اليمن بعد الحرب السادسة (الحلقة السابعة) : الحراك الجنوبي: أخطاء القسمة.. والتقاسم

استغلال كبير لضعف مؤسسات دولة الوحدة يقوده متضررون من أخطاء الحكومة وحساباتها السياسية

مجموعة من اليمنيين متجمعون في أحد أزقة حي سكني في صنعاء أمس (أ.ف.ب)
TT

قبل الوحدة بين شطري اليمن كان آخر رئيس للشطر الجنوبي هو علي سالم البيض، وقبل الاستقلال كان جنوب اليمن يتكون من سلطنات وإمارات يحكمها سلاطين وشيوخ قبائل، منهم والد طارق الفضلي، القيادي في الحركة الانفصالية التي اشتبكت مع قوات الجيش هذا الأسبوع. وبينما تخرج مظاهرات في عدة مديريات بجنوب البلاد تطالب بالانسلاخ عن الشمال، تصدر من مكتب تابع للبيض بيانات بين حين وآخر، تبارك هذا الاتجاه الانفصالي.

ويجد الفضلي ذو التوجه الإسلامي المتشدد في بيانات البيض (خصمه الاشتراكي)، إضافة إلى نشاط تنظيم القاعدة هناك، دعما قويا في مهاجمة السلطة المركزية، التي ما زالت تدعو الخارجين عن سلطتها إلى الحوار تحت سقف الوحدة والدستور والقانون. هنا يبدو أن الزعماء المطالبين بالانفصال يدفعهم إلى ذلك حنين قديم للحكم وتولي السلطة، أو على الأقل الحصول على «مزايا»، فالبيض كان رئيسا، والفضلي كان ابن صاحب سلطنة، والأول ذاق مرارة المنفى (وما زال)، والثاني عاش جانبا من حياته في خيمة بعد مصادرات ومطاردات سياسية. هكذا يعتقد يمنيون من الجنوب وهم يتحسسون مفارق الطرق هناك. ولم يكن مثل هذا الخروج للمطالبة بالانفصال ليحدث لو كانت الدولة قوية منذ بداية وحدتها.

ويقول مسؤول حكومي سابق في دولة الوحدة، وهو أصلا من محافظة عدن في الجنوب، إن مشكلة اليمن تكمن، ببساطة، في أن وحدتها التي أعلنت عام 1990، بُنيت على «القسمة والتقاسم. هذا أثّر على إدارة الدولة.. بحكم التقاسم السياسي بدأنا نتجاوز الأنظمة واللوائح والقوانين.. مؤسساتنا ضعفت، وما تراه من مشكلات الآن هو نتيجة لهذا الأمر».

وفي سنوات بناء الوطن الواحد عرف الرئيس اليمني الحالي، الذي يوصف بأنه مؤسس دولة الوحدة، علي عبد الله صالح، كلا من البيض والفضلي، وآخرين ممن يطالبون بالانفصال، لكنه يقول إن الوحدة خط أحمر، و«الدعوة إلى الانفصال خيانة وطنية كبرى».

وبعد نحو أسبوعين من توقف الحرب في صعدة شمال غربي البلاد تبدو الدولة عازمة على استئصال مسببات «الفتنة الجنوبية»، سواء كانوا قيادات على الأرض، أو تجار سلاح، أو مشكلات تخص عامة المواطنين، كالبطالة وغياب الخدمات وارتفاع الأسعار وتملك الأراضي.

ويشرح السفير اليمني السابق، محمد القباطي، الذي عيّن قبل ثلاث سنوات كسفير لليمن في لبنان وقبرص، قائلا: «طبعا القسمة والتقاسم بدأت عبر عدة مراحل.. أولها في السنوات الأربع الأولى من الوحدة عام 1990، ما بين الحزب الاشتراكي (كان يحكم الجنوب) والمؤتمر الشعبي (الحاكم للبلاد الآن)، ثم السنوات الأربع التالية.. أما بعد الحرب الأهلية (بين الجنوب والشمال عام 1994) فبدأت القسمة ما بيننا (في حزب المؤتمر الشعبي)، وبين حزب الإصلاح (المعارض). أما المرحلة الثانية من القسمة والتقاسم، أي في المدة من 1994 إلى 1998، فكانت أبعادها خطيرة، لأن القسمة في هذه المرحلة كانت بين حزبين، في الأساس، من الشمال (هما: المؤتمر الشعبي الحاكم والإصلاح المعارض ذو التوجه الإسلامي). وحاول الإصلاح أن يرث مواقع كثيرة من مواقع الحزب الاشتراكي الذي كان حاكما للجنوب. وحين بدأت عملية تعيين الكوادر والمسؤولين في مختلف مرافق الدولة، وخصوصا في المحافظات الجنوبية، أعطيت المواقع لأناس من أصول من المحافظات الشمالية، مما خلق انطباعا لدى الجنوب بأننا نبعد أبناء الجنوب، ومن هنا بدأت أبعاد ما تسمى بالقضية الجنوبية، تكبر».

ولتداعيات كثيرة لم يخرج البيض والفضلي من حلقات القسمة والتقاسم هذه فقط، بل لم يتمكن أي منهما، في نهاية المطاف، من الاحتفاظ بأي أرضية قوية تمكنه، مثل انفصاليين آخرين غيرهما، من العمل ضمن دولة الوحدة. ولم تُغضب سياسة القسمة والتقاسم بعض الأشخاص فقط، بل كانت مراحل هذه القسمة قد أثرت على نظرة اليمنيين، خصوصا في الجنوب، إلى وطنهم الموحد، وخصوصا بعد أن انفرد الحزب الحاكم بالقسمة كلها، وأثرت كذلك على كافة مناحي الدولة، وعلى وزاراتها أيضا، من التعليم والصحة وحتى وزارة الخارجية.

ويقول السفير القباطي الذي يشغل حاليا رئيس دائرة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي في حزب المؤتمر الشعبي (الحاكم): «لاحظ أن مؤسساتنا ضعفت بحكم الوحدة التي تمت بين الشمال والجنوب من منطلق أن الوحدة بنيت على القسمة والتقاسم.. نصف لي ونصف لك.. وللأسف الكثير من المؤسسات، وأنا أتكلم وكنت حينها أستاذا في جامعة صنعاء، عقب عودتي من بريطانيا، وأعرف أن الجامعتين في عدن وفي صنعاء كان فيهما تقاليد أكاديمية إلى حد مقبول.. لكن بعد الوحدة، وبحكم التقاسم السياسي بدأنا نتجاوز الأنظمة واللوائح والقوانين وأصبح يتم ترقية الأساتذة في الجامعات وتعيينهم على حساب قرارات سياسية.. المهم أن القوانين واللوائح والأنظمة ضُربت».

ويضيف السفير القباطي، الذي عمل في السابق كمستشار لرئاسة مجلس النواب اليمني، موضحا تأثير قضية القسمة والتقاسم، أن وزارة الخارجية نموذج من نماذج المؤسسات التي ضُربت أيضا.. «المقاييس التي كانت تبنى عليها وزارة الخارجية قبل الوحدة، سواء وزارة الخارجية في عدن أو وزارة الخارجية في صنعاء.. كلتا المؤسستين كانت لديها تقاليد مؤسسية إلى حد كبير في قضايا الترقية والتعيين، وغيره، ونتيجة للقسمة والتقاسم ما بين الشمال والجنوب، أو ما بين حزبين، الاشتراكي (جنوبا) والمؤتمر الشعبي (شمالا) انعكست على وزارة الخارجية، وبالتالي ضعُف البناء المؤسسي لكثير من المؤسسات وضاعت تقاليد كثيرة جدا كنا كسبناها، وضعف أداء المؤسسات بشكل عام داخل الدولة».

وبعد أن انتهت الشراكة أو القسمة بين حزبي الاشتراكي والمؤتمر، دخل الأخير في شراكة مع حزب الإصلاح، بمن فيه من إسلاميين متشددين ينتمي غالبيتهم إلى الشمال، وهؤلاء حلوا محل الاشتراكيين في إدارة شؤون كثير من المؤسسات اليمنية في الجنوب.. يوضح القباطي قائلا: «مع عام 1998 تم إحلال كثير من الكوادر التي جاءت من الإخوة في حزب الإصلاح، بدلا عن الحزب الاشتراكي. كانت معظم كوادر الإصلاح من أصول شمالية.. وخلق هذا الوضع نوعا من التذمر والشعور بالظلم في بعض المحافظات الجنوبية.. وهذا هو الآن ما بدأ يظهر مع الوقت بالشعور بعدم وجود شراكة بين الشمال والجنوب.. هذه حقيقة الوضع الآن الذي يجري في الجنوب، لأنه بعدها أيضا ترافق هذا مع أن بعض القيادات العسكرية بحكم الحرب وغيرها أبعدت وبقيت خارجا، وأعيد استيعابها لكن كان الوقت قد فات، والقضية خرجت من أبعادها».

حسنا، وحيث يرى البعض أنه لا توجد مظاهر للدولة هناك، كيف يرى هذا الرجل الجنوبي والدبلوماسي السابق في دولة الوحدة، الأمور الآن في الجنوب؟ خصوصا أنه كان في يوم من الأيام، وهو طالب في لندن، مسؤولا عن منظمات الحزب الاشتراكي في أوروبا الغربية. يجيب القباطي قائلا إن المشكلات في الجنوب تكاد تتركز على خط الطريق الدولي الرابط بين عدن وصنعاء، والمارة في محافظة الضالع وفي محافظة لحج. لكن السلطة موجودة بالكامل في حضرموت، التي تكاد تشكل تقريبا أكبر محافظة في الجمهورية كلها، لكن هذا لا ينفي أن هناك بعض الاضطرابات الموجودة.. هذه الاضطرابات تعكس إلى حد كبير الشعور بأن المحافظات الجنوبية كأنها أبعدت من الشراكة».

ويتابع موضحا بقوله: «أنا من عدن.. وفي عدن نحو 36 مديرا عاما.. مدير للصحة والتربية والتعليم والطرق والجمارك... إلخ.. ومن بين أبناء عدن من يشعر أن من بين هؤلاء الـ36 مديرا لا يوجد بينهم، من أبناء عدن، إلا 7 أو 8 مديرين فقط.. أما الباقون فكلهم قادمون من مناطق أخرى، في وقت توجد فيه كفاءات من عدن.. هذا يخلق نوعا من الشعور بعدم الشراكة وشعورا بالضيم.. الحل يكمن في نظام للخدمة المدنية المفتوح يتسابق فيه الناس حسب مؤهلاتهم».

ويتحدث اليمنيون في جنوب البلاد عن الكثير من المشكلات الأخرى التي يلمسونها كل يوم، ويرون أن الشمال هو المسؤول عنها.. ومثل هذه الحكايات تزيد من الهوة بين الجانبين، وتزيد من الشحن ضد إخوانهم الشماليين، إلى درجة تصل إلى الاشتباك أو الطرد من محل العمل، وكذا الطرد من السكن. وتتطور الاشتباكات والتحرشات إلى اعتداء وضرب، وحين تتدخل قوات الأمن لتطبيق القانون وحماية أرواح المعتدى عليهم، يتدخل مسلحون تابعون للحراك الجنوبي الذي يغذيه كل من الرئيس السابق البيض، والقيادي الجنوبي الفضلي، للاشتباك مع قوات الشرطة، وبعدها مع قوات الجيش أو الشرطة العسكرية حين تتدخل.. هنا يسقط القتلى والجرحى. وتبدأ البيانات تصدر من قيادات الانفصال من الداخل والخارج.. ويبدأ حشد الأنصار، وتحويل القضية الجنائية إلى قضية سياسية فقضية انفصالية، للتظاهر والطواف في الشوارع بجثث الضحايا كدليل، كما يقولون، على ظلم الشمال وقتله لأبناء الجنوب.

وفي جلسات الجنوبيين، خصوصا في مناطق بالضالع وحضرموت، تجد انتقادات للطريقة التي تدير بها السلطة المركزية في صنعاء الدولة اليمنية، مقارنة بالطريقة الموروثة من الإنجليز التي كانت عليها الإدارة في دولة اليمن الجنوبي، قبل الوحدة.. ومن أشهر هذه الحكايات التي يسعى السياسيون الانفصاليون لتحويلها من مجرد مزح، كما كانت، إلى نوع من الكراهية لكل ما هو شمالي، شخصية دحباش التي ظهرت في مسلسل تلفزيوني يمني، وتدور عن طريقة رجل طيب وساذج وفهلوي يمني من منطقة الشمال في التحايل لكسب العيش. ويقول الممثل اليمني الشهير بهذه الشخصية، آدم سيف لـ«الشرق الأوسط»: «لقد دفعت الثمن غاليا، دون ذنب، لأن أحد السياسيين الجنوبيين أعلن في خطاب عام أن الشماليين ما هم إلا (دحابشة)».

وحول هذه النقطة يشير التقرير الاستراتيجي اليمني الأخير بقوله: «ربما كان أخطر مفردات تلك التعبئة النفسية هو استخدام مصطلح دحباشي في وصف كل ما هو شمالي دلالة على الفوضى والتخلف والرعونة.. وهو المصطلح الذي اقتبس من مسلسل تلفزيوني كوميدي عرضه التلفزيون اليمني في بداية عهد الوحدة، ويمارس بطله (دحباش) كل أنواع الكذب، والنصب، والفهلوة ضد الآخرين. وسريعا صار مصطلح (دحباشي) يطلق على الشماليين الذين تدفقوا بعشرات الآلاف إلى المناطق الجنوبية للتجارة والعمل في مجالات كثيرة شهدت نهضة بعد الوحدة بعد اعتماد النهج الاقتصادي الحر».

ويضيف: «والحق أن انتقال المواطنين لم يقتصر على الشماليين فقط، فقد انتقل المواطنون الجنوبيون أيضا ليعيشوا في الشمال ويستقروا فيه بمحض إرادتهم، كما انتقل الآلاف من الكوادر الرسمية إلى العاصمة صنعاء أو ضمن وحدات الجيش بحسب مقتضيات إقامة الدولة الجديدة. وهكذا لم يشفع للشماليين - الذين صاروا دحابشة للجمع ودحباشي للمفرد - أنهم ذهبوا إلى جنوب بلادهم لتبادل المنفعة، وظهرت موجة من النكات والطرائف التي تتناول (الدحابشة) على طريقة النكات التي يطلقها أهل القاهرة في مصر على (الصعايدة).. وبدلا من (مرة واحدة صعيدي) صارت النكتة (مرة واحدة دحباشي)».

نائب رئيس تحرير التقرير الاستراتيجي اليمني، الباحث ناصر يحيى، يقول لـ«الشرق الأوسط» عن تصاعد المشكلة الجنوبية: «إذا تُركت دون معالجة حقيقية لا شك أنها ستتطور مثلما تُركت المشكلة في صعدة فترة طويلة دون علاج، لكن الأمر يختلف في الجنوب عن الشمال، لأن القيادات الجنوبية لم تكن موحدة كالشمالية (الحركة الحوثية)، ومن غير المتوقع أن تتمكن من الاتحاد في أي وقت قادم، لأن غالبية تلك القيادات التي تحارب وجود الدولة في الجنوب، متنافرة بالأساس، وحارب بعضها بعضا في الماضي، وسيحارب كل منها الآخر في المستقبل».

يقول يحيى: «بالنسبة للجنوب، الحراك ليس موحدا لا على مستوى القيادة ولا على مستوى القواعد، وكذلك الشعارات التي يطلقها تستفز الكثير من أفراد المجتمع، مثل قضية الانفصال وأننا نحن شمال وهم جنوب، وقولهم إنهم ليسوا يمنيين، كل هذا استفزّ جزءا كبيرا من المجتمع، فهذه كلها نقاط ضعف عند الحراك الجنوبي، لكن لديه أيضا نقطة قوة، وهي استثمار الهويات الصغيرة.. لدينا في اليمن الهوية العامة، وهي الهوية اليمنية، لكن عبر التاريخ نشأت هويات صغيرة داخل هذه الهوية العامة.. هوية المناطق وهوية القبائل وهوية السلطنات القديمة. كل هذه لم تنتهِ.. الجنوب نفسه أيضا يعتبر هوية أخرى غير الهويات الصغيرة داخل هوية الجنوب.. هذه كلها ظلت باقية في النفوس، واستغلال هذه الهويات أصبح سهلا جدا، خصوصا مع المصاعب الموجودة هناك.. إضافة إلى وجود أناس متضررين سياسيا أو اقتصاديا.. أيضا وجود ظلم في الدولة، ووجود تخلف وعدم وجود المجتمع الدستوري القانوني الذي يجعل الناس يشعرون أن هذه بلادنا جميعا. هذه عوامل كثيرة جدا».

ويعلم كثير من المسؤولين في صنعاء مثل هذه المشكلات، بل لديهم أدلة على وجود أخطاء لا بد من تصويبها، ومن الحكايات القادمة من الجنوب والمنتشرة في صنعاء، ويمكن أن تجعل الحكومة تعيد النظر في النظام المالي البيروقراطي فهيا، والذي أرهق الجنوبيين والشماليين على حد سواء، تلك الحكاية المستفزة ضد الشمال. تقول القصة إن خطابا جاء لمدير بمديرية التربية والتعلم بجنوب اليمن باعتماد عشرين مليون ريال (نحو 100 ألف دولار). وفرح المدير، لكن عليه، لكي يحصل على هذا الاعتماد المالي لصيانة مدارس بإدارته، أن يتوجه إلى العاصمة صنعاء على بعد 794 كيلومترا. في العاصمة يقيم في فندق، ويبدأ في رحلة الطواف على وزارات الدولة لإنهاء أوراق صرف المبلغ. هذا يستغرق شهرا أو شهرين..

مطلوب من المدير أن يراجع وزارة الإدارة الملحية، ثم يراجع وزارة التربية والتعليم، وبعدها وزارة التخطيط، ثم وزارة المالية، وبعد ذلك البنك المركزي، لكن لكي يحصل على المبلغ، عليه أن يكون ماهرا جدا، وأن ينفق منه ما يتراوح بين 4 إلى 5 ملايين ريال، وبسبب البيروقراطية الموجودة في المركز ونتيجة للفساد الذي تراكم منذ فترة طويلة، سيعود هذا المدير إلى مديريته بالجنوب بنحو 15 مليون ريال فقط، لا عشرين.

ويقول الدكتور القباطي، الذي تعود أصوله إلى جنوب اليمن، عن هذه الحكاية، إن «مثل هذا المدير جاء ليتسلم ميزانية صيانة مدرسة فوجد نفسه يتدرب على الفساد. وحين يعود إلى مديريته في إحدى المحافظات الجنوبية، بالـ 15 مليون ريال، ولأن إداراتنا ضعيفة وليس هناك شفافية فيها أو مساءلة، تصبح الـ15 مليون ريال التي معه هي خمسة ملايين لي وخمسة ملايين لك وخمسة ملايين للمقاول الذي سيقوم بالعمل. أي أن كفاءة إدارة الدولة التي رصدت 20 مليون ريال لم يصل منها فعلا إلا 5 ملايين.. أي أن الكفاءة لا تزيد هنا عن 25%، في بلد إمكاناته شحيحة.. ولو كان هناك نظام مالي وإداري جيد لتم تحويل العشرين مليون ريال مباشرة إلى فرع البنك المركزي في داخل عاصمة المحافظة، وترصد وتنفق في محلها وفق نظام إداري شفاف».

وتتجمع قطرات من الحكايات ومن الأقاصيص ومن الحوادث العرضية التي يمكن أن تحدث في أي مكان باليمن، وشكّل منها سياسيون انفصاليون، داخل البلاد وخارجها، بُحيرة يغطسون فيها أنصارهم ليخرجوا منها مبللين بالكراهية ضد إخوانهم الشماليين. وأسهم في نشر التعصب ضد اليمن الموحد، والجنوح إلى المطالبة بـ«يمن جنوبي» أو «جنوب عربي» مستقل، وسائل الاتصال من هواتف نقالة، وإنترنت، ومحطات تلفزة فضائية، وغيرها.. المشكلة الظاهرة للعيان هنا أن القياديين الانفصاليين يريد كل منهم أن يستقطع جزءا من الشعب ومن الأرض لإقامة دولته أو إمارته أو سلطنته الخاصة، خصوصا أن تلك المناطق كانت أيام الاستعمار الإنجليزي تخضع لنظام حكم بريطاني غير مركزي.

يقول السفير القباطي: «الجنوب كان قائما من أيام الاستعمار البريطاني على لامركزية كبيرة جدا.. أي أن الجنوب جاء مكونا من 22 مشيخة وسلطنة وإمارة بالإضافة إلى أربع ولايات منها ولاية عدن مثلا.. يمكن أن تقول إنه كان هناك حكم ذاتي. وكل وحدة من هذه المشيخات والسلطنات والولايات كان لديها جماركها وشرطتها وكل شيء، فبالتالي هذا الشعور في الجنوب هو انعكاسات لعدم الكفاءة في الإدارة وانعكاسات الفساد.. الشكوى من هذا بارزة جدا في الجنوب بحكم أن الذاكرة ما زالت تختزن تجارب قريبة كان فيها شراكة من قبل المواطن في إدارة شؤونه، وبالتالي المَخرج الآن هو ما سيجري من قضية الحوار حول الحكم المحلي واسع الصلاحيات. هذا، إلى حد كبير، سيعالج أو يلبي المطالب الموجودة في كثير من محافظاتنا، وخصوصا على صعيد المحافظات الجنوبية والشرقية».

لكن، وعبر التاريخ، لم يكن القسم الجنوبي من اليمن دولة منفصلة عن باقي البلاد، إلا في فترة ما بعد الاستقلال عن الاستعمار الإنجليزي.. كان المحتلون الأتراك قبل الحرب العالمية الثانية يطلقون على جنوب اليمن «عدن والمحميات التسع» التابعة لولاية اليمن. وحين حل البريطانيون محلهم رفضوا الخروج، قائلين بعد تطورات الحرب العالمية الثانية إنهم قاعدون هناك بناء على اتفاق مع دولة جنوب اليمن، أي الإمارات الأربع والعشرين المبعثرة في جنوب البلاد مع عدة مشيخات وسلطنات في ذلك الوقت، إضافة إلى مدينة عدن بطبيعة الحال. وبعد رحيل الإنجليز عما عُرف بجنوب اليمن بدأ صراع من نوع آخر بين اليمنيين في الجنوب، مبني على تحالفات مناطقية وقبلية وسياسية. وتم في عام 1969 إقصاء أول رئيس للجمهورية، قحطان محمد الشعبي، بعد نحو عامين من حكمه. وكانت تنحيته بزعامة سالم ربيع علي الذي سيخلفه في الرئاسة، ويتم إعدامه بعد ذلك، وهكذا استمرت أجواء المؤامرات، وكان هناك صراع دموي بين الجنوب والجنوب، لأسباب كثيرة، خصوصا في مناطق أبين وشبوة وعدن والضالع ويافع وحضرموت.

وفي الوقت الراهن بدأت تعود قصص البطولة ومن انتصر ومن انهزم في الحروب الغابرة، إلى الواجهة، وحين برز اسم الرئيس السابق البيض، والقيادي في الحراك، الفضلي، كانفصاليين، إلى جانب قيادات أخرى بالداخل والخارج، كان أنصار كل منهم يتحركون بطريقته.. بالنسبة لأنصار البيض، يسعون لإعادة دول اليمن الجنوبي، وبالنسبة لأنصار الفضلي، يقدمون السلطنة الفضلية في منطقته زنجبار التي كان يديرها والده، على أي شيء آخر، رغم ما يعلنه عن الحاجة لاستقلال «الجنوب العربي».

يتحدث البيان الصادر عن مكتب البيض، تعليقا على مظاهرة في جنوب اليمن قبل أسبوعين، عن أنه هو من دعا الناس هناك للتظاهر ضد «استمرار احتلال الجنوب»، مناشدا المجتمع الدولي لمساندة «نضالها من أجل ممارسة حقها المشروع في تقرير مصيرها»، و«إعادة بناء دولته المستقلة وعاصمتها عدن الأبية». ويتوعد أيضا قائلا: «إن الشعب الذي قدم التضحيات من أجل تحرير بلاده من الاحتلال البريطاني، قادر اليوم على دحر الغزاة الجدد الذين أخذوا بلادنا غنيمة حرب، وحولوها إلى مستعمرة ينهبون ثرواتها وخيراتها، ويحكمون شعبها بقوة الحديد والنار».

أما طارق الفضلي، ذو الخلفية القتالية، الذي ولد وترعرع وسط أجواء من الحروب والانقلابات والاغتيالات، وبعد هروب أسرته من اليمن، التحق بالمجاهدين في أفغانستان، وبعد أن عمل في صفوف حزب المؤتمر الشعبي الحاكم باليمن وحارب ضد الاشتراكيين بالجنوب، غيّر، منذ أبريل (نيسان) عام 2008 كل خططه، وتفرغ للعمل، كما يعلن، من أجل «وطني الجنوب»، قائلا: «استخدمنا لأغراض خاصة تبعد كل البعد عن المصالح الوطنية.. صُدمت بواقع مر. فحين عدت إلى مسقط رأسي لم يتم إرجاع أي شيء لنا من ممتلكاتنا، فعشت مشردا داخل وطني كما كنت أعيشه في المنفى، لم أستطع أن أقوم بحل عدة قضايا مهمة نظرا لموقعي في السلطة وعلاقتي الوثيقة بالقوى السياسية».

ويضيف: «وجدت أرض الجنوب أصبحت مستباحة فوجدنا أهلنا وناسنا البسطاء محرومين من كل شيء، والشماليين لهم الحق في النهب ولهم كل شيء مع تسهيلات كثيرة ومنافع مميزة وقروض ميسرة من البنوك، فرأينا أن المستقبل قاتم أمام أبنائنا نظرا لعدم المساواة في المعاملة، وتيقنت أن الجنوب محتل من أبشع استعمار في التاريخ، وأن أجيالنا القادمة لا مكان لها في وحدة النهب والتدمير والإقصاء. وعرفت ذاتي أخيرا وعرفت لأول مرة ماذا أريد».

ولن يسمح غالبية اليمنيين، من الشمال والجنوب، بتفتيت وطنهم إلى شطرين، كما يبدو، أو ترك الجنوب يتبعثر في كنتونات قبلية أو مذهبية أو غيرها، وهو ما لن تسمح به الدول المعنية بالمنطقة، وغالبية المجتمع الدولي أيضا، وآخرها الولايات المتحدة الأميركية، كما أعلن عن ذلك سابقا، خصوصا أن منطقة جنوب اليمن تطل على مسارات مهمة للملاحة الدولية. وبينما تضع الحكومة اليمنية الخطط، وتتلقى مساعدات من الدول الشقيقة والصديقة، للتعجيل بخطط التنمية وتحديث الإدارة وبسط الأمن، دعا الرئيس اليمني علي عبد الله صالح مَن له أي مطلب قانوني دستوري أن يأتي ليشارك في الحوار لأن الوطن يتسع لجميع أبنائه.

وكان صالح يخاطب منتسبي كلية الشرطة، وهو يدافع بضراوة عن وحدة البلاد، قائلا: «نعم.. نحن أسرة واحدة، ويا للعار في وجوه أولئك الخونة والعملاء الذين يتسكعون في الخارج أو في الداخل ويدعون إلى الشطرية.. يا للعار ويخس على وجوه أولئك العملاء الذين يرفعون العلم الشطري».

* غدا : امرأة بنصف شمالي وآخر جنوبي