ذاكرة العراق .. عدنان الباجه جي (الحلقة 5) : أكبر أخطاء العهد الملكي إعدام العقداء الأربعة

حُكم «العارفَين» الفترة الوحيدة التي لم يشهد فيها العراق إعدامات سياسية

الباجه جي مع البابا بولص السادس وعلي حيدر سفير العراق لدى إيطاليا عام 1967 («الشرق الأوسط»)
TT

شقة واسعة في الطابق الثاني من بناية مترفة، مبنية بالطابوق الإنجليزي الأحمر، يعود تاريخ إعمارها إلى الزمن الباذخ بالمساحات والسقوف العالية، ومواقد التدفئة المزخرفة، عمارة تنتمي إلى الطراز الفيكتوري، وإن لم تكن قد بُنيت في ذاك العصر الثري بفنونه في واحد من الاحياء اللندنية الراقية والتقليدية برخائها (نايتس برغ) قبالة متنزه مستدير تقريبا يتمركز وسط عمارات متشابهة تماما، عمارات توائم لا يميّزها سوى أرقامها.

من خلال نافذة عريضة من تلك الشقة، تطل مباشرة على المتنزه المحاط بسياج حديدي أسود، يتطلع عدنان الباجه جي نحو الأشجار الغارقة وسط مطر يبدو أزليا في هذه المدينة، فوق صدره يسترخي كتاب باللغة الإنجليزية، لم نتبين عنوانه بوضوح، لكن موسيقى سيمفونية شهرزاد لمؤلفها ريمسكي كراساكوف تعلن عن نفسها بقوة، خصوصا عند الحركة الثانية عندما يبدأ الكمان المنفرد باستهلال القص السردي المستمد من ليالي بغداد التي ولد وترعرع فيها، وينتمي إليها الباجه جي.

ما من مرة التقيناه فيها عبر لقاءاتنا المطولة لجمع ضوء وأصوات وألوان وأشكال هذه الذاكرة إلا وجدناه منشغلا بثلاثة أمور، أو ربما هي الأمور التي تشغله راهنا، العراق ومتابعة أخباره، إذ كان ينقطع الحديث ليرد على اتصال قادم من بغداد ليدخل خلاله في نقاش عما يجب أن يحدث أو سيحدث، والقراءة، فلا بد من كتاب مفتوح فوق حضنه ويزاح برفق، كما طفل وديع، إلى المكتب أو فوق الكرسي المجاور مؤجلا إتمام قراءته إلى وقت قريب، والأمر الثالث المهم جدا هو الموسيقى الكلاسيكية، «سماع الموسيقى الكلاسيكية والأوبرا من أولى أولوياتي»، يوضح الباجه جي.

نفتح من بين زحام الصور والأحداث والأصوات والتواريخ ثغرة هنا فتتوسع هناك لتتحول إلى غابة من الحكايات، تماما مثلما فعلت صورة، مجرد صورة كانت قد أظهرتها له الأميرة بديعة ذات يوم قريب. فقبل أكثر من عامين، كان عدنان الباجه جي على موعد لزيارة الأميرة بديعة، خالة الملك فيصل الثاني، وشقيقة الأمير عبد الإله، الذي كان وصيا على عرش العراق، ووالدة الأمير علي، رئيس الحركة الدستورية الملكية والذي كان يعمل قبل الإطاحة بنظام صدام حسين على استعادة عرش العراق، ثم انتهى به المطاف مرشحا للبرلمان ضمن قائمة الائتلاف الوطني التي يترأسها إبراهيم الجعفري. وبينما كان الباجه جي يتجاذب أطراف الحديث مع الأميرة بديعة، فاجأته بصورة قديمة تجمعه مع الأميرة والأمير عبد الإله، وسألته إذا كان يتذكر هذه الصورة أم لا، «كانت هذه المرة الأولى التي قابلت فيها عبد الإله قبل أن يكون وصيا على عرش ابن أخته الملك فيصل الثاني» يقول عدنان الباجه جي «حيث كنت مسافرا من الإسكندرية إلى إيطاليا بواسطة الباخرة، وبالمصادفة كان الأمير عبد الإله وشقيقته الأميرة بديعة على نفس الباخرة، وقبل أكثر من عامين زرت الأميرة بديعة هنا في لندن وقد عرضت لي صورة قديمة تجمعنا، الأميرة بديعة والأمير عبد الإله وأنا خلال لقائنا على ظهر الباخرة وسألتني إذا كنت أتذكر هذه الصورة أم لا»، هذه الصورة فتحت في ذاكرته نفقا قاده إلى تلك الأيام الخوالي، أيام وسنوات العلاقات الاجتماعية بين عائلته والعائلة المالكة، موضحا: «كانت تربطنا بهم علاقات اجتماعية، فوالدتي كانت تزورهم، ووالدي كان مقربا من الوصي على الرغم من أنه اختلف في ما بعد مع الملك والوصي لكننا بقينا مقربين من العائلة المالكة».

عدنان الذي كان قد قابل في طفولته الملك فيصل الأول، كان يقابل كذلك حفيده الملك فيصل الثاني والوصي عبد الإله: «كنت أقابلهم باعتباري عدنان الباجه جي، وهم كانوا يأخذون في الاعتبار كوني ابن مزاحم الباجه جي من جهة وكوني كنت موظفا في منصب رفيع، فقد كنت أطلب مقابلة الملك أو الوصي فتتم الموافقة».

كلما ورد ذكر اسم الوصي عبد الإله، ينبه الباجه جي إلى أن «الوصي كان حقودا» ودافعه الأخلاقي يدفعه للقول: «أنا لم أعرفه شخصيا أو عن قرب، لكنني كنت أسمع أنه كان حقودا ومنفعلا باستمرار، وهو سبب إعدام الضباط الأربعة الذين كانوا مع رشيد عالي الكيلاني، إذ أصر (الوصي) بالدرجة الأولى ثم الإنجليز على تنفيذ حكم الإعدام بهم، فبعد فشل حركة الكيلاني شكل جميل المدفعي الحكومة، وطلب الوصي منه محاكمة الكيلاني والضباط الأربعة والتنكيل بهم لكنه رفض وقدم استقالة حكومته، فجاء بعده نوري السعيد الذي يلام على موقفه من قضية إعدام الضباط إذ كان يجب عليه أن يعترض ويقف في وجه التنفيذ، لكنه (نوري) مشى معهم ونفذ ما يريدون». وحسب اعتقاد الباجه جي وساسة عراقيين آخرين فإن تنفيذ هذه الأحكام بحق شخصيات وطنية عراقية وقفت في وجه الاستعمار البريطاني «ولّد كراهية لدى العراقيين ضد الوصي والسعيد، وقد دفعوا حياتهم ثمنا لذلك يوم 14 يوليو تموز 1958».

في 25 مايو (أيار) 1941، وعلى أثر فشل الحركة الثورية التي قام بها الكيلاني مع ما سمي بضباط المربع الذهبي برئاسة العقيد صلاح الدين الصباغ وهم كل من فهمي سعيد ومحمود سليمان وكامل شبيب، ويونس السبعاوي، والتي أجبرت الوصي على الهروب من العراق إلى بريطانيا، غادر الكيلاني إلى ألمانيا عبر تركيا ومن ثم انتهى به المستقر في المملكة العربية السعودية، بينما هرب الضباط الأربعة إلى إيران، مما شجع الوصي على العودة إلى العراق إذ هبطت طائرته في قاعدة الحبانية الجوية (قرب مدينة الرمادي) التي كانت تابعة للقوات البريطانية ليبدأ فصل طويل من الانتقامات الدموية، إذ تم الحكم بالإعدام غيابيا على الكيلاني وكل من الصباغ وسعيد وسليمان وكامل شبيب.

وفي 4 مايو 1942، سلمت بريطانيا كلا من يونس السبعاوي ومحمود سلمان وفهمي سعيد إلى الحكومة العراقية بعد أن ألقت القبض عليهم في إيران، وشكلت محكمة عسكرية سريعة أعادت محاكمتهم في نفس اليوم أمام المجلس العرفي العسكري، الذي أيد الحكم السابق الصادر في حقهم، والقاضي بإعدامهم، ونُفّذ بهم الحكم في اليوم التالي المصادف 5 مايو 1942، بحضور عبد الإله ونوري السعيد.

ويقال إن والدة السبعاوي «ذهبت دون علم ولدها إلى والدة الوصي وتوسلت إليها لإنقاذ ابنها الوحيد من حبل المشتقة، إلا أن أم عبد الإله ردتها بكلمات تركية وبعصبية وخشونة، فوقفت أم السبعاوي بشموخ وإباء وارتدت عباءتها ورفعت يدها قبل أن تنصرف واتجهت ببصرها إلى السماء قائلة والعبرة تخنقها: (أسأل الله أن يكون مصير ولدك كمصير ولدي)».

كان الحزن يسيطر على العراقيين ذلك اليوم، وكان الحقد والغضب على حكومة نوري السعيد وعبد الإله والمحتلين البريطانيين يتطاير كالشرر من أعينهم، مما ألقى الرعب في نفوس أولئك القتلة لدرجة أن نوري السعيد لازم داره شهرا كاملا، خوفا من غضب الجماهير. وقد رثى الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي الضباط الثلاثة بقصيدة لاقت انتشارا واسعا بين الناس، وقد فوجئ الوصي بهذه القصيدة مدسوسة بين بريده الرسمي اليومي، وقرأها حتى بلغ الأبيات التي يقول فيها الشاعر:

* شنقوكمْ ليلاً على غير مهلٍ ـ ثم دسّوا جسومَكم في الرموس

* هكذا الخائف المريب يواري ـ فعلة السوء منه بالتغليس

* فاستحَقّوا اللعن الذي كررته ـ خاليات القرون في إبليس.

حتى امتقع وجهه ولم يستطع مواصلة قراءتها وثارت أعصابه وأمر بإجراء تحقيق عن كيفية تسلل هذه القصيدة إلى مكتبه ومعاقبة الموظفين عن ذلك بأقسى العقوبات.

بعد تنفيذ تلك الأحكام طلبت حكومة نوري السعيد من بريطانيا إعادة المعتقلين في جنوب أفريقيا والذين تم نفيهم من قبل البريطانيين وبينهم عدد من أعضاء وزارة الكيلاني التي سُميت بحكومة الإنقاذ الوطني، وأعيد في 16 أغسطس (آب) 1944 الحكم على شبيب بالإعدام من قِبل المجلس العرفي العسكري، ونفذ الحكم فيه في اليوم التالي من غير أدنى انتظار.

أما صلاح الدين الصباغ، فقد فرّ إلى تركيا، وبقي هناك حتى عام 1945، حيث سلمته الحكومة التركية، تحت الضغط الشديد من الحكومة البريطانية، إلى الحكومة العراقية، في أكتوبر (تشرين الأول) 1945، وجيء به إلى بغداد، وأمر الوصي عبد الإله بشنقه أمام وزارة الدفاع صباح يوم 16 أكتوبر، وبقي معلقا فوق مشنقته لعدة ساعات، وحضر الوصي لمشاهدته، والشماتة به.

يعتبر الباجه جي أن «أكبر الأخطاء التي ارتُكبت في العهد الملكي هو إعدام العقداء الأربعة (ضباط المربع الذهبي)، وقادة الحزب الشيوعي العراقي. بل إن أكبر خطأ يرتكبه الحكام هو إعدام الخصوم أو تصفيتهم بسبب أفكارهم السياسية، لأن ذلك سيرد عليهم، ولنأخذ حقائق ذلك بدءا بعبد الإله ونوري السعيد وعبد الكريم قاسم وحتى صدام حسين»، منبها إلى أن «الفترة الوحيدة في تاريخ العراق التي لم يتم خلالها إعدام أي شخص بسبب الأفكار السياسية هي فترة حكم العارفَين، الرئيسين العراقيين الأسبقين، عبد السلام وعبد الرحمن عارف، فمنذ أن قام عبد السلام عارف بإقصاء البعثيين عن الحكم في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) 1963، التي يسميها البعثيون بالردة التشرينية السوداء، وحتى سيطرة البعثيين على الحكم في 17 يوليو (تموز) 1978 لم يسجل إعدام أي عراقي لأسباب سياسية، لكن ذلك حدث في العهد الملكي وفي زمن عبد الكريم قاسم، وطبعا في عهد البعث وصدام حسين. في عهد العارفين كان هناك نوع من التساهل والتسامح، كما أن وجود شخصية سياسية قانونية مثل عبد الرحمن البزاز أثر كثيرا في هذا الموضوع».

ويسجل الباجه جي اعتراضاته على سياسة الوصي التي كانت تريد إبعاد العراق عن حاضنته العربية على العكس من سياسات وحرص الملك فيصل الأول ونجله الملك غازي، كما أن الأمير عبد الإله لم يعطِ الفرصة للملك فيصل الثاني بممارسة الحكم، إذ استمر وصيا عليه ومتنفذا حتى بعد أن بلغ الملك الثامنة عشرة من عمره وتم تتويجه دستوريا، يقول: «كان الوصي يتدخل كثيرا في شؤون الحكومة والبرلمان وحتى الانتخابات، بل إنه كان يسعى لدعم تشكيل حزب يكون قريبا من البلاط وتابعا له». ويعد، أيضا، «من أفدح أخطاء الوصي مسألة الاستمرار في الارتباط ببريطانيا من خلال المعاهدات أو حلف بغداد الذي أنشأته بريطانيا للوقوف بوجه المد الشيوعي في الشرق الأوسط خلال الخمسينات، وضم كل من العراق وبريطانيا وإيران وباكستان إلى جانب المملكة المتحدة، بعد العدوان الثلاثي على مصر أو تأييد أي عدوان على البلدان العربية».

ومثل الكثير من الوطنيين العراقيين الذين كانوا يعتبرون حلف بغداد تكوينا استعماريا، يرى الباجه جي أن «حلف بغداد كان يستهدف الاتحاد السوفياتي والوقوف في وجه المد الشيوعي»، موضحا أن «جون فوستر دالاس، وزير خارجية أميركا، في رئاسة إيزنهاور، كان يعتبر الشيوعية هي الخطر الأكبر، ويجب مكافحتها بكل الوسائل، لهذا أراد تطويق الاتحاد السوفياتي والصين بأحلاف مدعومة من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، فقد كان حلف الناتو موجودا في أوروبا، وهناك حلف شرق آسيا ضد الصين الشعبية، وحلف بغداد الذي سُمي بعد انسحاب العراق بالحلف المركزي (سنتو)، والظاهر أن نوري السعيد اقتنع بهذه الأفكار إذ كان يعتبر الشيوعية هي الخطر الأكبر على العراق، وهذه أحد أخطائه الكبيرة، وصار عنده هوس في موضوع الشيوعية مع أن الشيوعيين العراقيين لم يكونوا يشكلون خطرا عليه أو على العراق».

ويتذكر أن «دالاس كان قد زار بغداد. وقتذاك كنت أعمل في وزارة الخارجية، أي قبل سفري ثانية إلى واشنطن، وطلب مني وكيل وزارة الخارجية يوسف الكيلاني أن أكتب مذكرة باللغة الإنجليزية لتقديمها إلى دالاس وتتعلق بمطالب العراق حول قضية فلسطين، لم يكن عندنا أي شيء أو شاغل سوى هذه القضية، ولم تكن هناك أي مشكلة بين العراق وأميركا، بل إن علاقاتنا الثنائية كانت طبيعية، مشكلتنا الأساسية كانت فلسطين، والعراق كان يعتبر نفسه مسؤولا عنها، لهذا كان الأحرار الفلسطينيون يأتون دائما إلى العراق، وفي مقدمتهم المفتي».

وتأكيدا على ما ذكره الباجه جي، فإن «العراق خلال اجتماع للدول الإسلامية في ميثاق حلف بغداد في أنقرة، لم تحضره بريطانيا باعتباره كان مخصصا للدول لإسلامية فقط، ومثّل العراق فيه وزير الخارجية علي ممتاز نيابة عن رئيس الوزراء، ووكيل وزارة الخارجية يوسف الكيلاني، وأنا، وكانت غالبية الخطابات والأحاديث باللغة الإنجليزية، وأنا كنت المترجم، فقد كنت أترجم (بكيفي) مثلما أريد، يعني كنت أسترسل وأشرح من غير الخروج عن الفكرة الأساسية، وكان هدفنا الأساسي هو استمالة الدول الإسلامية، تركيا وباكستان وإيران، الذين كانوا حلفاء للأميركان والإنجليز، لاستخدام نفوذهم والضغط من أجل قضية فلسطين، وأتذكر جيدا نص حديثنا مع رئيس وزراء تركيا عدنان مندرس، الذي أُعدم إثر انقلاب عسكري أطاح به عام 1960، ومن حزب مندرس تفرعت كل الأحزاب التركية الإسلامية، وقد كان قد فاز في الانتخابات ضد حزب الشعب، حزب كمال أتاتورك».

في منتصف الخمسينات انشغلت الإدارة الأميركية وحتى بريطانيا بالخوف من المد الشيوعي في الدول العربية، وبخاصة في سورية، حسبما يكشف الباجه جي، إذ «كان موضوع سورية شاغل الأميركان عندما اكتشفوا أن النفوذ الشيوعي يزداد في هذا البلد، وكان يؤيدهم في هذه المخاوف كميل شمعون، رئيس لبنان. وفي عام 1957 قالوا إنه يجب أن يقوم حلف بغداد، بعمل ما لوقف هذا النفوذ (الشيوعي)، وكانت هناك فكرة لتدخل عسكري في سورية». ولكن كيف سيتم تمرير هذا المقترح أو القرار المبطن كمقترح على الحكومة العراقية التي كان يترأسها علي جودت الأيوبي حيث عرفت بمواقفها العروبية القومية، حتى إن «الأيوبي وقف الحملات الإذاعية ضد مصر وعبد الناصر، وأنهى هذه الإجراءات تعبيرا عن مواقفه القومية».

وتأكيدا لمواقف رئيس الوزراء العراقي، الأيوبي، يذكر الباجه جي هذه الحادثة التاريخية «فقد كان رئيس الوزراء الأيوبي في إسطنبول وقتذاك في زيارة مع الملك فيصل الثاني، والتقى هناك وكيل وزارة الخارجية الأميركية الذي طرح على الأيوبي مشروع التدخل العسكري من قِبل حلف بغداد في سورية، فرفض الأيوبي هذا المشروع وقال له (ما دمت أنا رئيسا لوزراء العراق فسأرفض أي تدخل عراقي في الشأن الداخلي السوري)».

لم يكتفِ رئيس الوزراء العراقي بما أظهره من موقف عربي شجاع وبما أبلغ به نائب وزير الخارجية الأميركي، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، «فعندما عاد الأيوبي عن طريق البحر من إسطنبول إلى بيروت ذهب من هناك عن طريق البر إلى الشام (دمشق)، والتقى رئيس الجمهورية السورية شكري القوتلي، الذي كان من الرعيل الأول من القوميين العرب وعضو في جمعية الفتاة العربية، وكدعم من العراق لسورية، صرح الأيوبي من دمشق قائلا: (إذا حدث أي تدخل عسكري في سورية فإن العراق لن يقف مكتوف اليد)، وبالتأكيد كان هذا الموقف الواضح قد أغضب الأميركان كثيرا، لهذا طلبوا من عبد الإله الذي كان لا يزال يسيطر على العرش على الرغم من انتهاء وصايته ووجود الملك فعليا، إزاحة الأيوبي عن رئاسة الوزراء».

يتذكر الباجه جي قصة تعبر عن مدى نزاهة رئيس الوزراء العراقي والحكومة وقتذاك: «فعندما عاد الأيوبي من إسطنبول إلى بيروت لم يذهب إلى بغداد كما هو مقرر في جدول زيارته الرسمية بل قرر الذهاب إلى دمشق، كما ذكرت، لهذا طلب من السفارة العراقية في لبنان تأجير سيارة لتقله إلى الشام، وهذا ما حصل، ومن هناك عاد إلى بغداد، بعد فترة قصيرة من عودته وصله إشعار من وزارة المالية بقطع عشرة دنانير من راتبه الشهري وهي بدل إيجار السيارة التي أقلته من بيروت إلى دمشق باعتبار أنه موفد من بغداد إلى بيروت ثم إلى إسطنبول وبالعكس، ولم يكن في جدول الإيفاد الرسمي ما يشير إلى رحلته إلى دمشق، وبالفعل دفع المبلغ بلا أي نقاش».

وكدليل قوي على تدخل عبد الإله في شؤون الحكومة، وهو تدخل غير دستوري وكان مدعوما من قِبل البريطانيين، وعلى الرغم من وجود ملك دستوري للبلد فإنه «بعد عودة الأيوبي عمل على إجراء انتخابات واقترح على عبد الإله إشراك المعارضة في الحكومة ليكون هناك نوع من الانفتاح وإشراك قوى وطنية أخرى، لم يوافق الوصي على ذلك، لهذا قدّم الأيوبي استقالته».

ولنا أن لا نتخيل أن تعامل الحكومة مع عدنان الباجه جي، نجل رئيس الوزراء الأسبق مزاحم الباجه جي والمعارض وقتذاك، وصهر رئيس الوزراء علي جودت الأيوبي والذي كان قد قدم استقالته توا، قد تغيرت سلبا، بل العكس، فقد كانت هناك قيم وظيفية ومبادئ أخلاقية تحترم الكفاءات والعاملين حسب عطائهم، وهذا ما يوضحه بنفسه: «بقيت في ديوان رئاسة الوزراء شهرين ثم سقطت الوزارة بعد أن قدم الأيوبي استقالته وجاءت وزارة عبد الوهاب مرجان فتم أعادتي إلى وزارة الخارجية وعينت مديرا عاما لدائرة العلاقات الدولية ولم تغير الحكومة التعامل معي على الإطلاق، كانت هناك قيم واحترام وأصول ومبادئ، وليس مثل ما يحدث اليوم من انتهاج سياسة كسر العظم والإقصاءات».

وكان رئيس الوزراء يتصرف في الشارع وبين الناس باعتباره مواطنا اعتياديا «لا فخفخة ولا حمايات» مثلما يذكر نجل وصهر رئيسين سابقين للوزراء، والناس كانوا يتعاملون معه باحترام لشخصه لا لمنصبه، يقول: «لم تكن لرئيس الوزراء حماية باستثناء شرطي يجلس قرب السائق عندما يخرج رئيس الوزراء من مكتبه، وغالبا ما كان رئيس الوزراء يطلب من الشرطي البقاء وعدم مرافقته.كان هناك مرافق عسكري برتبة ضابط أحيانا يرافق رئيس الوزراء، والتنقل كان يتم بسيارته الخاصة لا بسيارة الحكومة، كما أنه لم تكن هناك سيارة ترافقه سواء أمام سيارته أو خلفها، كانت المظاهر الحكومية تتسم بالبساطة. أذكر لكم حادثة كتبت عنها الصحف وقتذاك، حيث كان والدي والأيوبي رئيسَي وزراء سابقين، وكانا غالبا ما يتمشيان في شارع الرشيد للتسوق، ويذهبان إلى بقال لشراء الفواكه وبقية المواد بلا حماية وبين الناس. بغداد كانت آمنة والناس بسطاء وطيبين».

وفي إطار مقارنة غير مخطط لها، يذكر الباجه جي أن «راتب رئيس الوزراء كان وقتذاك 120 دينارا شهريا، وكانت هناك مخصصات سرية بسيطة وخاضعة للرقابة، واي فلس يتم صرفه يجب أن تكون له وصولات وتسجيل، لا توجد مقارنة بين أوضاع ذاك الزمن والآن، فبالإضافة إلى الرواتب الضخمة للغاية التي يتقاضاها رئيس الوزراء اليوم فإن تحت تصرفه الشخصي ملايين الدولارات وضعت في الميزانية تحت بند (المنافع الاجتماعية) ولا أحد يسأل عن مصير هذه الملايين وكيف يتم صرفها وإلى أين تذهب. المسؤولون في الحكومة اليوم كانوا قبل فترة بسيطة لا يملكون أي شيء، واليوم يملكون العقارات في كل مكان ويشترون القصور بملايين الدولارات».

«طبعا، جلبتها معي من أميركا وكانت (بونتياك)، كان لونها رصاصيا وسيارة اعتيادية وقت ذاك، فحسب القانون كان من حقي - ومن حق أي موظف يعمل في الخارج - أن أجلب معي سيارة من البلد الذي كنت أعمل فيه، أما أول سيارة اشتريتها عام 1946 في واشنطن وبعد زواجي فكان نوعها (ستودي بيكر)، ثم اشتريت سيارة (فورد)، وعندما انتهى عملي قنصلا في الإسكندرية أخذت معي إلى بغداد (بيوك كونفرتبل)».

ويدفع الباجه جي عن نفسه الاتهامات التي كانت تصفه بالمُعادي للحكم الملكي وبأنه كان يؤيد قيام حكم جمهوري: «لا، لا، أنا ما عندي ميول جمهورية مثلما يقال، على الرغم من أن والدي كان يتمتع بهذه الميول، بل إنهم اتهموه (مزاحم الباجه جي) بأن ميوله اشتراكية، وأنا لا أعتقد ذلك، وعندما كان رئيسا للبعثة الدبلوماسية للعراق في لندن خلال العشرينات كان عضو شرف في حزب العمال البريطاني».

ويعبّر عدنان عن تصوراته السابقة، وحتى اللاحقة، عن الحكم في العراق قائلا: «أنا كنت أتصور أن يكون في العراق نظام ملكي دستوري وأن يكون نفوذ الملك محدودا وأن تتشكل الحكومات بعد فوز أحزابها بالانتخابات، ربما كان هذا نوعا من التفاؤل في غير محله (يضحك)، وحتى اليوم أنا لا أجد أي خيار للعراق والعراقيين سوى الديمقراطية على الرغم من مشكلاتها وكونها تشكل مجازفة فالشعب ليس دائما أو شرطا أن يختار الأكثر صلاحية، بل على العكس في كثير من الأحيان يختار الأسوأ». لكنه ما كان يتخيل في يوم من الأيام أن يصل العراق إلى ما وصل إليه اليوم: «لا، لا، ما وصل إليه العراق من أوضاع اليوم لا يصدَّق، خبرتي وتجربتي في العراق لم تجعلني أتصور أو أتخيل السوء الذي وصل إليه وضع الحكم في العراق اليوم وما يحدث على الإطلاق».