ذاكرة العراق .. عدنان الباجه جي (الحلقة 6) : الباجه جي: مشكلاتنا مع إيران عويصة.. وهي مصدر متاعب للعراق

بريطانيا ودول الحلفاء ظلمت العراق عند تأسيسه بحرمانه من منفذ بحري

عدنان الباجه جي مع أحمد الشقيري في الأمم المتحدة («الشرق الأوسط»)
TT

كانت المسافات تمتد أمامه سهلة، لكنه كان يجيد الإسراع لبلوغ أهدافه، يملك المفاتيح السرية للأبواب الأكثر انغلاقا، فيجد المتعة بفتحها والعبور إلى الداخل.. مفاتيحه السرية لم تكن سوى كفاءته وجديته في العمل ومواصلته بالمضي دون كلل أو يأس أو تراجع.

أبواب الأمم المتحدة كانت الأكثر تعقيدا وصعوبة، لهذا أحبها، وإذا كان عمله في بداية شبابه، وفي أول وظيفة له في وزارة الخارجية كمستشار ثالث في السفارة العراقية في واشنطن، النهر الذي عبر من خلاله نحو الضفة الأخرى، أميركا، فإن العمل في الأمم المتحدة، بين أروقتها ولجانها وممثلي كل دول العالم، كان بمثابة البحر الذي شق عبابه على مدى ما يقرب من 20 عاما.

كان عمره لا يزيد على الثالثة والعشرين عندما دخل إلى عالم الأمم المتحدة، يشرح موضحا: «حين توليت عملي في شعبة الأمم المتحدة في وزارة الخارجية في بغداد كان مما لفت انتباهي المواضيع الكثيرة المتشعبة التي تبحث في هذه المنظمة الدولية وهيئاتها الرئيسية ووكالاتها المتخصصة ولجانها الكثيرة، ولم يكن من السهل استيعابها والإلمام بها».

كان الباجه جي على موعد مع اكتشافات جديدة، اكتشاف مدينة ساحرة أخرى، واكتشاف طاقاته في العمل، وهذه المرة كانت باريس، المدينة التي ستسحره «عينت عضوا مناوبا في الوفد العراقي إلى الدورة السادسة للجمعية العامة للأمم المتحدة التي التأمت في باريس من 6 نوفمبر (تشرين الثاني) 1951، وحتى أواسط فبراير(شباط) 1952.

كان رئيس الوفد وزير الخارجية، فاضل الجمالي، وباريس استهوتني، حيث سافرت إليها وحدي (يضحك) يعني ليس مع زوجتي، وكنت شابا وعمري 28 سنة، كانت الأشهر الثلاثة التي قضيتها في باريس لا تنسى، إذ تم تنسيبي إلى اللجنة الخامسة التي تنظر في أمور ميزانية الأمم المتحدة والمسائل الإدارية، ويعتبر العمل في هذه اللجنة مملا، إلا أنني تعلمت الكثير عن المنظمة الدولية وطريقة عملها. ووقتذاك لم يكن هناك أي فساد مالي في هذه المنظمة الدولية، بل على العكس كانت موصوفة بالنزاهة، لكنها عندما توسعت وكثر عدد الموظفين صار من الصعب مراقبة كل واحد، والفساد المالي الحقيقي بدأ عندما وضعت تحت تصرفهم أموالا ضخمة هي واردات النفط العراقي ضمن برنامج النفط مقابل الغذاء».

المدن مثل النساء، لا أدري أن كان عدنان الباجه جي قد أورد هذا الوصف، أم أن أسلوب حديثه عن المدن هو الذي أوحى لي بهذا التشبيه، فهناك مدن تحبها، وتعشقها، وتتآلف معها وتكتشف أسرارها من دون عناء كبير، ومدن أخرى تشعر بأنك غريب بها مهما عشت فيها. بغداد هي الأم للباجه جي، هي التي ولدته وحنت عليه وترعرع في أحضانها، أما واشنطن فبقيت بمثابة الصديقة التي يختلف معها أحيانا، بل في أحايين كثيرة، وباريس عشيقة سريعة لا ينسى جمالها وعطرها وألوان أزيائها، لكن المدينة التي أغرم بها ووقع بحبها هي نيويورك التي ما إن يتركها حتى يعود إليها، ولكثرة ما يتحدث عنها ويتغزل في حضارتها، تتخيل صدى صوت المغني الأميركي فرانك سانترا يتردد في المكان وهو يغني «نيويورك.. نيويورك»، يقول: «في الدورة السابعة للجمعية العامة التي انعقدت في بناية المقر الجديد على ضفة النهر الشرقي في نيويورك واستمر عملها من أكتوبر (تشرين الأول) إلى ديسمبر (كانون الأول) 1952، نسبت مرة أخرى للعمل في اللجنة الخامسة، في هذه المرة كان إسهامي أكثر طموحا وازدادت ثقتي في نفسي. كانت تلك إقامتي الأولى الطويلة في نيويورك وهي كانت، وربما لم تزل، أكثر المدن المثيرة في العالم. وسرعان ما سحرتني هذه المدينة. ومنذ ذلك الوقت ارتبطت بالأمم المتحدة، أحببت العمل فيها، وفضلت العمل مع دبلوماسية متعددة الأطراف، أكثر من العمل مع دبلوماسية ثنائية، مع دولة واحدة، وبالفعل هناك عشت وعملت وشاهدت كل العالم الذي كان معي وأمامي وحولي، وعشت كل قضايا العالم، من أفريقية إلى آسيوية إلى أوروبية ومشكلات الحرب الباردة والقضايا العربية. وأخذت منذ ذلك الحين أحتضن في صدري طموحا خفيا بأنني سأغدو ذات يوم ممثل العراق الدائم لدى الأمم المتحدة».

ويتحدث بشغف بالغ عن عمله «كانت من أهم القضايا التي بحثت هي قضية فلسطين، ومسألة تونس، والمغرب التي كانت تحت الاستعمار الفرنسي، ومن مشكلات العالم كانت هناك قضية كوريا، والمشكلات بين باكستان وأفغانستان، وقد استهواني العمل جدا هناك، وصرت أشارك في الاجتماعات سنويا حتى عام 1953، إذ تم تعييني في الأمم المتحدة، وأبرز القضايا عملت فيها بعد ميزانية الأمم المتحدة هي قضايا الاستعمار، حيث كان لي دور مهم جدا في هذه اللجنة. وفي يونيو (حزيران) 1953 نقلت للمرة الثانية إلى السفارة العراقية في واشنطن بناء على طلب السفير الجديد، موسى الشابندر. وشغلت منصبي هذا في أواسط أغسطس (آب)، ولم تمض سوى 4 أسابيع حتى غادرت عضوا في الوفد العراقي إلى الدورة الاعتيادية الثامنة للجمعية العامة التي عقدت من سبتمبر (أيلول) وحتى ديسمبر (كانون الأول) 1953، فبالإضافة إلى عملي في اللجنة الخامسة (الميزانية) أسند إلي تمثيل العراق في اللجنة الرابعة التي تنظر في مسائل الوصاية والمستعمرات».

تتلمذ الباجه جي على مبادئ والده وأبناء جيله من الوطنيين المناهضين للاستعمار، وعرف لوعة ومعاناة أن يكون الشعب، أي شعب، تحت نير الاستعمار، لهذا أحب العمل في هذه اللجنة (الرابعة) وتفانى من أجل مساعدة الشعوب المستعمرة، حتى أنه يصف اللجنة الرابعة، بقوله: «كانت هذه اللجنة ذات حيوية وأهمية خاصة للشعوب الرازحة تحت الاستعمار، وقد أحببت العمل في هذه اللجنة التي مثلت العراق فيها منذ عام 1955، ولجنة أخرى اسمها البلاد غير المتمتعة بالحكم الذاتي، وعندما تصديت لقضايا الاستعمار والتحرر كسبت سمعة طيبة، فبموجب ميثاق الأمم المتحدة كان على الدول التي تستعمر بلدانا أخرى، أن تقدم سنويا تقارير اقتصادية واجتماعية وثقافية عن هذه الدول، وهذه اللجنة تدرس التقارير وتقيمها وتحيلها إلى اللجنة الرابعة التي بدورها تقوم بدراستها وتقديم التوصيات إلى الجمعية العامة لاتخاذ القرارات على ضوئها. وفي عام 1959 أصبحت المندوب الدائم للعراق لدى الأمم المتحدة، حيث كان العام الذي يليه 1960 مهما حيث قدم نيكيتا خروشوف، الزعيم السوفياتي، للأمم المتحدة مشروعه لإصدار بيان يمنح الاستقلال للدول الخاضعة للاستعمار، وكان لي إسهام فاعل في صياغة هذا البيان الذي بموجبه شكلت المنظمة الدولية لجنة (تصفية الاستعمار) وصار العراق عضوا فيها، وقد حاولت بعثة المملكة المتحدة عرقلة عضويتنا في هذه اللجنة ولم يستطيعوا، كما بذلوا جهودا حثيثة لعرقلة رئاستي اللجنة الرابعة وفشلوا في ذلك، وهناك تقارير من بعثتهم إلى وزارة الخارجية وبالعكس وتمكنت من قراءة هذه التقارير بعد الكشف عنها قانونيا، وسبب محاولاتهم هذه لأنني كنت من أشد المناهضين للاستعمار، حسبما وصفوني في تقاريرهم».

ويعتبر الباجه جي اعتراض الدول الاستعمارية على ترشيحه رئيسا للجنة تصفية الاستعمار، وفي مقدمتها بريطانيا، خير شهادة على نجاحه في عمله، ونستل مقتطفات من الوثائق البريطانية السرية التي تحررت من سريتها عام 1991 رسالة بعثة المملكة المتحدة في الأمم المتحدة إلى وزارة الخارجية البريطانية في 2 فبراير (شباط) 1960، جاء فيها:

«ليس من السهل قبول ترشيح السيد الباجه جي. إنه من أشد خصومنا البارزين بشأن قضايا الاستعمار. وهو سريع البديهة وقدير، وله معرفة واسعة بمسائل الإجراءات. وفي حين أن من المهم على وجه الخصوص للجنة الرابعة أن يكون رئيسها كفؤا، (وسيكون السيد الباجه جي كذلك)، فإن من المرغوب فيه كذلك أن يكون هذا الرئيس شخصا لا يشعر بأنه ملزم بأن يقرر ضدنا في أمور قد تعرض على اللجنة، ولها علاقة باختصاصها. فمن وجهة النظر هذه نفضل - نحن - أن يشغل رئاسة اللجنة هذه أحد ممثلي الأقطار اللاتينية الجيدين، أو من أقطار أوروبا الغربية غير الاستعمارية. لكنني أخشى أن يكون السيد الباجه جي قد حصن وضعه الآن كثيرا وأن فرص إبداله بغيره ليست جيدة».

بعد أكثر من 10 أيام يكون رد وزارة الخارجية البريطانية، وفي محضر اجتماع عقد في مقر الوزارة في لندن في 13 فبراير (شباط) 1960، ما يلي:

«على الرغم من التعليق المتشائم الوارد من بعثتنا في نيويورك ومفاده أن فرص إبدال السيد الباجه جي بغيره ليست جيدة، فأنا أرى أن هذا هو ما يجب أن نقوم به وعلينا أن نبدأ محاولاتنا سريعا».

وتؤكد هذه المراسلات بين بعثة بريطانيا في الأمم المتحدة ووزارة خارجيتها انشغال إدارة المملكة المتحدة، التي كانت من أكثر الدول استعمارا للشعوب الأخرى، بموضوع إزاحة الباجه جي عن اللجنة الرابعة، حتى وإن كان ذلك عن طريق المؤامرة، كما تكشف عنه الرسالة المؤرخة 18 مارس (آذار) 1960، والمرسلة من بعثة بريطانيا في نيويورك إلى وزارة خارجيتها، «نحن نكره مبدئيا أن يتولى اللجنة الرابعة شخص مناهض للاستعمار بشكل مسعور كالباجه جي. إن مستر هود (أستراليا) يؤيد بحرارة معارضتنا له. وإذا وجدنا فرصة لتشجيع منافس مقبول للباجه جي من وراء الستار فسوف نغتنمها».

ومثلما وجدت بريطانيا في الباجه جي معارضا ندا لسياساتها الاستعمارية، فإنه هو الآخر يحمل هذه الدولة العظمى التي احتلت العراق، الكثير من الأخطاء التي ارتكبتها في حق بلده، ومن خلال استعراضه الموجز لتاريخ السياسة الخارجية للعراق يجد أن «بريطانيا ودول الحلفاء قد ظلموا العراق بحرمانه من منفذ بحري». يقول: «منذ بداية تأسيس الدولة العراقية كانت السياسة العراقية تأخذ مظهرين، الأول علاقاتنا مع دول الجوار، فالحدود الحالية رسمت من قبل بريطانيا ودول الحلفاء، وهذه الحدود حرمت العراق من أي منفذ بحري، وكانت هناك مشكلات مع دول الجوار، تركيا بقيت فترة طويلة تطالب بالموصل، وإيران لم تعترف بالدولة العراقية، وبررت ذلك بأن حدودهم مع العراق تحتاج إلى اتفاق خاص، والفرنسيون كانوا يحرضون الآثوريين (التيارية) حسبما كانوا يسمونهم، وهؤلاء في الحقيقة لا ينتمون إلى الآشوريين القدماء مثلما يدعون اليوم، بل هم جاءوا كلهم من المنطقة الشرقية من الأناضول، تركيا، هربا من المذابح التي تعرضوا لها مع الأرمن على يد الأتراك في الحرب العالمية الأولى، ووجودهم في العراق قريب، وليس منذ زمن بعيد، وكان اسمهم هناك (تيارية) وسكنوا القسم الشمالي من العراق لقربه من تركيا ولوجود أعداد من المسيحيين هناك، فاحتضنهم البريطانيون ودربوا قسما منهم، لكن الفرنسيين الذين كانوا يحكمون سورية ولبنان كانوا يحرضونهم دائما ضد الحكومة العراقية ويمدونهم بالأسلحة».

يتأمل الباجه جي في مخيلته الصورية خريطة العراق جيدا، ويعبر عن اعتقاده الجازم بأن «مسألة حرمان العراق من المنفذ البحري كانت وما زالت مهمة، فليس هناك سوى شط العرب الذي يحتاج إلى أعمال حفر مستمرة، وغاطسه لا يسمح للبواخر الكبيرة بالدخول إليه، وإيران تدعي بأن حدودها مع العراق هي في منتصف شط العرب، بينما المعاهدة التي وقع عليها العراق وإيران سنة 1937 تنص على أن حدود إيران هي الضفة الشرقية للشط، ما عدا المنطقة التي أمام مدينتي عبادان والمحمرة. إيران كانت دائما تعرقل موضوع حفر شط العرب وتتسبب بمتاعب لنا».

ويرى الباجة جي بأن «مشكلاتنا مع إيران عويصة. إيران كانت وما زالت مصدر متاعب للعراق والعراقيين، وسواء كان الحاكم في إيران صفوي أو قاجاري أو شاهنشاهي (بهلوي)، أو خميني، واليوم خاتمي، فهم يعتبرون أنفسهم حماة الشيعة في العراق، مع أن شيعة العراق عرب وإيران تعتبر المذهب الشيعي أهم من عروبة والانتماء القومي لشيعة العراق».

ويذكر الباجه جي قصة موثقة تؤكد ما ذهب إليه من رأي حول إيران والشيعة، يقول: «في الوثائق البريطانية التي أفرج عنها، قرأت تقريرا من السفير البريطاني في العراق إلى وزارة خارجيته سنة 1966، حيث كان ناجي طالب رئيسا لوزراء العراق، وأنا وزير الخارجية، يقول فيه: (التقيت في بغداد بالسفير الإيراني لدى العراق، واسمه بيراسته، الذي يشكو من التوجهات العربية القومية للحكومة العراقية وأن توجهاتها ناصرية)، حيث قال له السفير الإيراني: (أنا قابلت رئيس الحكومة العراقية ناجي طالب وقلت له أنت لماذا تؤيد القومية العربية والاتجاه الناصري.. وأنت شيعي)، فرد عليه طالب قائلا: (نعم أنا شيعي لكنني عراقي وعربي ولست إيرانيا)، وهذا تفكير حكام إيران على الدوام، وحتى اليوم، إذ يعتقدون أن ولاء شيعة العراق يجب أن يكون للمذهب وبالتالي لإيران. هذا الاعتقاد يضيف مشكلة إلى مشكلات المياه والحدود، حيث قطعوا الآن مياه نهر الكارون عن العراق، ويتدخلون بشكل سافر في الشؤون الداخلية، والآن أصبح هذا التدخل واضحا وقويا ومؤثرا بسبب ضعف الدولة».

ويؤشر بوضوح إلى أن «المشكلة الكبيرة الأخرى هي موضوع حصة العراق من مياه نهر الفرات الذي ينبع من تركيا، فالعراق لم يأخذ حصته المقررة قانونيا، بينما حياة ملايين العراقيين تعتمد على مياه دجلة والفرات، وعندما كنت وزيرا للخارجية عام 1966، وخلال مفاوضاتي مع الأتراك حول حصتنا من مياه الفرات تمسكت بمبدأ في القانون الدولي وهو الحقوق التاريخية المكتسبة، وحقوقنا التاريخية أقدم من الآخرين، إذ إن أول حضارة مدنية نشأت على حوض الفرات كانت في العراق وحقوقنا المكتسبة إذن راسخة، وأنا جعلت الأتراك يوافقون على التفاوض معنا وفق هذا المبدأ، وهذا ما جعل السفير البريطاني يكتب وقتذاك لحكومته قائلا: (إن موافقة تركيا على التفاوض مع العراق حول حصتهم من مياه نهر الفرات يعتبر انتصارا لدبلوماسية الباجه جي). لكن مشكلتنا مع تركيا لا تزال مستمرة، فهناك مشكلة مياه نهر الفرات حيث أقامت عليه السدود، وهذه قضية خطيرة تهدد حياة الشعب العراقي ويجب معالجتها، كما أنها كانت تطالب باستمرار بضم ولاية الموصل، غير هذا فإنها كانت تتحجج بمحاولاتها لردع الثورة الكردية لتتدخل في الشأن العراقي وتدخل الأراضي العراقية، والآن صار تدخلهم سافرا».

ويفخر الباجه جي بجانب مهم من ممارسة العراق في السياسة الخارجية، وهو «دعم وتأييد العراق لحركات التحرر العربية، كون العراق تأسس باعتباره دولة عربية قومية وجزءا من الأمة العربية، وكان يعتبر نفسه مسؤولا عن دعم حركات التحرر العربية، على الرغم من وجود الأكراد كقومية ثانية لهم حقوق تعترف بها الحكومة، والعراق الدولة الوحيدة في المنطقة الذي يعترف بحقوق الأكراد على العكس من تركيا وإيران وسورية، فهم جزء مهم من شعبنا وهذا حقهم. لهذا كانت الدولة العراقية تدافع عن فلسطين منذ 1936، وكذلك الجزائر والمغرب ولبنان وسورية والجنوب العربي، وأي أمر كان يحصل لأي بلد عربي، فقد كان العراق يبادر إلى الدعم والمساعدة، بغض النظر عن تغيير أنظمة الحكم في بغداد، كما كنا ندعم ونؤيد قضايا التحرر العربي من خلال منابر الأمم المتحدة».

وفيما يتعلق بعلاقات العراق مع دول العالم، يوضح «لنبدأ بالاتحاد السوفياتي، وقتذاك، فعلينا أن نعترف بأن السوفيات كانوا دائما يؤيدون قضايا التحرر العربي، ويدعمون قضايانا، نحن يجب أن نعترف بذلك، مع أني شخصيا أرفض الشيوعية كمبدأ وكوسيلة للتقدم الاقتصادي. ومع أن الشيوعية انتهت في العالم إلا أنني أستغرب من تمسك الحزب الشيوعي العراقي بهذه التسمية مع أنني أعتقد أنه لم يعد الآن لهذا الحزب أي معنى، ولو أنهم يفعلون مثلما فعل الشيوعيون في أوروبا الشرقية، حيث غيروا أسماء أحزابهم وأفكارهم وممارساتهم. وإذا كانت الشيوعية تعني نشر العدل وتحقيق المساواة فإن ما شاهدناه من ممارسات في الاتحاد السوفياتي كان غير ذلك تماما، بل كانت ممارساتهم فاشلة».

ويعتبر الباجه جي أن «مشكلتنا مع الولايات المتحدة كانت بسبب قضية فلسطين ودعم الإدارة الأميركية لإسرائيل، والآن صارت هناك قضية أخرى وهي دخولهم العراق». وتأكيدا على العلاقات الطيبة التي كانت تربط بين أميركا والعراق في السابق، يذكر «عندما كنت أعمل للمرة الثانية في السفارة العراقية في واشنطن، تم تعيين السفير الشابندر وزيرا للخارجية وصار هاشم خليل القائم بالأعمال، وتلقت السفارة اتصالا هاتفيا من وزارة الخارجية الأميركية يطلبون القائم بالأعمال لمقابلة الوزير دالاس، وكان هذا شيئا نادرا جدا، فوزير الخارجية الأميركية لم يكن يقابل أي سفير، بل مساعديه، هم من يقابلون السفراء، لكن دالاس طلبه بنفسه، مع أن خليل كان قائما بالأعمال، وليس سفيرا، فطلب مني القائم بالأعمال مرافقته كون لغته الإنجليزية كانت ضعيفة. ذهبنا إلى الخارجية واستقبلنا دالاس بنفسه، وقال: (أنا طلبت مقابلتكما لأبلغكما شكر الحكومة الأميركية لموقف الدكتور فاضل الجمالي، وزير خارجية سابق، في مؤتمر بأن دونغ، للدول الأفريقية والآسيوية الذي عقد في أبريل (نيسان) 1955، حيث دافع الجمالي عن حق أي دولة في الدخول لأي حلف تراه مناسبا لمصلحتها، ووقف ضد موضوع الحياد، كما أشكره لموقفه القوي والثابت الذي تحدث فيه ضد الصين الشعبية)، حيث لم تكن الصين آنذاك عضوا في الأمم المتحدة، وبقيت أميركا تقف ضد الاعتراف بها لأكثر من 25 سنة، وكان الرئيس جمال عبد الناصر أول من اعترف بها من الدول العربية عام 1956 ثم العراق عام 1958».