراض 11/9 خطأ، فينبغي الاعتذار لطالبان وللشعب الأفغاني، خصوصا أن 11/9 تسببت في إسقاط حكومة طالبان، واحتلال أميركا أفغانستان، وقتل الشعب الأفغاني وتشريده. والعجيب أن بن لادن اعتذر عن مقتل مسلمين في هجمات يشنها تنظيمه (القاعدة) في العراق، وإن اعتبرها مجرد سقطات إلا أنه لم يعتذر لأفغانستان بعد سبع سنين من جريمته في حقها، لأنه يعلم أن هذا الاعتذار ينسف أعظم أمجادهم التي تغنوا بها (جرائم نيويورك وواشنطن اللامباركة). والاعتذار عنها يعني أنه أساء التقدير وغرر بالشباب ولا يصلح لقيادتهم ولا لزعامة الأمة الإسلامية التي يريدها. والاعتذار عن 11/9 يعني أن المنفذين لم يكونوا شهداء كما ظنوا، وهذه هي الحقيقة، فهم أهل غدر وكبائر. والاعتذار للأفغان يعني أن بن لادن يجب أن يدفع لهم التعويضات والغرامات الحربية التي تعصف بثروته وثروة أسرته كلها.

10- وإذا كانت الهدنة جائزة مع أميركا بعدما اشتد عدوانها، فهذا يعني أنه لم تكن ضرورة للصدام معها قبل ذلك، وأن بن لادن غرر بالشباب ودفعهم لصدام هو مستعد للتنازل عنه بالهدنة. وإذا جاز ذلك له لينعم بالأمن والاستقرار فلماذا أرسل الخاطفين ليفجرهم في أميركا في 11/9 من دون إذن أهاليهم، ومنهم خمسة عشر شابا سعوديا؟ هذا سؤال ينبغي أن يسأله أهالي هؤلاء الشباب لابن لادن: لماذا ضحى بأولاد الناس وضنّ بأولاده في مواجهات هو مستعد للتخلي عنها بالهدنة؟ أرسل بن لادن أولاده إلى الملاذ الآمن، وأرسل أولاد الناس يفجرهم في أميركا والعراق في مقابل الجنة. لماذا حَرَم نفسه وأولاده من الجنة التي وَعَد الشباب بها؟ وإذا كان قد قرر من قبل أن الجهاد فرض عين وتاركه فاسق، فلماذا يجعل نفسه وأولاده فساق بترك الجهاد؟ ويجعلهم جهالا ومنافقين كما حكم بنفسه؟

ولماذا لم يتبع بن لادن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فيفجر بعض أولاده في 11/9، كما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته للمبارزة في أول معركة بينه وبين كفار مكة؟ ولأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أولاد فقد قدم عمه حمزة وأولاد أعمامه: على بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث، وقتل فيها عبيدة رضي الله عنه. وقد قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب21)، لماذا لم يتبع بن لادن السنة؟ ولماذا ضحى بأولاد الناس وضن بأولاده؟ ثم عاد يطلب الهدنة من عدوه (أميركا) بعدما اشتد عدوانها على المسلمين لينعم بالأمن والاستقرار، كما قال.

11- ولماذا يرفع بن لادن الراية البيضاء ويطلب الهدنة، وقد قال تابعه الظواهري: (إن هذا الواقع الفاسد لن يتغير باللين والمسالمة، ولن يتغير إلا بالقوة)، ووصف الظواهري أي وسيلة أخرى بأنها (سموم العجز والشلل). (من كتابه [التبرئة] ص193 و74)، وقد كشفت فساد فهمه الدين في مذكرة (التعرية). لقد انتقلوا من (القوة) إلى (الهدنة) لينعموا بالأمن والاستقرار.