ذاكرة العراق.. عدنان الباجه جي (الحلقة 3) : الباجه جي: تأثرت بأفكار رشيد عالي الكيلاني فمنعت الحكومة تعييني

قال: الحرب العالمية الثانية قطعت علي الطريق للوصول إلى إنجلترا لإكمال دراستي

عدنان الباجه جي رئيسا للجنة الرابعة في الأمم المتحدة أوائل الستينات («الشرق الأوسط»)
TT

كانت الحرب العالمية الثانية قد اشتعلت في أوروبا قبل عام واحد من تخرج عدنان الباجه جي في مدرسته الثانوية في الإسكندرية، والتي أمضى فيها ست سنوات، هذه الحرب التي لم تؤثر على مسيرته الحياتية إلا في جانب واحد، إذ قطعت عليه طريق الوصول إلى إنجلترا لإكمال دراسته الجامعية فيها، يقول «درست في الثانوية في الإسكندرية ست سنوات، حيث تخرجت سنة 1940، وكان من المفترض أن ألتحق بالدراسة في أكسفورد، لكن سقوط فرنسا في الحرب قطع الطريق أمامي للوصول إلى إنجلترا».

لم يهتم عدنان لعدم قطعه البحر نحو هدفه، إذ كان البديل بالنسبة له أفضل حسب رأيه «فقد التحقت بالجامعة الأميركية في بيروت لدراسة العلوم السياسية والتاريخ، وقد استفدت كثيرا من الدراسة في هذه الجامعة، فهي أميركية بالاسم فقط لكنها عربية، كانت غالبية الأساتذة والطلبة من العرب، كما أن هذه الجامعة كانت مركزا ومنطلقا للحركات الفكرية والثورية العربية، وقد تأثرت بها كثيرا».

في هذه الجامعة سيدشن الشاب عدنان أولى تجاربه السياسية متأثرا بالحركة الثورية لرئيس حكومة الإنقاذ الوطني في العراق رشيد عالي الكيلاني في مارس (آذار) 1941 إبان الحرب العالمية الثانية، والتي شكلها من الضباط القدامى من زملائه في الجمعيات السرية التي كانت تدعو لاستقلال العراق، وهم القادة الأربعة المعروفون بالمربع الذهبي، برئاسة العقيد صلاح الدين الصباغ، وهم كل من فهمي سعيد ومحمود سليمان وكامل شبيب ويونس السبعاوي، الذين سيتم فيما بعد إعدامهم بإصرار من الوصي على العرش الأمير عبد الإله الذي كان من المناصرين لبريطانيا، إذ لم يستطع مقاومة التيار العربي في وزارة الكيلاني. وبدأ الموقف في التصاعد عندما رفض رئيس الوزراء السماح للقوات البريطانية باستخدام الأراضي العراقية أثناء الحرب العالمية الثانية ضد دول المحور، ورفض الدعوات التي وجهت إليه لقطع العلاقات الدبلوماسية مع إيطاليا التي كانت حليفة لألمانيا أثناء الحرب.

كل هذه المواقف السياسية أدت إلى فرض حصار اقتصادي شديد على العراق من قبل بريطانيا، رافق ذلك وصول أنباء إلى أسماع الوصي على العرش عبد الإله بأن الكيلاني يدبر حركة لإقصائه عن وصاية عرش العراق، فهرب الوصي وغادر العراق، مما أفسح المجال لتنصيب الشريف شرف وصيا على العرش بديلا لعبد الإله. نتيجة لهذه الأحداث نزلت القوات البريطانية إلى البصرة، وتوجه الكيلاني نحو بغداد وفشلت حركته وحكم عليه بالإعدام غيابيا؛ حيث كان قد أفلت من الأسر ولجأ إلى إيران فتركيا فألمانيا، ومن ثم إلى المملكة العربية السعودية طالبا حماية الملك عبد العزيز آل سعود.

يقول عدنان «لقد تأثرت بأفكار الكيلاني وبحركته المناهضة للاستعمار البريطاني وأنا في بيروت، وانضممت إلى كتائب الشباب التي أسسها درويش المقدادي (كان أستاذا فلسطينيا) ومساعده إبراهيم شوكت (مدرس جغرافيا)، وبدأ حينها أول عمل سياسي لي، حيث شاركت في مظاهرة في بيروت وتدربنا هناك، لكن الحركة انهارت خلال شهر». هذا النشاط السياسي، ومهما كانت بساطته، سيدفع ابن السياسي الباجه جي ثمنه بعد عامين عندما يتخرج في الجامعة الأميركية ويعود إلى بغداد، يقول «أردت العمل في الخدمة الخارجية (السلك الدبلوماسي) لكن الحكومة منعتني من أداء الامتحان الخاص بالعمل بوزارة الخارجية، حيث كان هناك تقرير من دائرة التحقيقات الجنائية (دائرة أمنية في العهد الملكي) بسبب وجود تقارير تفيد بأني كنت مناصرا لحركة رشيد عالي الكيلاني ومؤيدا للنازية خاصة أثناء الحرب، لهذا بقيت لمدة سنة بلا عمل ولم أفعل أي شيء».

شعر ابن العائلة البغدادية المعروفة، والنجل الوحيد لرئيس الوزراء الأسبق مزاحم الباجه جي بالملل نتيجة حالة البطالة التي فرضت عليه لسبب سياسي عابر في بيروت، ولم يقتنع بالوضع الاقتصادي والحياتي الجيد الذي كان يعيشه، فراح يبحث عن فرصة عمل في الحكومة العراقية «وبسبب وضعي العائلي وعلاقات الصداقة التي تربط الوزراء مع والدي كنت أستطيع مقابلة أي وزير في الحكومة، وهذا لم يكن متاحا لأي شخص، كنت مجرد أن أقول لمدير مكتب الوزير (كانوا يسمونه ملاحظ المكتب الخاص) إنني أريد مقابلة الوزير، يُفتح باب مكتب الوزير أمامي فورا، لهذا التقيت بوزير الداخلية تحسين العسكري، ووزير الاقتصاد سلمان البراك، وغيرهما بحثا عن وظيفة، لكنهم كانوا يعتذرون ويقولون (ماكو وظيفة)، وزال استغرابي فيما بعد عندما عرفت أن والدي كان قد أبلغهم بعدم توظيفي لأنه كان يريدني أن أتم دراستي العليا».

يصر عدنان على أن يحقق ما خط لنفسه من طريق في العمل وخدمة بلده، ألا وهو الانتساب إلى السلك الدبلوماسي، فبعد عام تقريبا من رفض الحكومة مشاركته في امتحان العمل الخارجي، سمح له بأن يخوض هذا الامتحان، يقول «شاركت في الامتحان ونجحت، كان امتحانا حقيقيا لا لبس فيه، وصعبا جدا، وقد بقيت أدرس وأحضر له لعدة أشهر مواد: التاريخ والقانون الدستوري، والقانون المدني والقانون الدولي، وكان هناك امتحان في المعلومات السياسية العامة في العراق وفي العالم، وهذا باللغة العربية، كما كان هناك امتحان لغة، أي يجب أن يعرف المتقدم لغة أخرى غير العربية خاصة الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو لغات أوروبية أخرى. وبعد مرور سنة أو سنة ونصف كان علينا اجتياز امتحان آخر هو امتحان تثبيت، ثم امتحان ترفيع (ترقية) إلى سكرتير ثان أو أول، وفي هذا الامتحان يحتم على الموظف أن يكتب أطروحة أو بحثا بلغة أجنبية، بلغة البلد الذي يعمل فيه، فمثلا أنا كتبت أطروحتي أو بحثي عن رئاسة الولايات المتحدة عام 1952، ولا أزال محتفظا بهذا البحث (يخرج البحث من بين أدراج مكتبته ويتصفحه)، وحصلت على ترقيتي إلى سكرتير أول عن بحثي هذا».

لا ينسى عدنان الباجه جي أي اسم أو حدث بتفاصيله الدقيقة، الأهم من هذا أنه يروي هذه الأحداث بصدقية وحيادية عاليتين، حتى إنه لا يزال يتذكر أسماء زملائه الأوائل الذين تعينوا معه في وزارة الخارجية «تعينت في الخارجية في 11 ديسمبر (كانون الأول) 1944 كملحق ثالث، ووقتذاك كان التعيين في هذا المجال يتم بإرادة ملكية، حدث هذا في عهد وزير الخارجية أرشد العمري، ورئيس الوزراء حمدي الباجه جي، ابن عم والدي، وأتذكر أن الإرادة الملكية التي حملت أمر تعييننا ضمت سبعة أسماء بينهم فيصل الدملوجي، عم البرلمانية العراقية ميسون الدملوجي، وعلي جميل صائب، وهو كردي وقتله مشحن الحردان خارج العراق، وكاظم محسن خلف، كان وكيل وزارة الخارجية وعمل سفيرا للعراق في بريطانيا، ومحمد إبراهيم أدهم، تزوج فيما بعد من أميركية وبقي في أميركا، وواصف السعدون نجل عبد المحسن السعدون، وأنا»، وعلى الرغم من أن جميع الذين ذكرهم ينحدرون من عوائل عراقية معروفة، فإنه يؤكد أن «التعيين سواء في وزارة الخارجية أو في أي وزارة أخرى كان يتم حسب الكفاءة، وقد تقدم معنا في الامتحان عدد من الأشخاص هم ليسوا من أبناء عوائل غنية أو معروفة، إذ كانت هناك جدية في التعامل مع الكفاءات، فمن أسسوا العراق الحديث كانوا من طبقة المثقفين والمتعلمين الأكاديميين، من حملة الشهادات الجامعية، البكالوريوس أو الدكتوراه، وقسم كبير منهم اكتسب خبرة عملية ممتازة، فالضباط الأوائل مثلا كانوا ضباطا في الجيش العثماني. ومن المعروف أن الدولة العثمانية كانت تهتم كثيرا بالقوات المسلحة، فقد كانت تختار المتفوقين في المدارس الرشدية، التي هي بمثابة المدارس الثانوية، وتضمهم إلى القوات المسلحة بغض النظر عن عوائلهم سواء كانت غنية ومعروفة أم لا، وتبذل جهودا كبيرة من أجل تدريبهم وتحسين كفاءتهم إلى مستوى عال من التفوق».

ولا يكتفي بذكر هذه الحقائق وإنما يقرنها بالأسماء والقصص «علي جودت الأيوبي، مثلا (والد زوجته) كان ابن عريف في الجندرمة في مدينة الموصل، وعندما دخل المدرسة الرشدية كان عليه أن يذهب إلى بغداد بواسطة الكلك (الجلج)، وهو عبارة عن صف من القرب المصنوعة من جلد الماشية تتم تعبئته بالهواء نفخا، ثم يصفون فوقها الأخشاب لتطوف في نهر دجلة وتنحدر معه جريان الماء من الشمال إلى الجنوب، وتعتمد سعة الكلك وثقل حمولته على عدد القرب الجلدية، وكانت هذه وسيلة شائعة في نقل المسافرين والبضائع من مدن الشمال الواقعة على نهر دجلة إلى العاصمة، وعندما يصل الكلك إلى بغداد يتم تفكيكه وبيع القرب الجلدية والأخشاب، وقد استغرق جودت أياما كثيرة ليصل إلى بغداد. أما جعفر العسكري، وهو أيضا من مدينة الموصل، وهو ابن جعفر بهلوان، فكان ضابطا في الجيش العثماني أيضا، وينحدر من قرية عسكر في الموصل وهم في الأصل أكراد، ولقب والده بالبهلوان كونه كان رياضيا يمارس رياضة (الزورخانة)، وهي نوع من الرياضات الشعبية السائدة وقتذاك، حيث يقوم الرياضي برفع نوع من الأثقال النحاسية أو الحديدية ويلاعبها على إيقاع الطبلة أو المزمار، وكان جعفر ضابطا لامعا ودرس في ألمانيا إضافة إلى اسطنبول، وحاصل على وسام الصليب الحديدي من القيصر الألماني، وقاتل في البلقان وطرابلس وكان بارزا كمحارب في الثورة العربية.

أما نوري السعيد فقد كان ابن موظف بسيط في الجمارك، سعيد أفندي، وقد لمع نجمه كضابط في الجيش العثماني وقاتل في البلقان والثورة العربية. وياسين الهاشمي كان والده مختار محلة الميدان (بجانب الرصافة) يوم كانت هذه المحلة من المناطق الراقية، والهاشمي كان من أكثر ضباط الجيش العثماني تميزا بفضل كفاءته العسكرية، حيث بقي في الجيش العثماني حتى نهاية الدولة العثمانية، وكان قائد جبهة في رومانيا، وحصل على رتبة عسكرية عالية جدا وأيضا حصل على وسام الصليب الحديدي من قيصر ألمانيا، فهؤلاء مثلا لم يكونوا من أبناء العوائل الغنية، لكنهم كانوا يتمتعون بكفاءات عسكرية متميزة، ومع الوقت أثبتوا جدارتهم ووطنيتهم وصاروا من النخبة، وكان تفكيرهم قوميا ووحدويا، لهذا قاتلوا في الثورة العربية من أجل أن يكون العراق نواة للوحدة».

ضباط النخبة، أو البناة الأوائل للدولة العراقية، جمعهم شعورهم الوطني والعروبي القومي وإيمانهم بالوحدة العربية، وهذا ما جعلهم يتحمسون لاختيار الأمير فيصل كأول ملك للعراق من غير أن يفكروا في أنه ليس عراقيا، في حين كان العراقي عبد الرحمن النقيب هو من أكثر المرشحين لحمل تاج العراق. يوضح عدنان الباجه جي «الأفكار الوحدوية كانت من أهداف الأمير فيصل الأول قبل أن يكون ملكا على العراق، فقد شارك في الجمعيات العربية السرية التي ناوءت العثمانيين، لهذا كان الرعيل الأول من الضباط والسياسيين العراقيين قد رحبوا به، وهم من تحمس له كونهم قاتلوا معه في الثورة العربية، علاوة على أنه كان يتمتع بصفات ممتازة وصار ملكا على سورية لفترة معينة وله قدرات سياسية وإدارية جيدة. أما عدم وصول النقيب إلى عرش العراق فقد وقفت عراقيل عدة في طريقه، منها أنه كان متقدما في السن، لكن السبب الأهم هو وقوف الشيعة ضده إذ كانوا يكرهوه بسبب انحدار نسبه من الشيخ عبد القادر الجيلاني، ثم إن الإنجليز كانوا يفضلون فيصل على غيره، والعملية تمت ضمن تسويات سياسية لتعويض خسارة فيصل لعرش سورية».

تم تعيين الباجه جي وزملائه في وقت كان فيه السياسيون العراقيون حريصين على تعليم الشباب ليسهموا في بناء الدولة الحديثة، فبعد أيام فقط من صدور الإرادة الملكية طلب وزير الخارجية أرشد العمري مقابلتهم شخصيا، ولا يزال يتذكر عدنان نص المحادثة التي تمت في هذا اللقاء، قال «قابلنا نحن السبعة، أرشد العمري، وزير الخارجية بطلب منه، وبلهجته المصلاوية (ينحدر العمري من مدينة الموصل) قال(انتو اشتعملون قاعدين هوني)، ماذا تفعلون هنا ببغداد؟ يجب أن تسافروا إلى الخارج لتتعلموا، فالتفت إلي قائلا (أنا سأبعثك للعمل في سفارتنا في واشنطن لأنها مدينة غالية وأبوك غني وعنده فلوس)».

كانت نيران الحرب العالمية الثانية لا تزال مشتعلة عندما تقرر التحاق عدنان الباجه جي كسكرتير ثالث في السفارة العراقية في واشنطن عام 1945، فإذا عرفنا أن السفر من بغداد إلى العاصمة الأميركية في الظروف العادية مسألة معقدة للغاية، فإن القيام به في ظروف الحرب العالمية يتحول إلى رحلة شبه مستحيلة، يتحدث عن تفاصيلها من قام بها، عدنان لا غيره، يقول «كان يجب أن أصل إلى واشنطن في سفرتي الأولى عام 1945، حيث كانت الحرب العالمية الثانية لا تزال مشتعلة، بواسطة طائرة عسكرية أميركية، لهذا سافرت إلى بيروت وبقيت هناك ثلاثة أسابيع، ثم سافرت إلى القاهرة، وأبلغوني بأن انتظر ريثما تتوافر طائرة مغادرة إلى أميركا، كنت وقتذاك موظفا بسيطا وليس من المهم في نظرهم الاستعجال بتوفير مقعد أو مكان على رحلة مستعجلة إلى واشنطن».

وليس من شك أن عدنان الباجه جي رجل محظوظ، فهو لم ينزعج أو يتضايق من مسألة التأخير في العاصمة المصرية، ومثلما يقول المثل العراقي الشائع «في كل تأخير.. خير»، فإن هذا التأخير أتاح له أن يشهد حدثا تاريخيا مهما ألا وهو توقيع ميثاق جامعة الدول العربية، ومثلما يوضح «صادف وجودي في القاهرة توقيع ميثاق جامعة الدول العربية في 22 مارس 1945، وحضرت كضيف مع أعضاء السفارة العراقية في مصر حفل التوقيع في قصر الزعفران». بعد هذا الحدث «اتصلوا بي وقالوا جهز نفسك سيكون السفر غدا. كانت الطائرة الأميركية العسكرية اسمها (داكوتا)، ولم تكن فيها مقاعد للجلوس وإنما مسطبة منسوجة من البلاستيك، وذات محركين، وأخذتنا في رحلة طويلة، طويلة جدا، حيث هبطت أولا في بنغازي ثم طرابلس، بعدها في تونس والجزائر ووهران والدار البيضاء، واستغرقت الرحلة 12 ساعة من القاهرة حتى الدار البيضاء، في اليوم التالي حلقنا بطائرة أخرى (دي سي 4) إلى قاعدة أميركية في جزر الآزور البرتغالية، وبقينا هناك لساعات وفي منتصف الليل نقلونا إلى بارمودا، حيث وضعونا في بيت، وكان الجو ربيعيا، ومن بارمودا إلى واشنطن مباشرة».

لكن هذه السفرة الطويلة لم تكن الأولى بواسطة الجو في حياة الباجه جي، إذ يستعرض لنا هنا تاريخ أولى رحلاته الجوية، حيث «كانت أول رحلة بواسطة الطائرة قمت بها عام 1939، من الإسكندرية إلى بغداد، وتوقفت في مطار اللد بفلسطين، لم تكن إسرائيل موجودة وقتذاك، ثم في (إتش 3)، وهي محطة أنبوب النفط العراقي إلى حيفا، وتقع قرب الحدود العراقية الأردنية، ثم توقفنا في قاعدة الحبانية الجوية العسكرية، قبل أن نصل إلى بغداد. واستغرقت هذه الرحلة عشر ساعات، وكانت الطائرة بريطانية وصغيرة تتسع لعشرة مسافرين فقط. وذات مرة سافرت بطائرة هولندية مائية حلقت من البحر المتوسط في الإسكندرية وهبطت في بحيرة الحبانية وكان عدد المسافرين أكثر من عشرة».

يستطرد الباجه جي في ذكر غرائب الرحلات الجوية وقتذاك متحدثا عن «السفرة الممتعة والغريبة التي قام بها علي جودت الأيوبي وابنته (التي ستكون زوجتي فيما بعد) إلى واشنطن سنة 1942، حيث عُين رئيسا للبعثة العراقية هناك. بدأت الرحلة بواسطة طائرة مائية من القاهرة إلى الخرطوم، ثم إلى ستانلي فيل في الكونغو، بعدها إلى كينشاسا، ولاغوس في نيجيريا، ومن هناك عبروا إلى البرازيل، وناتال، ومن هناك إلى تريدنال ثم إلى بورتريكو وصولا إلى نيويورك.. الرحلة دامت 25 يوما».

سيكون لعمل عدنان الباجه جي في واشنطن تأثير المنعطف المهني والحياتي الأهم في تاريخه، حيث كانت هناك قصة حب تتفاعل في داخله مع فتاة كان قد التقاها منذ أن كان عمره ثماني سنوات، ثم التقاها ثانية وهما في سن المراهقة، وأحبا كل منهما الآخر في صمت، تلك هي ابنة علي جودت الأيوبي سفير العراق في واشنطن، وحتى لا يختلط هنا ما هو سياسي بما هو عاطفي فسوف نأتي في ما بعد على تفاصيل هذه القصة التي قادت إلى زواج لا يزال مستمرا منذ أكثر من 63 عاما.

وصل عدنان الباجه جي إلى واشنطن في أبريل (نيسان) 1945، وصلها بانطباعات مسبقة غير ناتجة عن تجربة «عندما وصلت إلى واشنطن كنت في مطلع شبابي» يقول، ويستطرد «كانت معرفتي بالولايات المتحدة ناجمة عن دراستي الجامعية للتاريخ الأميركي وقراءاتي لبعض الأعمال الكلاسيكية من الأدب الأميركي، وكنت متأثرا كغيري بصورة أميركا التي تبشر بها أفلام هوليوود والتي سرعان ما اكتشفت أنها لا تعكس بشكل صحيح طبيعة الحياة الأميركية»، وكان رئيس البعثة العراقية (السفير) في واشنطن علي جودت الأيوبي، صديق والده مزاحم الباجه جي.

أميركا، سوف تفاجئ الشاب عدنان بالانبهار الحضاري الكبير الذي سيلازمه بقية حياته «عندما وصلت إلى هناك انبهرت جدا، فأميركا كانت قمة العالم في وقت كان العالم فيه منهارا بسبب الحرب العالمية الثانية، وأوروبا مهدمة، واليابان مدمرة». لكن ما لفت نظري واستفزني جدا هو طريقة معاملة الأميركان للسود خاصة في واشنطن التي كانت تسودها قيم التفرقة العنصرية بشكل مبالغ فيه، واستغربت من معاملة الأميركيين للسود، فإذا صعد أسود إلى الباص فعليه أن يجلس بالقسم الخلفي من الباص، كما كانت هناك مطاعم ومقاه وأماكن مخصصة للبيض ولا يدخلها السود، حتى المرافق الصحية، فهناك أقسام مخصصة للبيض وأخرى للسود، كان هذا الوضع مؤلما جدا وصادما، فنحن لم نألف مثل هذا التمييز بين الناس».

لكن التمييز العنصري في عاصمة الولايات المتحدة لم يكن المفاجأة المؤسفة الوحيدة، بل هناك مفاجأة أكثر قسوة ووقعا على الشاب العراقي الذي تربى على المشاعر القومية العربية،هذه المشاعر التي تكرست خلال دراسته في بيروت، وما لمسه عن قرب في واشنطن شكل تحديا صارخا لمشاعره ومبادئه، يوضح «انا اتمتع بمشاعر قومية، وتقوت هذه المشاعر في الجامعة الأميركية ببيروت، وعندما ذهبت إلى أميركا، وكانت الحرب العالمية الثانية في نهاياتها، كانت الحركة الصهيونية قد نشطت كثيرا، وقاموا باستغلال المظالم التي تعرض لها اليهود في الحرب العالمية الثانية في أوروبا إلى أقصى الحدود، وأول ما طالبوا به هو إدخال مائة ألف يهودي على الفور إلى فلسطين، وتم تأليف لجنة أنجلوأميركية لهذا الغرض، حيث جاءت اللجنة وقتذاك إلى واشنطن، وقد حضرت اجتماعاتها، وحتى الآن أتذكر أن العضو البريطاني في اللجنة كان اسمه (كروسمن)، وصار فيما بعد وزيرا في حكومة العمال، كان منحازا كثيرا للصهيونية، وشعرنا نحن كعرب بأننا محاصرون، وأن حقوقنا في فلسطين تذهب أدراج الرياح»، ذلك أن هذا الشاب المتحمس لقضايا بلاده العربية لم يكن يتخيل أنه سيكون في مواجهة مثل هذه الحقائق والممارسات التي لم تصادفه سواء في الإسكندرية أو بيروت أو بغداد، وهذا ما سينقله إلى مستوى آخر من التفكير «لقد جعلتني هذه الممارسات أتمسك بقوة بقضية فلسطين، وقد سنحت لي الفرصة، فيما بعد، أن أكون في مقدمة المتحدثين عن فلسطين في الأمم المتحدة، وهذا نمى شعوري الوطني والقومي، خاصة أن التقسيم حدث عام 1947 ثم نكبة فلسطين عام 1948».

ويعترف الباجه جي وبروح منطقية بأنه «باستثناء مسألة التمييز العنصري، فأنا أعجبت بالحرية والديمقراطية وقوة مؤسسات الدولة في أميركا، ومن حسن حظي أنني ارتبطت بعلاقات صداقة مع عائلات أميركية، فالأميركان أكثر سهولة من غيرهم على مستوى العلاقات الشخصية والاجتماعية، أكثر سهولة من الإنجليز».

وإذا كانت واشنطن ومن ثم نيويورك قد أدهشتا الباجه جي بعمرانهما وحياتهما اليومية، فإنه يشير إلى المدن العربية التي يعتبرها متحضرة ومتقدمة على مدينته بغداد «بالتأكيد كانت مصر متقدمة، وما من شك كانت أكثر تقدما من العراق، وذلك من الناحية العمرانية والثقافية وأسلوب الحياة، فالطبقة الميسورة في مصر كانت تعيش بصورة أكثر رقيا من مثيلتها في العراق، ولا أتحدث هنا عن مستوى الفقر، فالفقر كان سائدا بين الشعب المصري، وكذلك مستوى الحياة والرقي في بيروت كان متقدما، يعني كمدن عربية أذكر أن القاهرة والإسكندرية وبيروت كانت متقدمة كثيرا على بغداد التي كانت تبدو قياسا إلى تلك المدن أشبه بقرية كبيرة منها إلى مدينة».