مستقبل الصراع في أفغانستان (الحلقة الأخيرة) : الدكتور فضل: لماذا أعجب بعض الناس بأعمال بن لادن؟

مؤلف دستور «القاعدة» وأستاذ الظواهري في كتاب جديد تنشر «الشرق الأوسط» حلقات منه

جنود من الجيش الأفغاني يتطلعون الى الدمار الذي لحق بمبنى تابع للأمم المتحدة في إقليم هلمند وذلك بعد معركة عنيفة اندلعت بين قوات الأمن ومقاتلين في حركة طالبان في نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

كان اختيار مجلة «فورين بوليسي» الأميركية لسيد إمام الشريف، الطبيب المصري الذي منحه فكره الجهادي لقبه الأشهر «الدكتور فضل»، في قائمة المفكرين المائة الأكثر تأثيرا في العالم لعام 2009، بمثابة تأكيد على دور الرجل الذي ينسب إليه الدستور الذي قام عليه تنظيم القاعدة من خلال كتابيه «العمدة في إعداد العدة» و«الجامع في طلب العلم الشريف»، وهو ما حاول جاهدا بعد مراجعاته الشهيرة التي انطلقت قبل أكثر من عامين إعادة مناقشة تلك الأفكار الجهادية التي زجت بالإسلام والمسلمين وراء قضبان تهمة تطاردهم أينما حلوا، وهي تهمة «الإرهاب».

جاهد الدكتور فضل في مراجعة أفكاره واجتهد في فضح أكاذيب «القاعدة» ورجلها الثاني، أيمن الظواهري، ونشرت له «الشرق الأوسط» «التعرية لكتاب التبرئة»، و«قميص غزة»، وتنفرد اليوم بنشر حلقات من أحدث كتبه، الذي جاء تحت عنوان «مستقبل الصراع بين طالبان وأميركا في أفغانستان»، والذي انتهى من كتابته قبل عام.

إن المطلوب هو القيادة والزعامة، وبن لادن والظواهري ورفاقهما هاربون لا دولة لهم ولا جيش معهم يخوض هذه المعارك، فلتكن الجماهير هي جيشهم، والجماهير تتحرك بالشعارات. هؤلاء هم «فهلوية الحركة الإسلامية»، وهم كأهل آخر الزمان الذين وصفهم النبي (صلى الله عليه وسلم) بقوله (في خِفّة الطير وأحلام السباع).

يبدأ الدكتور فضل حلقة اليوم من كتابه، برصد تراجعات الرجل الثاني في تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، بعد أن ناقش في الحلقة السابقة تراجعات رجلها الأول وطلبه للهدنة من أميركا والغرب، ويقول الكاتب: «وإذا كان بن لادن قد تراجع خطوة من: الجهاد فرض عين ضد أميركا، إلى عرض الهدنة على أميركا، فقد تراجع أيمن الظواهري خطوات كثيرة:

فقد ظل موضوع (الحاكمية) هو محور اهتمام الظواهري لمدة ثلاثين سنة (1968 - 1998)، وقرر الصدام مع الحكومة المصرية، (وفي مقال له بنشرة «المجاهدين» في أبريل 1995 كتب مقالا بعنوان «الطريق إلى القدس يمر بالقاهرة» ورأى فيه أن «فتح القاهرة والجزائر أولا قبل قتال إسرائيل») من (دليل الحركات الإسلامية). وبالرغم من أنني نهيتهم عن هذا الصدام، فقد دفع الظواهري إخوانه لتنفيذ عمليات في مصر بأموال المخابرات السودانية، وقال الظواهري لإخوانه إنهم سيقاتلون في مصر حتى آخر رجل فيهم وآخر دولار معهم، ولكنه لم يفِ بما وعدهم، وهذا من خصال النفاق (إذا وعد أخلف)، وعندما طردهم السودان عام 1995 هرب إلى أفغانستان، ولم يقبل هو أو أخوه ما دفعوا إليه إخوانهم في مصر، فإذا كان الجهاد في مصر واجبا وهربوا منه فهم فُسّاق، وهذا هو حكم من يترك الجهاد الواجب. وإذا لم يكن هذا الجهاد واجبا فقد غشّوا إخوانهم ودفعوهم للمشانق والسجون في مصر في غير واجب، والغش أيضا فسق ومن الكبائر لقول النبي (صلى الله عليه وسلم) «من غشنا فليس منا» الحديث رواه مسلم.

ثم تخلى الظواهري بعد ذلك عن كل موضوع الحاكمية منذ التحق بابن لادن في جبهته المشؤومة عام 1998، وتخلى عن الجهاد في مصر، وبمجرد أن علم بسقوط أخيه في قبضة السلطات المصرية (أبلغ محامي الجماعات الإسلامية في مصر منتصر الزيات أواخر عام 2002 - حسب تصريحاته - بأنه لم يعد يضع في حسبانه تدبير أي أعمال عنف في مصر) من (دليل الحركات الإسلامية).

واكتشف الظواهري بعد ثلاثين سنة أن قتال العدو البعيد (أميركا) هو الواجب والأهم بعدما ملأ السجون والقبور بإخوانه في مصر، وقد غيّر مذهبه ليوافق هوى بن لادن وليحصل على الشعبية والجماهيرية التي يسعى إليها. فكتب الظواهري مقالات فيها (أميركا ووهم القوة... يا أمة الإسلام صفا واحدا في سبيل الله لجهاد أميركا... الوقت قد حان لمنازلة العدو البعيد) (دليل الحركات الإسلامية) ص86، ط الأهرام 2006.

وقال الظواهري - في بيان تخليه عن الحاكمية لصالح شعارات بن لادن (جهاد أميركا وإسرائيل) - في ص 182 - 184 من كتابه (فرسان) قال (لذا يجب على الحركة الجهادية أن تتخلى عن الاقتصار على خوض المعركة تحت شعار الحاكمية والولاء والبراء فقط، فإن هذه الشعارات وللأسف ليست مفهومة لدى جماهير الأمة التي لا تجد نفسها مستعدة للتضحية من أجل شعارات لا تفهمها... والشعار الذي تفهمه جماهير الأمة المسلمة جيدا وتتجاوب معه منذ خمسين عاما هو شعار الدعوة إلى جهاد إسرائيل... مع الدعوة لجهاد أميركا... إن الحقيقة التي يجب التسليم بها هي أن قضية فلسطين هي القضية التي تلهب مشاعر الأمة المسلمة منذ خمسين عاما... يجب علينا أن نؤكد على الأهمية البالغة لقضية تحرير الحرمين لدى الأمة المسلمة... إن هذه القضية سلاح ماض في يد الحركة الإسلامية المجاهدة... لذا يجب على الحركة الإسلامية المجاهدة أن ترفع شعار تحرير المقدسات الإسلامية الثلاثة: الكعبة المشرفة والمسجد النبوي الشريف والمسجد الأقصى المبارك، بهذا تجتمع لها أزِمّة قيادة الأمة المسلمة وتلتف حولها قلوب المسلمين في بقاع الأرض). و(أزمة) جمع زمام.

فالذي يبحث عنه الظواهري وبن لادن هو (قيادة الأمة المسلمة) والتفاف الجماهير حولهم، والجماهير لا تفهم موضوع (الحاكمية والولاء والبراء) فيجب التخلي عنه ورفع الشعارات التي تلهب مشاعر الجماهير، وهي:

قضية فلسطين وجهاد إسرائيل وأميركا.

وتحرير المقدسات الإسلامية الثلاثة: الحرمين والمسجد الأقصى.

ولكن خاب ظنهم وساء تقديرهم فلم تتحرك الجماهير، ولم تهزم أميركا، ووجدوا أنفسهم ورقة ورهينة لدى المخابرات الباكستانية كما كانوا ورقة من قبل في يد المخابرات السودانية، فأرادوا الخروج من هذه الورطة بالتفاوض المباشر مع أميركا فرفعوا الراية البيضاء أمامها وعرضوا عليها الهدنة، كما رفع الظواهري الراية البيضاء أمام مصر من قبل بإعلانه (أنه لم يعد يضع في حسبانه تدبير أي أعمال عنف في مصر) وذلك خوفا على أخيه، والآن رفعوا الراية البيضاء أمام أميركا لينعموا بالأمن والاستقرار كما قال بن لادن لأميركا (ولا مانع لدينا من إجابتكم إلى هدنة طويلة الأمد بشروط عادلة، نفي بها، فنحن أمة حرّم الله علينا الغدر والكذب، لينعم في هذه الهدنة الطرفان بالأمن والاستقرار، ولنبني العراق وأفغانستان اللذين دمرتهما الحرب) (الحياة) 20/1/2006. بعدما وثق بهم مئات الشباب وسلّموهم أرواحهم ففجروهم في أميركا والعراق وغيرها، عادوا يبحثون عن الأمن والاستقرار لأنفسهم بالهدنة.

والصحيح أن الذي دمر أفغانستان والعراق مغامرات بن لادن والظواهري، هل كانت أفغانستان أو العراق محتلة قبل 11/9؟. والجواب: لا، بل بعده.

ومَن الذي فوّضهم ليتحدثوا باسم أفغانستان والعراق أو الأمة الإسلامية؟ وهل هذه شعوب من الحشرات، أو ناقصو الأهلية ليتحدث هؤلاء المقامرون نيابة عنهم؟.

كان الكافر في الجاهلية قبل الإسلام يقامر بما يملكه: بماله أو بناقته أو بعبده، وجاء الإسلام فحرّم القمار، ثم بعد أكثر من 1400 سنة جاء بن لادن ليفعل ما لم يفعله كفار الجاهلية، فقامر بما لا يملكه، ولم يقامر بناقة أو عبد، وإنما قامر بدولة كاملة بشعبها وأرضها وبدون إذن أهلها أو حكومتها التي آوته وحمته، وهي أفغانستان، فخسرها واحتلتها أميركا، والأفغان في ذهول مما يجري ولم يعلموا أن بن لادن قامر بهم بدون علمهم.

وقامر بن لادن بتنظيمه (القاعدة) بدون علمه أيضا فدمّره، ثم قامر بدماء العراقيين فسقط منهم مليون قتيل - كما سقط من الأفغان أكثر من مائة ألف قتيل - كل هذا ليُجبر أميركا على الهدنة والتفاوض معه. ثم قامر بدماء الإسبان والبريطانيين، ثم بدماء أهل الجزائر في تفجير 11/12/2007، ثم بدماء الهنود في عملية مومباي 26 - 29/11/2008 - على الراجح عندي - ليجبر أميركا والغرب على التفاوض معه ليخرج من ورطة الحصار الذي وقع فيه، وصار ورقة في يد الذين يحمونه والذين لديهم تعليمات بقتله في أي لحظة تقترب منه أميركا. كل هذا والظواهري يجري خلفه: يهلل له ويبرر له إجرامه، كما قال الظواهري (أكثر من نصف المعركة في الإعلام). يا ويلهم من غضب الله، كم من دماء سُفكت بسببهم، وكم من جرحى ومشردين ومهجّرين ويتامى وأرامل وبيوت خربت بسببهم».

يطرح فضل سؤالا مهما في هذا الجزء من كتابه، وهو: لماذا أعجب بعض الناس بأعمال بن لادن؟ ويجتهد الكاتب في الإجابة على سؤاله من خلال المحاور التالية:

جعل النبي (صلى الله عليه وسلم) (الجهاد ذروة سنام الإسلام)، ولكن ليس كل من جاهد فهو مُثاب وعلى خير، إلا أن يوافق جهاده أحكام الشريعة، فقد حكم النبي (صلى الله عليه وسلم) على مجاهد أنه في النار بسبب سرقته عباءة، وعلى آخر بأنه في النار أيضا - بالرغم من نكايته العظيمة في العدو - لأنه انتحر.

وقد فرّق النبي (صلى الله عليه وسلم) بين هذه الأصناف في قوله (الغزو غزوان: فأما من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وياسّر الشريك واجتنب الفساد: فإن نومه ونبهه أجر كله، وأما من غزا فخرا ورياء وسمعة وعصى الإمام وأفسد في الأرض: فإنه لم يرجع بالكفاف) رواه أحمد وأبو داود. وبن لادن داخل في الصنف الثاني فكل أعماله منذ أعلن جبهته المشؤومة في 1998 كلها معصية.

وما حمل بن لادن على الخيانة والغدر: انتهاز الفرصة وسهولة العملية من أجل الاستعراض الذي يحاول به حل المعادلة الصعبة الأولى التي ذكرتها في رابعا الفصل الأول: أطماع كبيرة يريد تحقيقها بقدرات ذاتية محدودة، فاغتنم كل فرصة تظهره ضخما، وتلاعب بأحكام الشريعة لتبرير مخالفاته لها.

وسهولة ارتكاب المعصية لا يحل ارتكابها، وإنما هذا أمر يبتلي الله به عباده، وقد ذكرته في البند التاسع من (وثيقة ترشيد العمل الجهادي)، ليعلم الله هل يكف العبد نفسه عن المعصية خوفا من الله أم يغتنم الفرصة. وهي مسألة (الابتلاء بتسهيل المعصية) وأدلتها كثيرة منها: قول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ» (المائدة 94)، فابتلاهم بسهولة الصيد مع نهيه لهم عنه وهم حُرُم في الآية بعدها. ومنها تسهيل ارتكاب الفاحشة للنبي يوسف (عليه السلام) فكف نفسه عنها بتوفيق الله. ومنها أصحاب القرية من بني إسرائيل الذين نهاهم الله عن الصيد يوم السبت وسهّله لهم بامتلاء البحر بالأسماك في السبت، فالذين عصوا واصطادوا مسخهم الله قرودا (الأعراف 163 - 166). وهكذا فعل بن لادن: بحث عن كل الفرص السهلة المحرمة من أجل الشهرة والاستعراض، ولم يهتم بما تنطوي عليه من الخيانة والغدر وقتل الأبرياء، ثم هرب بن لادن وترك غيره يدفع ثمن غدره على نحو ما ذكرته في الفصل الثالث. وقدّم بمغامراته أعظم المكاسب لأميركا وإسرائيل وإيران وسورية، كما جلب أعظم الخسائر على المسلمين في كل مكان، فلم يقدم خيرا للإسلام لا في العلم ولا في العمل بل قام بتحريف الدين والإضرار بالمسلمين.

فإذا كان هذا هو حال بن لادن، فلماذا أُعجب بأعماله بعض الناس؟

والجواب: أنه إنما أعجب به من لا علم لهم بالدين بسبب الشبهة، وقد ذكرت من قبل أنه لا يتبع بن لادن إلا أحد رجلين: جاهل بدينه أو منتفع بدنياه، فجهلهم بالدين جعلهم لا يتفطنون لما في أعماله من مخالفات شرعية، والشبهة جعلتهم يعجبون بها. فما الشبهة؟

والجواب: الشبهة باطل يشبه الحق أو باطل مخلوط بشيء من الحق. وذلك لأن (الباطل لا يروج عند الناس إلا بخلطه بشيء من الحق)، فيصير الأمر ملتبسا ومشتبها. ومن ذلك ما روته السيدة عائشة (رضي الله عنها) قالت: سأل أناسٌ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن الكُهان، فقال (ليسوا بشيء)، فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدثوننا أحيانا بشيء فيكون حقا؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقُرُها في أذن وليّه فيخلطون معها مائة كذبة) الحديث متفق عليه. فسبب رواج أمر الكهان - مَن يدّعون معرفة الغيب - عند بعض الناس أنهم يخبرون بشيء من الحق يعرفونه من أوليائهم من الجن فيخلطون الحق بكذب كثير، فيصدقهم الناس بالحق القليل في كلامهم. وقد وردت الأحاديث بالنهي عن إتيانهم أو تصديقهم.

وكذلك سبب رواج أمر بن لادن عند بعض الناس: أنه ينادي بجهاد أميركا وهذا من الحق، ولكنه خلطه بباطل كثير وهي المخالفات الشرعية التي ارتكبها ليتوصل إلى ضرب أميركا، وبسبب هذا الجزء من الحق غض الناس الطرف عن مخالفاته للشريعة وعن جناياته على الإسلام والمسلمين. فكان حال هؤلاء المعجبين بابن لادن كحال الجياع الذي أطعمهم اللص من الحرام فشكروه وسكتوا عن سرقته، بل منهم من برر له السرقة، فالناس جياع لضرب أميركا والانتقام منها، وبن لادن أطعمهم ذلك ولكن بالحرام. وهذا المسلك إن جاز على مذهب (روبن هود) والصعاليك فإنه لا يجوز في دين الإسلام، فهو لص مستحق للعقوبة مهما تصدق، وصدقته غير مقبولة عند الله وإن فرح بها الجياع، لقول النبي (صلى الله عليه وسلم) (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا) الحديث رواه مسلم. وقد كان أشد الناس فرحا بابن لادن أشدهم جوعا وإحساسا بالقهر وهم كثير من سجناء الحركة الإسلامية، الذين نسوا كل مخالفات بن لادن للشريعة وكل ما جلبه على المسلمين من كوارث وهللوا له، وهذا هو حال بعض هؤلاء السجناء يبدأ أحدهم التزامه بالدين بتقديس الله وتعظيم شريعته، وينتهي به الحال إلى تقديس فرد ونسيان القضية الأساسية (تحكيم الشريعة). ولقد رأيت من هؤلاء من يهلل لمقتل جندي أميركي في أفغانستان أو العراق ويخرس إذا قُتل مائة أفغاني أو عراقي كأنهم حشرات. فما قولهم في بحث بن لادن عن الهدنة؟.

ولقد بلغ الجوع للانتقام من أميركا ببعض الناس في يومي هذا أن فرحوا وهللوا عندما رشق صحافي عراقي الرئيس الأميركي بوش الابن بحذاء (جزمة)، أي أن العراق - بعد أكثر من خمس سنين من الاحتلال الأميركي - تمخض فولد (جزمة).. يا أمة ضحكت من جهلها الأمم.. أغاية فخركم فردتا (جزمة).

فائدة (التوصل إلى حق أو مباح بباطل: باطل):

ومثاله: الصدقة على الفقراء حق، فإذا توصل إليها بباطل (يسرق ليتصدق) فعمله باطل وهو آثم سارق يستحق قطع يده بشروطه.

ومثاله في الجهاد: هو حق، فإذا توصل إليه بباطل من غدر أو خيانة، فعمله باطل وهو خائن غادر، هذا هو حال بن لادن وكل من عاونه أو رضي بفعله.

وكل من توصل إلى حق بباطل، فعمله باطل مردود لا يقبله الله، كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم) (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم.

أميركا أجرمت في حق المسلمين، ويكفي تعهدها بضمان أمن إسرائيل الغاصبة لأرض المسلمين، ولكن الانتقام منها أو من غيرها من الأعداء بما حرّمته الشريعة من الوسائل: حرام ولا يجوز، بل إن هذا مما يجلب سخط الله ويسبب الهزيمة للمسلمين. وفي تفسير قول الله تعالى: «وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ» (البقرة 190)، ذكر ابن كثير ما رواه الإمام أحمد عن حذيفة (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال (إن قوما كانوا أهل ضعف ومسكنة، قاتلهم أهل تجبر وعداوة، فأظهر الله أهل الضعف عليهم فعمدوا إلى عدوهم فاستعملوهم وسلّطوهم، فأسخطوا الله عليهم إلى يوم القيامة) قال ابن كثير رحمه الله (هذا حديث حسن الإسناد، ومعناه أن هؤلاء الضعفاء لما قدروا على الأقوياء اعتدوا عليهم فاستعملوهم فيما لا يليق بهم أسخطوا الله عليهم بسبب هذا الاعتداء، والأحاديث والآثار في هذا كثير جدا) أ.هـ.

فائدة أخرى (لا يجوز اغتنام الفرصة للانتقام من العدو مع وجود المانع الشرعي) أرسل النبي (صلى الله عليه وسلم) حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه) إلى معسكر أحزاب الكفار المحاصرين للمدينة في غزوة الخندق (الأحزاب) ليأتيه بخبرهم وقال له النبي (صلى الله عليه وسلم) (ائتني بخبر القوم ولا تذعّرهم عَلَي)، فلما ذهب إليهم حذيفة قال (فرأيت أبا سفيان يَصلي ظهره بالنار، فوضعت سهما في كبد القوس، فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) «ولا تذعّرهم علي»، لو رميته لأصبته) الحديث رواه مسلم (4658). وكان أبو سفيان هو زعيم جيوش الكفار في تلك الغزوة، ومعنى (يصلي) أي يدفئ، ومعنى (لا تذعرهم) أي لا تهيّجهم ولا تثرهم. فهنا جاءت الفرصة لحذيفة لقتل زعيم الكفار المحاصرين للمدينة، ولم يغتنم الفرصة - بالرغم من أنهم في حرب دفاعية مصيرية - فلم ينتهز الفرصة لوجود المانع الشرعي وهو نهي النبي (صلى الله عليه وسلم) له عن تهييج الكفار واستفزازهم. فلم ينتهز حذيفة الفرصة خشية العواقب.

أما بن لادن فجاءته الفرصة لضرب أميركا في 11/9، قدمها له خالد شيخ محمد، فانتهزها بالرغم من وجود الموانع الشرعية: ومنها نهي أميره الذي بايعه (الملا محمد عمر) عن الصدام مع أميركا (لا تذعَرهم عَلَي)، ومنها المخالفات الشرعية في عملية 11/9 (كالغدر وقتل من لا يجوز قتلهم). فلم يُبال بن لادن بهذا كله وانتهز الفرصة وذعّرهم فاحتلوا أفغانستان وأطاحوا بطالبان.

فانتهاز الفرصة للانتقام من العدو لا يجوز عند وجود المانع الشرعي، وهذا إن جاز على مذهب نيقولا ميكافيللي (ت1527م) وعلى مذهب بن لادن، فإنه لا يجوز في دين الإسلام، فالغاية لا تبرر الوسيلة.

استرداد كرامة الأمة:

الأمة لن تسترد كرامتها ولن تستعيد عزتها، بل لن تقوم لها قائمة لا بغدر بن لادن ولا بحذاء الصحافي العراقي وإنما بالعودة لاتباع تعاليم الإسلام ولا شيء غير ذلك، الإسلام الذي جاء به النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، لا إسلام بن لادن والظواهري اللذين أفسدا الدين. هذا كلام الله تعالى: «وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ» (آل عمران 139)، وقال تعالى: «مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعًا» (فاطر 10). وقال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) (إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس، فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العز بغيره يذلكم الله) ذكره ابن كثير في (البداية والنهاية) 7/64.

سيظل الناس يجربون نظريات الشرق والغرب وأفكار فلان وفلان - الذين يظنون أنهم يعرفون مصالح الناس أكثر من رب الناس - ويدفعون ثمن هذه التجارب: خسائر بعد خسائر وفساد، حتى يدركوا أنه لا نجاة ولا خلاص في الدنيا والآخرة إلا بالإسلام، قال تعالى: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ» (فصلت 53).

تذكير للمعجبين بأعمال بن لادن:

إذا انقشع الضباب من أمام أعينكم، وذهبت الغفلة والسّكرة، وعاد العقل والفكرة، فهناك أسئلة ينبغي أن توجهوها لهؤلاء المقامرين:

بن لادن والظواهري، بعدما تتخلصوا من عقدة روبن هود (اللص والجياع)، منها:

أ) أسئلة لابن لادن:

لماذا ضحيت بدولة طالبان التي وصفتها بأنها (تمثل راية الإسلام) من أجل شيء تراجعت عنه بطلب الهدنة من أميركا؟

لماذا ضحيت بأولاد الناس وضننت بأولادك في تفجيرات 11/9؟

لماذا أعلنت أن قتال أميركا فرض عين، وأن من يدعو إلى إلقاء السلاح معها جاهل ومنافق وفاسق، ثم عرضت عليها الهدنة بعدما اشتد شرها وبعدما احتلت بلدين للمسلمين وقتلت وسجنت الآلاف؟

لماذا تطلب الهدنة وأنت بالملاذ الآمن، وتحكم بالخيانة على من يطلبها من أهل العراق أو فلسطين وهم تحت النيران؟

لماذا...؟ لماذا...؟ لماذا...؟

ب) أسئلة للظواهري:

لماذا بعت إخوانك في جماعة الجهاد للمخابرات السودانية عام 1993 بدون علمهم؟

لماذا دفعت إخوانك للصدام بمصر من عام 1993، وهربت أنت وأخوك؟ وإذا كان الصدام في مصر واجبا لماذا هربتم من الجهاد الواجب؟ وإذا لم يكن واجبا فلماذا علّقت إخوانك على المشانق وحشرت بهم السجون في غير واجب؟

لماذا دفعت إخوانك للصدام بمصر، ثم تخليت عن موضوع الحاكمية كله منذ التحقت بجبهة بن لادن المشؤومة في 1998؟

لماذا أخبرت الحكومة المصرية بنبذك للعنف في مصر عام 2002 لما ظهر أخوك في السجون المصرية، ولم تخبرها قبل ذلك لماذا سجنت أولاد الناس؟

لماذا قررت أن قتل العدو البعيد (أميركا) هو الواجب، ثم هربت من أمامها إلى وزيرستان وعرضت عليها التفاوض بعدما احتلت بلدين؟

لماذا جعلتم الأمة الإسلامية حيوانات تجارب لأفكاركم التي تغيرونها كل فترة، وتتراجعون عنها بعد كل هزيمة؟

لماذا...؟ لماذا...؟ لماذا...؟

وبعد، فقد كانت هذه المسألة في بيان لماذا أُعجب بعض الناس بأعمال بن لادن بالرغم مما خالطها من المخالفات الشرعية وما جلبته من الاحتلال الأميركي والكوارث على المسلمين: إنها عقدة روبن هود (اللص والجياع)، ثم تدهور حال آخرين حتى فرحوا (بجزمة العراق). ولا عزة ولا كرامة إلا بالعودة إلى تعاليم الإسلام، قال تعالى: «وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ» (المنافقون 8).