اليمن بعد الحرب السادسة (الحلقة الثامنة) : امرأة بنصف شمالي وآخر جنوبي: الشعب اليمني واحد منذ قرون

المخرجة اليمنية إنصاف علوي هربت من حكم بالإعدام وتعرضت لمحاولتَي اغتيال في صنعاء وعدن

المخرجة اليمنية إنصاف علوي («الشرق الأوسط»)
TT

كانت الرياح تهبّ من ساحل البحر الأحمر فتحرك خصلات الشعر على وجهها العربي الأشمّ، متوجهة إلى جنوب اليمن الملتهب بنيران السياسة والتعصب القبلي والمذهبية. تذكرَت هذه المرأة، العائدة إلى مسقط رأسها، اللحظة التي تم إخطارها فيها بصدور حكم الإعدام. تَحسّست عنقها، وحين اعتصرها الألم، كانت الدموع قد جفّت. لحظة أخرى من الصمت. هذا هدير محرك السيارة يدفع بها فوق الجبال. من هنا تشرف على عدن، ومن هناك تبدو الحقول والأراضي الشاسعة كما تركتها أول مرة قبل 23 عاما. لم تكن تعلم أن محاولة أخرى لاغتيالها سينفذها أحد الانفصاليين أو الاشتراكيين. المحاولة الأولى اكتشفها جيرانها وأخطروا شرطة صنعاء حين لجأت إليها في فجر يوم بارد من تلك الأيام التي كانت فيها اليمن شطرين، والقلب نصفين.

هبّت رياح البحر بقوة داخل قمرة السيارة، ثم سكنت حين وصلت إلى المقبرة.. هنا ضريح أخيها الذي اغتاله السياسيون، وهنا بيت جدها الوزير الراحل الذي صادر الحزب الاشتراكي أملاكه.. وهناك يرقد والدها، السياسي البعثي، الذي مات كمدا ليلة إعلان الوحدة بين شطري اليمن، رافضا لهذه الوحدة.. وفي مكان قريب جثمان عمها الذي رباها على أن اليمن يمن واحد وأرضه أرض لا تتجزأ. لحظة من الصمت من جديد لعل دمعة تسقط، لتخفف هذا الحزن الثقيل على القلب. لكن الدموع كانت قد جفّت. حفرَت بأصابع يديها التراب علها تستعيد من رحلوا وتعيد ترتيب صور الماضي، لكن أظافرها تكسرت والغبار غطى شعرها والناس تجمعوا حولها يجذبونها لتتحمل أكثر، لتبدأ من جديد.

كان ليل عدن غير كل الليالي.. أمْضَت المخرجة والفنانة اليمنية إنصاف علوي الساعات الأولى في بيت استأجرته على عجل، تبحث عن العبق القديم ليلهم قلبها على النبض ويحيي الروح فيها. تغلبت على ما كان، وبدأت تغزل بأفكارها، وهي تستشرف الآفاق الجنوبية والغربية على سواحل باب المندب، ما يمكن أن يكون عليه الغد وما بعد الغد.. هذا مشهد، وهذا مشهد ثانٍ، هذه مسرحية جديدة، وهذه شاشة عرض سينمائي فوق خشبة المسرح عليها ظلال تأتي من بعيد، إلى أن تبرز كشخوص حقيقية أمام المشاهدين. هذا عالم جديد من الفن يعيد تركيب ما بعثره الزمن وتجار السياسة.

وُلدت إنصاف علوي وسط أسرة مرفهة في منزل تختلط فيه السياسة بكثير من الثقافة والموسيقى، في منطقة الشيخ عثمان في عدن.. كان المنزل كبيرا يضم ستة بيوت متجاورة وبنفس التصميم يحيط بها سور كبير، وبوابة واحدة. أحد أفراد هذه الأسرة، هو جد من أجداد إنصاف علوي، عبد الله عبد المجيد الأصنج، الذي كان، في ما مضى، وزيرا لخارجية اليمن. لكن كل هذا ضاع.. ضيعته الصراعات وألاعيب السياسة وغدر الأصدقاء والرفاق. وبعد أن ترعرعت وتعلمت وحلمت وأبدعت وهربت من القتل والموت، ها هي تعود من جديد، كأنها حالة يمنية خاصة لا تعرف الانكسار أو الاستسلام.

وحين التقتها «الشرق الأوسط» الأسبوع الماضي، كانت إنصاف علوي تقول، كأنها تُعِدّ لتأليف أو إخراج مسرحية جديدة، أو تمثيل مشهد تلفزيوني من مشاهد حياتها: «كان ياما كان.. في قديم الزمان.. ناس طيبين وحلوين فاتحين كل الأبواب.. لو بالبيت فيه حزن يحزن له شارع كامل.. لو فيه فرح يفرح له كل سكان الشارع.. حتى لو كان هذا لا يعرف ذاك.. حتى لو كان هناك غريب يتحول إلى قريب». لكن هذا لم يعد موجودا.

تلتقط أنفاسها، بعد أن تلقي نظرة على الأفق الممتد فوق الشوارع والبيوت والمزارع من عدن إلى صنعاء.. تضع يديها على أذنيها كأنها لا تريد أن تسمع صوت الرصاص المتطاير والمهاترات المتبادلة. تقول: «رحم الله جدودي.. كان يا ما كان لنا بيتنا وبيئتنا. كان أحد أجدادي، وهو عم جدي عبد الله عبد المجيد الأصنج، يقول لي وأنا طفلة: أشتهي (أتمنى)، يا بنيتي، أن تكوني مخرجة سينمائية. بينما أمي، رحمها الله، كانت تحلم أن أكون طبيبة.. أبي كان يحلم أن أكون محامية، لذلك سماني إنصاف.. العقل الباطن لعب دوره معي في حكاية الإخراج، وساعدني زوج أمي كثيرا في ما بعد. أنا أعتبر نفسي الآن مخرجة مسرحية احترافا ومخرجة سينمائية هواية، بل درست السينما من باب الفضول. السينما سحر.. منها نقلت تقنيات إلى الكثير من التجارب المسرحية، خصوصا بعد أن أصبحت السينما شبه متوقفة في اليمن»، بل إن إنصاف ترى أن العمل الفني بشكل عام تضرر إلى حد كبير بسبب الخلافات السياسية وظهور الحركة الانفصالية وتنظيم القاعدة في الجنوب، والتمرد الحوثي في الشمال، ومع ذلك يعمل المسرحيون بكل جد في كل مكان، حتى تحت رصاص المتمردين والمتشددين والانفصاليين في الشمال والجنوب.

و«كان يا ما كان.. كان هناك طفلة في بيت العائلة.. بيت مكون من ستة بيوت بعضها مع بعض، يضمها سور واحد، وحديقة واحدة يربطها جميعا بوابة، وكل بيت مكون من طابقين.. الطفلة حين كبرت في فترة الحكومة الاشتراكية في دولة ما كان يعرف باليمن الجنوبي، فقدَت بيت العائلة في عدن.. بيت جدها تأمم دون تعويض عام 1976 وفقدَت بيتها حين كبرت في ما بعد. وبدأت رحلة العذاب».

وكانت إنصاف علوي في تلك السنة تعزف وتكتب وتنسج من أحزانها الخاصة أحلاما يمكن أن تضمد جراحها وجراح الكبار من حولها.. كان الوطن ما زال منقسما إلى دولتين، وكان البعض يرى أن عدن تستحق أن تنفصل كدولة أو سلطنة وحدها للعدنيين دون شريك. وكان آخرون يردّون عليهم بأن اليمن يمن واحد، ومصيره إلى الوحدة، بلا ممالك وبلا سلطنات.. كان مثل هذا الكلام يخيف البنت الصغيرة التي تستذكر دروسها استعدادا لامتحانات نهاية المرحلة الابتدائية.. كل الجدل يتحول داخلها إلى أقطاب من النور تفتح عينييها على مستقبل باهر وغامض. وربما لهذا السبب، وهي في الصف الثالث الإعدادي (1979)، تقدم على خشبة المسرح أول عمل فني في حياتها اسمه «الخيانة والوفاء»، من الأدب الهندي. ثم يدفعها الحماس إلى مزيد من العمل، لتنخرط في تجارب إخراجية مسرحية، كان أولها «قارب في غابة»، سرعان ما نالت به لقب أول مخرجة يمنية في اليمن والجزيرة والخليج، وذلك في عام 1981، عقب تخرجها في معهد الفنون الجميلة في عدن. كان والدها قد طلّق أمها، وأصبحت إنصاف تنهل من ثقافة زوج أمها الذي تطلق عليه «عمي»، ومنه أدركت أن الوطن لا يمكن أن يتجزأ، وأن إعادته موحدا يتطلب وعيا وإدراكا وتعلما وثقافة وحبا لا ينقطع بين الجميع.

لكن كيف صدر حكم بالإعداد ضد هذه المخرجة الشابة؟ ولماذا؟ وكيف نجت من محاولتَي الاغتيال الأولى والثانية؟ حدث هذا بعد أن عادت من منحة دراسة المسرح في روسيا. عادت لتقدم بعض التجارب المسرحية في أرض الوطن (في الجنوب)، كشرط من شروط استكمال الدراسة بالخارج.. تقول: «حين عدت إلى عدن وقتها (1988) وجدت ضدي 16 تهمة، منها أنني على علاقة بالبعث الاشتراكي، والبعث العراقي والبعث القومي وغيرها. كانت كل هذه التهم بسبب زواجي من رجل سوري، وإنجابي لبنت منه. بغضّ النظر عن هذه التهم، حُكم عليّ بالإعدام عام 1988، لأنني اتُّهمت بالتفوه بحق رئيس الجهورية في ذلك الحين، سالم البيض، على خشبة المسرح وأمام الجمهور. كان اسم المسرحية «غلطة في حياتي»، وكانت عبارة عن حدوتة اجتماعية ليست لها أي علاقة بالسياسة. ولم أكن أعلم أن البيض قد أصبح هو رئيس الدولة حينها. المشكلة حدثت حين ماطل المسؤولون في صرف مستحقاتي المالية الممنوحة لي من الدولة (دولة اليمن الجنوبي آنذاك)، وماطلوا أيضا في فتح المسرح لإجراء البروفات النهائية عليه.. اضطررت إلى بيع مصوغات والدتي للإنفاق على المسرحية، لكن قبل العرض بليلة واحدة، رفض المسؤولون فتح المسرح لي لإجراء البروفة الجنرال (النهائية). وعلى هذا أخذت مطرقة وكسرت القفل وصعدت على خشبة المسرح، وهنا جاء رجال الأمن لاعتقالي. فأخذت الميكروفون وتفوهت ضد رئيس اليمن (الجنوبي)، وكنت أظن أن موقعه ما زال أمينا للحزب الاشتراكي، لا رئيس الدولة».

في أثناء رحلة هروب إنصاف من الإعدام كانت تتذكر كلمات عمها (زوج أمها). وكانت تحلم أن تعود في يوم من الأيام إلى وطن واحد اسمه اليمن، لا يمن شماليا ولا يمن جنوبيا، ولا ممالك فيه ولا سلطنات.. تقول: «رباني عمي زوج الوالدة.. كان هذا الرجل على علم بتاريخ اليمن وتفاصيله.. ينفخ فِيّ حب اليمن. كان رجلا وحدويا.. نحن شيعة، رغم أنني أقول إنه لا يوجد فرق بين الشيعة والسنة، كلنا مسلمون نؤمن بالله ورسوله. ولكن الوالد كانت له وجهة نظر محددة، أن تكون عدن خاصة بأهل عدن، لا دخيل عليها لا من الشمال ولا من الجنوب، ولا من الشرق ولا من الغرب. وربما صراعه مع الاحتلال الإنجليزي في السابق كان له تأثير عليه، لأنه تعذب كثيرا.. نظرته الانفصالية البحتة حول عدن ترعرعت عنده، وكان من الصعب على عقله أن يمحوها. أما عمي، زوج الوالدة، فكان يقول لي: الأرض واسعة، تكفينا وتكفي سكان القمر لو كان عليه سكان. وهو أصلا من تعز، وتعلم في عدن، واسمه سعيد. وكان مواطنا عاديا مثقفا واسع الاطلاع، لكنه لم يكن منتميا إلى أي حزب سياسي».

ليلة معرفتها بأن حكما بالإعدام ينتظرها، جاءها رجال من الحزب الاشتراكي إلى المسرح، وأمروها أن تسلم بيتها بكل ما فيه من أثاث للحزب.. تتذكر وتقول: «طلبوا مني أن أسلم البيت، بيتي، مع أثاثه إلى جماعة من الحزب الاشتراكي. وأذهب بعد ذلك إلى السجن. وبطريقة ما، وبسرعة، تحايلت على الأمر، وزُوّرَت لي جوازات سفر، لي أنا ولابنتي.. بعنا البيت سرا لنتمكن من الفرار بالاستعانة بالمال، وتركنا الأثاث لجارتنا. وحين هربت إلى صنعاء لحق بي عناصر من الحزب الاشتراكي، وزرعوا قنبلة في منزل استأجرته من رجل يُدعى الشوكاني، في شارع القاهرة في صنعاء. لكن جيراني اكتشفوا القنبلة قبل أن تنفجر في الفجر، حيث أبلغوا الشرطة والأمن السياسي الذي تمكن من إبطال مفعولها، قبل مقتلنا جميعا. كان ذلك عام 1989.. ومن صنعاء هربت إلى قبرص، ومنها إلى موسكو، ثم إلى روسيا البيضاء، وتم ذلك عن طريق السفارة الروسية. وبعد أن عدت في ما بعد إلى صنعاء، صدر لصالحي عفو عام، بعد الوحدة اليمنية (1990) بنحو سنتين».

الشوق إلى بحر منطقة أبين وإلى الطريق الساحلي الطويل وإلى النسيم المشبع برائحة اليود والورود.. الشوق يحثّها على العودة من صنعاء إلى عدن بالسيارة لا بالطائرة، حتى تقبّل الأرض أمام بوابة كل مدينة على طول الطريق.. «كان ذلك عام 1992.. صممت أن لا أعود إلى عدن بالطائرة. كنت أريد أن أعود إليها برا مثلما خرجت منها، هاربة، برا. كنت في كل بوابة من بوابات المدن التي مررت عليها وأنا في طريقي إلى عدن، أنزل وأبوس الأرض. وحين وصلت عدن كان كل وجهي ملطخا بالغبار، منهارة أبكي على الأرض. توجهت مباشرة إلى مقبرة الأسرة.. كان معي الوالد والوالدة وابنتي. ولم أدرِ ما كنت أفعل، إذ رفعني الناس عن قبر أخي الذي دفع الثمن بمقتله، وهو يشرف على إنشاء مبنى الحزب الاشتراكي اليمني في منطقة المعلا، عام 1986، وذلك نتيجة لخلافات سياسية ومناطقية مع أعز أصدقائه الذي قصّه بونش (رافعة) من منطقة الصدر. كنت أريد أن أخرج جثة أخي لأقبّلها وآخذها في حضني، لكن الناس منعوني قائلين إن هذا حرام، فانهرت وأخذت أبكي عليه».

كانت الأجواء السياسية متوترة في السنوات الأولى للوحدة، لأنه حالما سيحاول الزعماء الجنوبيون العودة للانفصال في عام 1994. وتفكر إنصاف علوي وتكتب وتمثل وتجدد في التجارب المسرحية بينما اتهامات التخوين وطلقات الرصاص من جانب الانفصاليين تفزعها في سكون الليل. حيث تقيم في منزل استأجرته في عدن. كانت الدنيا قد تغيرت.. «البيت الذي كان مفتوحا على كل البيوت لم يعد موجودا.. والبيوت التي كانت مفتوحة على بعضها أغلقت أبوابها. ولم يعد أحد يسأل عن أحد أو يشاركه أفراحه وأتراحه. ولم يعد الغريب قريبا كما كان. توجد كراهية مبطنة حتى في الوسط الفني، بسبب السياسة. لقد تغيرت الأجيال وتغير إيقاع الزمن. أمامنا مرحلة لا بد أن نستعيد فيها الوعي والإدراك».

ومع ذلك، وفي مثل هذه الأجواء من بداية التسعينيات عاودت إنصاف علوي النشاط المسرحي في عدن، رغم محاولة الاغتيال الجديدة التي ستتعرض لها.. وقدمت عدة مسرحيات من تأليفها وإخراجها وبطولتها، منها مسرحية بعنوان «أنا وحماتي ومدير المسرح»، قبيل الحرب بين الانفصاليين في الجنوب والسلطة المركزية في الشمال عام 1994. وكانت المسرحية تدور عن قضية الانقسام والتوافق السياسي في البلاد.. «كان معي حينذاك سيارة جديدة ماركة (لادا) موديل 1989 وكنت متوجهة من تعز إلى الحُديدة لعرض المسرحية هناك، وفي الطريق انقلبت السيارة عدة مرات.. بفحص السيارة وجد المحققون أن شخصا من الاشتراكيين تعمد إعطاب الفرامل. أُصبت بإصابات في العمود الفقري، رغم أنه ليست لي أي علاقة بالسياسة. عرفت اسم الجاني وعفوت عنه، لأنني أعلم أنه ليس لديه إدراك بما فعله. رغم كل شيء استمرت عروض المسرحية نفسها. وبعدها عرضت مسرحية أخرى من إخراجي، أما التأليف فكان بالتعاون مع الأستاذ المرحوم عبد المجيد القاضي والأستاذ (المصري) شوقي جمعة».

وتمكنت إنصاف علوي من العبور إلى اليمن الموحد.. وواصلت تجاربها المسرحية في الإخراج والتأليف، واستكملت أعمالها التلفزيونية كممثلة في عدة مسلسلات وسهرات، آخرها هذا العام، وهو مسلسل اسمه «حلقة من ثلاثين حلقة»، لتواصل، وهي تعمل، محبتها وعشقها لساحل أبين ومنطقة البريقة والطريق الطويل إلى منطقة لحج، فهي أساسا من بيت السقاف، من منطقة الوهد، حيث بداية لحج. وتقول عن أصولها التي تعود إلى ما يُعرف في اليمن بـ«بيت السادة» إن هذا يعني.. «أنني من آل البيت، جدتي فاطمة بنت الزهراء، وجدي عليّ بن أبي طالب.. لكن أنا لي منطق آخر بهذا الخصوص.. وهو أن السيد هو سيد عمله، والسيادة ليست مذهبا أو منهجا. نحن نحتفظ برأينا حول هذا، لأن الذين يتحدثون الآن في هذا الموضوع حوّلوا المذاهب إلى مهاترات سياسية، وجعلوها غير معروفة الملامح. أما في السابق فلم يكن بينهم أي روح عدائية أو أي توتر. هذا ليست له علاقة بالحوثيين.. هؤلاء (الحوثيون) سادة قتل ممكن.. إنهم كالأعمى. ما أراه من تشويه لصورة اليمن أمر مقزز. أنا لم أسمع عن كلمة حوثي إلا في السنوات الأخيرة. أصبحت توجد روح عدائية مسلحة.. هذا أمر مكروه. حتى النبي صلي الله عليه وسلم يكره العنف».

وتزيد قائلة: «الحوثيون يريدون أن يشترطوا علينا مذهبا جديدا. يريدون إقامة حكومة بالرؤى التي يعتقدون أنها صحيحة، بينما الدين معايشة. لا يصح العودة إلى الماضي. حتى الأديان تتطور مع المجتمع. أنا أنبذ أساليب العنف، وأتعاطف معهم لأنهم عميان يدّعون الإدراك. أخشى أن يكونوا آدميين أساسا، لو كان عندهم نسبة بسيطة من الآدمية، سواء (القاعدة) والحوثيون، ما رفعوا سلاحا في وجه عجوز أو شيخ».

لكن ما يخيف إنصاف علوي، وما يجعل القلق يتمكن منها، تحسبا للمستقبل، هو تنامي ظهور تنظيم القاعدة في البلاد، ودعاوى انفصال الجنوب عن الشمال مجددا في السنوات الأخيرة.. تقول عن دعاوى الانفصاليين الذين يعلنون تضررهم من الوحدة: «يُقال إنه بعد الوحدة تضرر الجنوب عن قبل. هل من الضرر بناء مدرسة، أو ملجأ أيتام، أو مستشفى، أو رصف طريق؟ أنا أكثر الناس تضررا، حيث لا بيت لي، وأعيش في فنادق، ولم تعد لدي سيارة، فلماذا لا أقيم غاغة؟ أنا أعالج الأمور بحكمة، مع ضبط الأعصاب.. الضرر الذي قد أتسبب فيه اليوم، يؤثر في الناس مدة خمسين سنة قادمة. فليجلس المثقفون والفنانون ويتحملوا مسؤوليتهم ويقترحوا حلولا بدلا من العنف.. مشكلة الحراك الجنوبي أن الواحد منهم يريد سيارة له ويريد سيارة لابنه، ويريد توظيف ابنه ذي العشرين سنة، وتخصيص وظيفة لابنته التي عندها سنة واحدة».

وتنظر إنصاف علوي إلى الأفق البعيد.. تحدق إلى ركام السحب القادمة من فوق البحر. هناك، في البعيد البعيد، حيث الظلام، سيولد النور، ويخرج أشخاص من بطن الليل، حاملين مشاعل النور.. هكذا تخطط وتسجل الملاحظات، في سياق تجربتها التي تسمَّى مسرح البحر، وهي تجربة مقترنة بمسرح السينما أيضا، خصوصا بعد أن كادت دور السينما تختفي من اليمن.. «مشغولة الآن بمسرح البحر.. هناك تجارب لهذا النوع في بلغاريا ومصر والعراق، لكن أريد أن أصل إلى حالة يمنية.. من ناحية الكيفية. أنا رُبّيت على البحر. تأملته كثيرا، وقلت لماذا لا نرجع إلى الطبيعة بكل ما احتوته من إمكانات سواء كانت تقنية أو أدبية.. يأتيني البحر بحواديت وبأقاصيص وأساطير ربما كانت حقيقية وربما كان مصدرها الخيال. لذلك عليّ أن أطوعها سواء كانت للصغار أو للكبار. ويمكن لمسرح البحر أن يكون مسرحا احترافيا يجانس المسرح القومي في اليمن».

«سلومة تسلم» هو اسم إحدى التجارب المسرحية الأخيرة لإنصاف علوي، تدور عن امرأة تحدت البحر وقهرت الموج، أي المستحيل، وكأنها المرأة اليمنية نفسها التي تعاني من الاختلالات السياسية والمناطقية في البلاد، وتحاول أن تنتصر على كل هذه العقبات.. تقول علوي عن نص المسرحية: «البطلة سلومة، تمكنت منذ الطفولة أن ترضع الحليب، وترضع عالم البحر أيضا.. حين كبرت كان عليها أن تعرف كيف تصطاد، حين لم يصبح لها سند ولا ولد. زوجها عاجز راقد في الفراش، ولا بديل.. عليها أن تحمل هذه الصعاب. وتخوض هذه المعركة الجديدة عليها، ذهبت واسترجعت ما رضعته في الصغر.. نجحت في التغلب على العقبات».

وعلى غير ما هو شائع عن اليمن يحظى المسرح في الوقت الراهن بنسب مشاهدة عالية من الجمهور، وبينما ترى إنصاف علوي هذا، فإنها تعوّل كثيرا على ما يمكن أن يفعله المسرح من تقدم في حياة اليمنيين، خصوصا أن اليمن عرفت المسرح منذ دخول الاحتلال الإنجليزي عدن بمسرح عرائس هندي في قديم الزمان. تقول إنصاف: «في الوقت الحالي هناك عائلات لا تجد موضعا لقدم من أجل مشاهدة عرض مسرحي. العروض ليست متركزة في مدينة أو محافظة.. المسرح اليمني أصبح موجودا في كل مكان. حتى المسارح التي توقفت بسبب مشكلات معينة، مثل المسرح الموجود في محافظة المُهرة، هناك مساعٍ حكومية لعودته إلى العمل. هناك فرق مسرحية تعرض في محافظات لا يتخيل أحد أنه يمكن أن يجد فيها فرقة مسرحية، مثل محافظة صعدة، وأنت تعلم ما يدور في محافظة صعدة (من تمرد وحرب وقفت أخيرا). بينما كانت أمطار من الرصاص تنهمل من جانبهم (المتمردين)، يذهب شباب يمنيون، قبل شهرين، لتقديم عروض لأهالي صعدة في محاولات منهم لاستئصال الغضب والحزن وزرع الابتسامة هناك».

وتتحدث إنصاف علوي عن الجوائز التي حصلت عليها باعتبارها جوائز يفخر بها جميع اليمنيين، خصوصا أنها غير منتمية إلى أي حزب سياسي.. ومن ضمنها جائزة درع مهرجان دمشق الدولي الرابع عشر، والجائزة الذهبية في مهرجان المسرح التجريبي الثامن عشر بالقاهرة. تقول: «أنا غير منتمية إلى أي حزب.. ليس لديّ ولاء لأي شخص من الأشخاص الموجودين. ولائي لله سبحانه وتعالى. الشعب اليمني شعب واحد منذ قرون وقرون. أنا نصفي في الشمال ونصفي في الجنوب. وعيب أن أقول هناك شمال وهناك جنوب. لكن هناك فئة معينة ربما فقدت مصالحها. أقول للبيئة المثقفة في الشعب اليمني إنه آن الأوان لترتيب أفكارنا وترتيب أوضاعنا، ليس من أجل اليوم، ولكن من أجل المستقبل، حتى يعيش أحفاد اليمنيين حياة سعيدة ومريحة. بناء الوطن مهمة المثقفين لا السياسيين».

* غدا : سباق الحكومة والمعارضة للأستحواذ على العيون والأذان